حازم حسين

الهوى والهوية وعلم المصريات.. عن حفل المتحف الكبير فى مرايانا وعيون الآخرين

الثلاثاء، 04 نوفمبر 2025 02:00 م


ما زالت أصداء الحدث تتردد فى أنحاء العالم، وسيظل أثره المباشر لفترة طويلة، وعوائده الإيجابية فى المقبل من السنوات.

ما فعلته مصر ليس عاديا على الإطلاق، ولا تقدر عليه دول أكثر ثراء ووفرة فى الإمكانيات. إنه الرصيد الثمين وغير القابل للتكرار، الطاقات الكامنة فى الأرض وناسها، والسلسلة الحضارية المتصلة دون انقطاع، مهما اعترتها التحولات أو حاصرتها الضغوط والتحديات.

كُمونٌ تفرضه الظروف، ثم انطلاق لا تحدّه حدود، وقدرة دائمة على المفاجأة والإدهاش.
المتحف المصرى الكبير صناعة ثقافية ثقيلة، أهم مدخلاتها ذاك الإرث العريق، والجينات الموروثة عن أكابر المصريين، وطموح المحدثين منهم إلى التمثُّل والمحاكاة.

انتسابٌ ومُشاكَلة ولو تباعدت السنون، أكان فى صورة معدلة بتقنيات الذكاء الاصطناعى، أم فى عقول وسواعد تقيم حوارا مع الأهرامات الثلاثة، لتُضيف إلى فضائها العريض هرما رابعا، ينتمى إلى ماضيه بقدر ما يعيش حاضره، فكأنه بوابة زمنية تنفتح على القديم، أو قاطرة متقدمة تشدّه فى موكب عصرى يمزج الحداثة بالعراقة، والإبداع الجديد بمهابة التاريخ وخلوده الأبدى.

كانت ردود الفعل الدولية على حفل الافتتاح إيجابية للغاية. عشرات القنوات والمنصات الإعلامية احتفت بالمكان والمكانة، وأفاضت فى امتداح قيمة المشروع ودلالاته، ولم تُخف حال الانبهار بالبرنامج الفنى الذى لا يقل جلالا عن العمارة البازخة.

كما تردّدت أوصاف «التاريخى والأسطورى» فى كثير من المعالجات، ولم تتوقف أغلبيتها أمام الملاحظات التى تداولها مصريون كُثر على مواقع التواصل الاجتماعى، لجهة نسيج الفقرات بتكوينها الصوتى والبصرى، أو ما انتُخب منها للنسخة المعروضة على الشاشات.

ومن حق الجميع أن يُدلوا برؤاهم، كما من واجبهم أن يستطلعوا لمعان البهجة والاحتفاء فى عيون الآخرين.

الأغراب لا يجاملوننا قطعا، وشهادة البعيد بطبعها تنطوى على تضاعيف من المعانى والدلالات، ذلك أنها ليست عين المحب الكليلة عن كل عيب، ودون الرؤية والرأى لديها جبال من الرواسب والانحيازات والأفكار وحسابات السياسة والثقافة والاجتماع.

ما يعنى أن الإقناع غالبا ما يكون نتاج جهد استثنائى، ومقدرة فائقة على قفز الحواجز وتنحية الافتراضات والمواقف المسبقة. والحال، أننى لم أر فى كل ما تابعت من عشرات الدول رأيا واحدا سلبيا، ولا دعاية موجهة طالما تعرضنا لمثلها فى حالات شبيهة.

غير أن قوّة الواقع اليوم فاضت على ما عداها من تنافس ورغائبية ومشاحنات، وأسقطت ما استشرف أصحابه أنه لن يجد منفذا لعين راء ولا لأذن سامع، فلم يحاولوا التلبّس بشبهته فى مقام اليقين.

وليس القصد أننى أُخطّئ الناقدين، أو أستنكر عليهم النقد كحق أصيل للمتلقى على كل بضاعة مزجاة فى المجال العام.
إنما أُوسّع مدى النظر لاستطلاع معروضنا فى مرايا غيرنا، والتبصير بحقيقة أن المشاهد المُركّبة لا يصح اختزالها فى أحد جوانبها، أو تعليق استخلاصها النهائى على حوارية الذات مع نفسها، وباستبعاد قاس للفلسفة والرهانات التى تُبنى عليها الوقائع، والحصيلة المُرتجاة من كل فعلٍ، اتصالا بمداه ومراميه البعيدة والقريبة على السواء.

أقلّه من مُنطلَق أنّ الفعالية ليست مناسبة عائلية خالصة، بقدر ما تنفتح على عائلات الدنيا، وتسوّق لها ما صُنع ليكون ملكا للإنسانية كلها، ومنفعة لمصر والمصريين.

