كشفت دراسة جديدة كيف تحوّلت حمى الذهب التي اجتاحت مصر القديمة إلى طفرة مربحة ساهمت في بناء ثروات الإمبراطورية وقوتها، بقيادة عالم الآثار لي بيتيناي، تتبع الباحثون أصول نظام تعدين الذهب في مصر القديمة، وهو النظام الذي حوّل صحاري النوبة ووديانها إلى أغنى مصادر المعادن النفيسة في العالم القديم، وفقا لما نشره موقع greekreporter.
الدراسة المنشورة في مجلة العلوم الأثرية تفند الآراء السائدة منذ زمن طويل حول محدودية إنتاج الذهب في مصر القديمة، وأن معظمه كان من عروق الصخور الصلبة، بل تُجادل الدراسة بأن استخراج الذهب من مجاري الأنهار والجداول الصحراوية كان أكثر أهمية بكثير مما كان يُعتقد سابقًا.
وباستخدام نماذج كمية جديدة، أظهر الفريق أن هذه الأساليب البسيطة كان من الممكن أن تحقق أرباحًا هائلة، وتحويل النوبة إلى قوة تعدينية للفراعنة.
إعادة زيارة حقول الذهب المفقودة في النوبة
لعقود، قدّر العلماء أن مصر الفرعونية أنتجت حوالي 18 طنًا من الذهب، مع كميات محدودة من رواسب الغرينية، يُشكك فريق بيتيناي في هذا، مُشيرًا إلى أن الرقم قد يكون أعلى بكثير، يُركز تحليلهم على تضاريس النوبة الشاسعة الغنية بالذهب - حوالي 250 ألف كيلومتر مربع - حيث حمل النيل والوديان الجافة آثارًا من الذهب عبر الصحراء.
بمقارنة أربعة نماذج تعدين مختلفة، قيّم الباحثون كيفية استخراج العمال القدماء للمعدن ومعالجته، وشمل ذلك تعدين الخامات المعدنية، واستخراج المعادن من الوديان، وتعدين رواسب النيل الغرينية، وتعدين الفتات الرسوبي، أخذت النماذج في الاعتبار القوى العاملة، ووقت السفر، ودرجة جودة الخام، والخسائر في المعالجة، ثم حسبت الربحية من حيث الذهب المسترد مقابل العمل المستثمر.
تشير النتائج إلى أن التعدين الغريني على طول نهر النيل والقنوات الصحراوية المجاورة حقق أعلى العوائد، بينما تطلب التعدين العميق للرواسب الصخرية والفتاتية قوى عاملة أكبر وحقق عوائد أقل، حتى مع استخدام أدوات بدائية، كان من الممكن أن يكون التعدين قرب نهر النيل فعالاً ومربحاً بشكل ملحوظ في ذلك الوقت.
نمذجة اقتصاد الإمبراطورية الذهبية
تكشف نماذج الدراسة تفاصيل مذهلة عن الجوانب الاقتصادية للتعدين القديم. فبالنسبة لفريق نموذجي مكون من 50 شخصًا، تراوحت عوائد الاستثمار بين 77% و124%، حسب الطريقة. وقد حقق السيناريو الأكثر نجاحًا - وهو التعدين الغريني في الوديان الضحلة - أعلى إنتاج يومي من الذهب لكل عامل.
استفادت هذه العمليات من انخفاض تكاليف العمالة، إذ كانت الأجور في عصر الدولة الحديثة تُقاس بالحبوب، ولم تكن تُمثل سوى جزء ضئيل من قيمة الذهب، وهذا جعل حتى الغلات المتواضعة مربحة. ويقدر الباحثون أن حملةً مثمرةً كانت تُنتج مئات الجرامات من الذهب لكل بعثة، وهي كميةٌ كبيرةٌ عند مقارنتها بمئات فرق التعدين.
وتدعم الأدلة التاريخية هذه النماذج، تُظهر روايات عمال المناجم الحرفيين المعاصرين على طول نهر النيل عائدات يومية مماثلة، مما يشير إلى أن تقنيات العصر البرونزي كانت واقعية وفعالة.
ويشير بيتيناي إلى أنه على عكس المناجم الحديثة واسعة النطاق، اعتمد عمال المناجم الأوائل في مصر على القوى العاملة، لا الآلات ومع ذلك، فإن عوائدهم الاقتصادية قد تُضاهي العمليات الصناعية الصغيرة اليوم عند تعديلها وفقًا للقيمة.
تحولات الحظوظ والإرث الدائم
تربط الورقة البحثية أيضًا القوة السياسية لمصر بسيطرتها على مناجم الذهب في النوبة، قبل عام 1100 قبل الميلاد، كان الذهب في مصر وفيرًا لدرجة أن قيمته كانت تُقدر بثلث سعر الفضة فقط. ولكن بعد أن فقدت مصر سيطرتها على النوبة، أصبح الذهب نادرًا، وتضاعفت قيمته ثلاث مرات بحلول عام 960 قبل الميلاد، يفسر الباحثون هذا كدليل واضح على أن ازدهار الإمبراطورية كان يعتمد على مخزون الذهب النوبي.
وتشير النتائج أيضًا إلى أن عمال المناجم القدماء كانوا بارعين في فهم الربحية، حتى وإن لم يحسبوها كما يحسبها الاقتصاديون المعاصرون، فقد نظموا البعثات، وحسّنوا العمالة، واختاروا مواقع توازن بين الجهد والعائد، ويرى بيتيناي أن هذا يُعدّ أحد أقدم الأمثلة على التخطيط الاقتصادي القائم على الموارد في تاريخ البشرية.
نظرة جديدة على العصر الذهبي لمصر
في نهاية المطاف، تُعيد الدراسة تعريف كيفية تكوين ثروة مصر. فبدلاً من المناجم الصغيرة المعزولة، ترسم صورةً لصناعة تعدين مزدهرة امتدت من وديان الصحراء إلى وادي النيل، وهي صناعةٌ يُرجَّح أنها أنتجت مئات الأطنان من الذهب على مدى قرون.
هذه العمليات، وإن كانت يدوية وخطيرة، إلا أنها شكلت العمود الفقري المالي الذي موّل معابد مصر وجيوشها وعمارتها الضخمة. ويخلص الباحثون إلى أن طفرة الذهب المصرية في المملكة الحديثة لم تكن أسطورة كنز مدفون، بل قصة براعة وعمل دؤوب وإتقان اقتصادي، ساهمت في تشكيل إحدى أقدم الحضارات العظيمة في العالم.