في زمن تتقاطع فيه الأزمات وتتراجع فيه لغة التعاون، جاءت القاهرة لتعيد فتح نافذة الضوء من جديد للدول العربية التي تعاني من حروب وتوترات، فمصر لا تتأخر أبدا عن دعم الدول العربية الشقيقة ووحدة أراضيها وعدم المساس بسيادتها وتعزيز أمنها واستقرارها، ومنها دولة لبنان الشقيقة.
وجاءت زيارة رئيس الوزراء اللبناني إلى القاهرة لترسخ للعلاقة الوطيدة والممتدة بين البلدين، ورأينا مثالاً واضحاً من خلال اجتماع رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي بنظيره اللبناني الدكتور نواف سلام وجلسة المباحثات المشتركة، في محاولة لاستعادة صوت العقل العربي وسط ضجيج الأزمات التي تحيط بالمنطقة والإقليم، حيث استهدف اللقاء إعادة صياغة العلاقة بين بلدين جمعتهما الروابط الثقافية والإنسانية، وفرق بينهما لسنوات واقع عربي مأزوم.
من قاعة الاجتماعات بالعاصمة الإدارية الجديدة، خرجت رسائل مصر واضحة: السياسة ليست مجاملة، والاقتصاد لم يعد ترفا، والدعم العربي للبنان ليس شعارا بل التزاما لن تتخلى عنه مصر بأي حال، فقد اتسم خطاب الدكتور مصطفى مدبولي خلال المباحثات بقدر كبير من الوضوح والثبات السياسي، فقد أكد دعم مصر الكامل للبنان في مواجهة أزماته، ورفض أي شكل من أشكال التواجد الإسرائيلي على أراضيه، الأمر الذي يعكس موقف سياسي محسوب يُعيد التأكيد على ثوابت السياسة الخارجية المصرية: احترام سيادة الدول العربية، ودعم استقرارها كجزء من أمن مصر القومي.
مصر تُدرك أن لبنان يقف على حافة تحديات مركبة في ظل ما يعانيه من فراغ سياسي، وضع اقتصادي هش، وتوتر أمني في الجنوب، ولهذا جاء الموقف المصري ليؤكد أن استقرار لبنان جزء من استقرار المنطقة، وأن القاهرة مستعدة لتوظيف أدواتها السياسية والدبلوماسية والاقتصادية لمساندة هذا البلد العريق. وفي الوقت ذاته، فإن الحديث عن زيارة مرتقبة لرئيس الوزراء المصري إلى بيروت الشهر المقبل يُشير إلى نية حقيقية في تحويل التعهدات إلى واقع، وإلى متابعة تنفيذ الاتفاقات على الأرض لا الاكتفاء بصياغتها في الوثائق.
كما كان الاقتصاد المحور الأبرز في هذا اللقاء، حين يتحدث الدكتور مصطفى مدبولي عن وصول حجم التبادل التجاري إلى مليار دولار، ثم يؤكد أن هناك إمكانات لمضاعفة هذا الرقم، فالمغزى هنا أن العلاقات الاقتصادية باتت هي العمود الفقري للدبلوماسية المصرية. خمسة عشر اتفاقية تم توقيعها في مجالات تمتد من الطاقة إلى الصناعة، ومن الأمن الغذائي إلى الاستثمار، وهو ما يعكس وجود خريطة طريق لبناء شراكة اقتصادية عربية حقيقية.
فلبنان يحتاج إلى ذراع اقتصادية عربية قوية تسانده في إعادة الإعمار واستعادة التوازن المالي، ومصر تمتلك خبرة واسعة في مجالات البناء والطاقة والإسكان يمكن أن تكون رافعة حقيقية للاقتصاد اللبناني. كما أن دعوة بيروت لعقد مؤتمر استثماري بمشاركة مصرية واسعة تفتح الباب أمام القطاع الخاص المصري للدخول إلى السوق اللبناني من بوابة مشروعة ومأمونة، خصوصا في قطاعات البنية التحتية والدواء والطاقة. هذه المقاربة العملية تمثل نقلة نوعية في العلاقات بين البلدين، حيث إن علاقة التعاون بين البلدين ليست سياسية فقط بل تمتد إلى شراكة مبنية على المصالح والمشروعات المشتركة.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يحضر رئيس الوزراء اللبناني افتتاح المتحف المصري الكبير قبل هذا اللقاء. فمصر أرادت أن تُظهر للعالم وللأشقاء العرب تحديدا أن قوتها الناعمة ما زالت قادرة على الإبهار والتأثير، وحين يشيد نواف سلام بجناح توت عنخ آمون واصفا إياه بأنه "تحفة فنية قائمة بذاتها" ، فهو يتحدث عن رمزية دولة استطاعت أن تربط الماضي بالحاضر، وأن تحول تراثها إلى أداة للتأثير الحضاري والثقافي. هذه الصورة لمصر الدولة القوية المستقرة تُلهم دولا أخرى مثل لبنان التي تبحث عن نموذج للخروج من الأزمات، وتؤكد أن الثقافة والحضارة لا تنفصلان عن السياسة والاقتصاد، بل تدعمانهما وتمنحانهما عمقا إنسانيا.
والحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أن ما جرى في العاصمة الإدارية الجديدة رسالة متكاملة الملامح تقول إن مصر تتحرك في دوائرها العربية بخطى واثقة، تجمع بين الواقعية السياسية والقيادة الأخلاقية، وأن دعم القاهرة للبنان ليس شعارات ولكنه خيار استراتيجي يرسخ وحدة المصير العربي، ويفتح الطريق أمام شراكة جديدة قائمة على التنمية والاستقرار.
فالدولة المصرية على مدار الفترة الماضية وقفت بجوار الشقيقة لبنان ورفضت العدوان الإسرائيلي عليها ودافعت عن حقوق لبنان في جميع المحافل الدولية ولعبت دوراً دبلوماسياً هاما في المؤتمرات والاجتماعات الدولية واللقاءات مع قيادات وزعماء دول العالم دفاعاً عن حقوق الشعب اللبناني ورفض المساس بسيادته وأمنه واستقراره، كما تستعد مصر لتقديم أي دعم للبنان لإعادة الإعمار، كما أنها لا تتوانى عن تقديم أي نوع من الدعم للدول العربية الشقيقة سواء لبنان أو ليبيا أو السودان أو فلسطين أو غيرها.
وأخيرا .. إن ما يجمع مصر ولبنان أكبر من اتفاقيات اقتصادية أو لجان مشتركة، إنه الإيمان بأن الحاضر يمكن أن يُعاد بناؤه إذا توافرت الإرادة والرؤية. ومصر اليوم، بما تمتلكه من ثقل إقليمي وقدرة على الفعل، تثبت أن طريق العرب نحو النهوض يبدأ من التعاون، لا من العزلة، ومن الثقة، لا من الشكوك، وأن الأمن القومي العربي جزء لا يتجزأ من الأمن القومي المصري.