وبحسب ما استطلعتُه فى دائرتى الواسعة، فالانفعال الوطنى بالاحتفال كان يغلب عليه الإعجاب والتقدير. وتظل الاستثناءات من طبائع الأمور، بين زاهدين فى الفكرة نفسها، وكارهين للمكون البعيد من هويتنا متعددة الطبقات، ومَن ينشدون الكمال، أو يُقدّمون تفضيلاتهم الفنية على منطق التنوع ونسبية الذائقة.
ولا يصح التعميم مطلقا، ولا أن تُسحَب نظرة فئة منهم على غيرها. فيما يتعيّن استبصار أن الرسالة قُصِد منها الإعلام بالإنجاز، والدعوة إلى التشارك فيه.
أى الافتخار والترويج معا، وأن تُسبَغ على المحلى صفة كونية، عنوانها الأبدية التى تُجسّد رسالة الإعمار والسلام من دون طنطنة وخطابيات زاعقة، وظلّها الاشتراك فى لحن واحد تكتبه مصر، ويُعزف فى قارات العالم مجاورا لمعالمه البارزة، ومسلّاتنا الشامخة.

فضلا على المعرفة التى لا تحتاج تصريحًا، بفضلنا على الإنسانية، وما من عاصمةٍ كُبرى فيها أو متحف ذى قَدرٍ، إلّا يُقدّم نفسَه للزوّار بقسم المصريات، وتقوم أهم عوامل جذبه على مقتنياته من آثارنا البديعة.

المصريون المعجبون والمنتقدون، باستثناء الأصوليين والمتطرفين قطعا، أقاموا حفلا سابقا للاحتفالية الكبرى، ولوّنوا واجهة المواقع كلها بتصاويرهم المتعانقة مع ما تيسّر من موتيفات ذائعة وتفاصيل معروفة عن أزياء مصر القديمة وعاداتها.

بل إنهم تكفّلوا بالرد الساحق على أحد المتسلّفين الأغبياء، عندما انبرى فى تفسيق وتكفير التمثُّل بالأجداد، بدعوى أن المتشبّه بقوم فهو منهم، فكانت الاستجابة الجماعية من دون تفكير أو اتفاق، أننا منهم فعلا ومنتمون إليهم أصلا وعرقا وثقافة وحضارة.

وهذا ما طُمس طويلا باشتغال منهجى مموّل بالملايين، وما كان تجّار التطرف والصحوة الإسلامية يسعون إلى شطبه تماما من مدوّنة الاجتماع وتنسيب المصريين لأسلافهم، ولو لم يفعل المتحف شيئا سوى أنه أزال طبقة الغبار الصحوية/ الرجعية، عن وجه الهوية المصرية الناصعة، لكفاه وكفانا منه دون شكّ فى الجدوى والمردود.

مرّ علىّ أمس منشور على «فيس بوك» لسيدة محترمة من دولة جارة، تقول إنها شعرت بالغيرة من المتحف والحفل. وكانت جُلّ التعليقات من مواطنيها تمتدح عزم المصريين واعتزازهم بإرثهم الحضارى العريق.

لكن من بين المُعلّقين مَن تحلّوا بقدر أكبر من الصراحة والموضوعية، فقالوا إنه لا وجه للمقارنة من الأساس، ولا بلد فى الأرض يتنافس مع مصر إن كان الكلام عن التحضّر والتاريخ، أو عن الأثر الباقى لدولة عبرت من المحن ما لم يُمتَحن به غيره، وظل قادرا على أن يستعيد ذاكرته، أو القدر الأعظم منها، جليّة ومكتملة ونابضة بالحياة، كأنها ما كانت عُرضة طوال قرون لجهود الإنكار ومحاولات المحو معنويا وماديا.

للقلوب أحوالها، لكن العقول ما لم تتعرض للتخريب وإلغاء فاعليتها ووظائفها، فإنها تظل قادرة على استخلاص العبر والدروس، وعاجزة بقوة المنطق عن تخطيها والقفز على حقائقها.

يعرف الجميع مقدار مصر فى ميزان التاريخ، ولا يُزعجهم ما يعجزون عن مطاولته من إرثها التليد، بقدر ما يرتعبون من إعادة إحيائه واتخاذه رافعة للعبور إلى سياق جديد.

تجربتنا مع الغشاوة الحضارية طويلة للأسف، وأعقد ما فيها حينما أُبعدنا قهرا عن ظهيرنا القديم، وانقطعت سلسلتنا الحضارية لنصير فرعا من آخرين، ولدينا أصل العالم الذى تفرّعت منه كل الفروع وأخذت تتقاطع وتتلاقح إلى أن وصلت لصيغها المتناحرة اليوم، ولا شىء يضمن حياة الشجرة ويغنيها، قدر أن تتصل بجذورها، وأن تكون الجذور عفية وغائرة فى الأرض بعمق وثبات.

المتحف وحفله لن ينهيا الأزمات الطارئة، كما لا يُعوّضان قطعا عن التزامات راهنة، يتعين علينا أن نأخذها بحقّها. إلا أن خطوة واحدة على الطريق الصحيح تكفى للتبشير بما بعدها، وطمأنة المرتاب إلى سلامة المسار.

سنَجِدُّ ونُنافس فى الحاضر ما وسعتنا الطاقة، لكن الانطلاق من ثابتٍ مركزى غير التحليق فى تهاويم ومنامات ملؤها الخمول والدعة، واليأس من أننا نفتتح السباق متأخرين، فيما التطلّع للوراء يرفدنا بمَددٍ لا نهائى، ويُؤكد أننا كنّا سبّاقين، وما زلنا قادرين على تكرار السبق إن صح العزم.
ليس رجوعا إلى الماضى، واكتفاءً به عن سُواه، إنما استدعاء له على حدود المضمار، ليكون مُلهِمًا وحافزًا، ورصيدًا من التشجيع والزهو، وألَّا نفقد الثقة فى ذواتنا، مهما كانت المتاعب والعقبات.

والآخرون يعرفون أننا فى مجال الثقافة لا نُقاس إلى غيرنا. فكانت الصفة الغالبة على النظر للمتحف الكبير أنه «هرمٌ رابع»، ولم يَقُل قريب أو بعيد إنه نسخة ثانية عن اللوفر أو المتروبوليتان والمتحف البريطانى وغيرها.

وتلك النقطة كانت الباعث وراء بعض المُلاحظات، ذلك أن أصحابها كانوا يتطلّعون لبهاء موكب المومياوات، أو يُجيلون النظر فى أرجاء مصر، فيمُسكون بما غاب عن العرض من فنونها وإبداعاتها وعمارتها وفولكلورها.

نبتهج فى حال الرضا بالوصول إلى ما نراه تعبيرًا عن عراقتنا، ومُسَوِّغًا لصِلتِنا العضوية مع الأقدمين العُظماء، وفى غير الارتضاء الكامل نُحيل إلى ذواتنا أيضًا، وننقُد اللاحق لدينا على قاعدة السابق، والبديع بالأبدع، وهو اختلاف جميلٌ، طالما أنه على جمالنا الخالص.

المادىُّ يقوم بذاته، ويُبرهن بالدلائل القاطعة على عظمته، لذا لا يختلف اثنان على المتحف الكبير. والمعنوىّ عُرضة للجدل وتفاوت الرؤى، ذلك أنه وثيق الصلة بالخلفية الشخصية والمعرفة والذائقة والتفضيلات، وقد حُصرنا فى محلّيتنا طويلاً، وانقطعنا عن العالم، وعندما نعود إلى مُخاطبته لن نقبض على الغايات كلّها دفعةً واحدة. سنأخذ وقتًا فى التدرُّج وصولاً للتوازن، وأن نُجيد الخلطة المثالية بين لُغة الغريب، وجِماع لُغاتنا التى يتعذّر على كثيرٍ منّا هضمها، وقد تُصيب مَن لا يعرفونها بالتُّخمة جرّاء الوفرة وفائض الغِنَى.

إن مصريًّا واحدا قد لا يحتمل فسيفساء ثقافتنا المحليّة فى كبسولة مُدمَجة. رقصا وغناء وزيًّا، مع تنوّعاتها الثقافية والجهوية المُتعدّدة. الحفل كان مزيجًا بمقادير، ويليق به أن يكون فاتحةً للتعاطى مع الهُويّة المصرية بروح العصر وأدواته، وإعادة دمج المُفردات فى منتوجنا الإبداعى بمنهجية واضحة، وفلسفة إحيائية تبتعث القديم وتُصالحه على الجديد، ليُطبّع أهل البلد أنفسهم مع غناه المُتوحّش، قبل أن نُصدِّر هذا الغِنَى لغيرنا، وكى نُحسِن تصديره من الأساس.

ويدفعنى ذلك إلى الحديث مُجدّدًا عن فكرة طرحتها قبل يومين، ومحورها أن يكون المتحف المصرى الكبير قاعدةً لإنعاش الاهتمام بحضارتنا وتاريخنا على وجه أعمق وأكثر جدّية. كأن تُؤسِّس هيئته التنفيذية، أو تتأسس بالشراكة معها، جامعة أو كُليّة لعلم المصريات.

وأعلم أن لدينا كُلّيات عِدّة للآثار والسياحة، إنما ما أقصده أكثر تخصصًا ومنهجية من القائم بالفعل، وينبنى رهانه على استعادة الزمام فى العلم الذى ينتسِبُ إلينا ويحمل اسمنا، فيما يتقدّم علينا فيه الفرنسيون والألمان وغيرهم.

وجود جامعة للمصريات تحت مظّلة المتحف، سيُعمّق الاهتمام بالتاريخ معرفيا وأكاديميا، ويفتح الباب لشراكات ومساحات تعاون مع المؤسسات النظيرة عالميا، ويخلق جيلاً من المُتخصصين نوعيًّا فى الحضارة القديمة، على صعيد الأنثروبولوجيا والآداب والفنون والأزياء.

ما يتّسع لاحقا إلى إغناء التعليم العام بمكوّنات معرفية تتمازج مع كل التخصصات، وتتّصل بفلسفة التربية والتنشئة من القاعدة، فى وفرة من الوعى والمعرفة، ومن الدارسين المُؤهّلين لإشاعة مناخ وطنى من الاتصال اللصيق بالذاكرة العميق، وليست المقاربة السياحية من بعيدٍ كما يفعل الزوّار، ولا شكّ فى أن معارف الأغلبية منّا اليوم بمصر القديمة لا تزيد على ملايين السائحين المتوافدين علينا، بل ربما تقلّ للأسف.

يُمكن أن يبدأ المشروع بكُلّية متخصصة فى علوم الترميم، لتُضاف إليها لاحقا تخصّصات، أو كُليّات زميلة، تُركّز على الحفائر واللغة والآداب والفنون وغيرها. وأن تُقيم صلات وشراكات مع الخارج ببرامج التبادل، والزمالة، وإنشاء كراسىّ خاصة باسم المتحف المصرى الكبير فى المعاهد والمؤسسات العالمية المُهتمّة بعلم المصريات.

ولا يُضيف ذلك لرصيد المتحف ويُعمّق دوره العلمى فحسب، بل يُعزّز جهود الترويج والتسويق، ويمنحها وهجا واستدامة قادرين على الجذب، لا سيما مع المِنَح والزيارات وبرامج الإقامة العلمية، وبرمجة خطّة شاملة للرحلات العلمية والمعارض المؤقّتة والمنتديات والحلقات البحثية ودورات التثقيف، حتى المُتخصصون الكبار فى أنحاء العالم سيُحبّون الانخراط فى عمل مباشر مع المتحف الكبير، أو الانتساب إلى مرجعية تحمل اسمه، ويلتمع بريقها وثِقَلها الأكاديمى والمعرفى من كونها تقف على منابع التاريخ، وتملك آباره التى لم تتفجّر بعد.

ما اكتُشِف من آثارنا أقل كثيرًا من مطمورها، والعناية بالحالى تتطلّب جيوشًا من المؤهّلين وذوى الخبرات، وستتضاعف الحاجة مع الإضافات المتوالية، والتصاعد الطردىّ فى الإقبال السياحى المُتوقّع.

وعندما يكون فى كل حىٍّ دارس واحد للمصريات، سيتعزز الاهتمام وتتسرّب المعرفة ويُقبل آلاف جُدد. تراثُنا أثمن ما لدينا، وهو نفطُنا الأبدىّ الذى لا ينفد، ولا حدّ لإمكانات استثماره والإفادة منه اليوم وإلى ما شاء الله.

تلك الفكرة من تداعيات الاحتفالية، وإن أمعنّا النظر فى تجلّياته فلن تتوقف الأفكار. المتحف نفسه كان فكرة أقرب إلى التمنّى، وصار واقعًا نفخر به ويغبطنا الآخرون عليه.

موكب المومياوات كان بداية من عدم، أو بعد انقطاع طويل طويل، ومؤسف أيضا، وفى حضرة الأهرامات كانت تجربتنا الثالثة مساء السبت، بعد حفل طريق الكباش. والمؤكّد أنها لن تكون الأخيرة. ما فاتنا يُمكن أن نستدركه، وكلُّ آتٍ سيُضيف إلى سابقه، والأبديّة لا حصر لفيوضها، ولن يتوقّف إلهامها.

المهم أن نعود إلى مصريتنا الحقّة الصافية، المُخلصة لذاتٍ ثرية لا يطغى عنصرٌ فيها على آخر، وأن نعرف أننا ننتمى لكل ما مرّ علينا، إنما بالاحتواء والاستيعاب والهضم، وليس بالاستتباع والذوبان فى الآخر. الأصل أننا من الآباء الأوائل، وكل ما عدا ذلك فروع وتفاصيل.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب