شحاتة زكريا

الانتخابات تُعلِّم.. دروس قاسية لم يتوقعها المحترفون!

الأحد، 30 نوفمبر 2025 04:37 ص


في كل موسم انتخابي تنكشف حقائق جديدة وتظهر ملامح قد لا يراها أصحاب الخبرة ولا من عاشوا عقودا داخل مطابخ السياسة، فالانتخابات ليست مجرد أوراق تُحمل إلى الصناديق ولا هي منافسة بين أسماء وصور ولافتات. هي في جوهرها امتحان صريح لمستوى الوعي العام ومرآة حقيقية تكشف العلاقة المعقدة بين المواطن والدولة بين المرشح والناس بين الخطاب السياسي والواقع اليومي.

وفي الانتخابات الأخيرة جاءت النتائج كصفعة ناعمة وقاسية في آن واحد صفعة لم يتوقعها كثير من المحترفين الذين اعتقدوا أن المشهد يمكن التحكم فيه بالأموال أو الحملات الضخمة أو حسابات الشعبوية. لكن الحقيقة أن الناخب الذي خرج من بيته متجها إلى لجنته كان يحمل في ذهنه سؤالا واحدا أشد أهمية من كل الشعارات: من يستحق؟

هذا السؤال وحده كان كافيا لتحويل المعادلة. فالكثير ممن كانوا يُحسبون على قوائم المرشحين الأوفر حظا وجدوا أنفسهم في المؤخرة. ليس لأن الناس تغيّرت فجأة بل لأن المزاج العام أصبح أكثر وعيا وقدرة على التمييز. لم تعد الجماهير تشتري الكلام المنمّق ولا الوجوه المألوفة التي اعتادت الظهور. أصبح المواطن أخطر من أي وقت مضى إذ بات يمتلك القدرة على فرز المرشحين ورؤية ما بين السطور وكشف الفجوة بين الوعد والفعل بين الصورة والحقيقة.

ومع ذلك فإن الدرس الأكبر الذي قدمته الانتخابات هو أن القرب الحقيقي من الناس لا يُصنع في أسبوع الدعاية ولا على صفحات التواصل ولا من خلال موائد انتخابية تقام في اللحظة الأخيرة. القرب يُصنع عبر سنوات من المواقف من الكلام الذي يُترجم إلى فعل ومن الوجود الصادق في حياة الناس دعما وتقديرا واحتراما. الناخب لم يعد ينتظر الوعود بل يبحث عن سجلّ الشخص لا خطابه عن أثره في المجتمع لا صورته على البوسترات.

وقد كشفت النتائج أيضا ضعفا عميقا لدى بعض الأحزاب التي دخلت المعركة وهي تعتقد أن الاسم وحده يكفي وأن التنظيم القديم قادر على الحشد بنفس الطريقة التي اعتادت عليها لعقود. لكن ما حدث أثبت أن الأحزاب التي لا تواكب تغيرات المجتمع ولا تُجدد خطابها ولا تنفتح على قواعد جديدة من الشباب، محكوم عليها بالضعف. لم يعد هناك مكان لحزب يعيش على ذكريات الماضي ، أو يكرر خطابا قديما لم يعد يعبر عن نبض الشارع.

وفي المقابل، برزت أسماء لم تكن محسوبة في معادلة القوة. أسماء اعتمدت على ثقة الناس قبل أي شيء، وعلى حضور حقيقي في الصفوف الأولى من مشكلات المجتمع. رأينا مرشحين لم يملكوا الأموال ولا الحملات الفخمة لكنهم امتلكوا ما هو أثمن: محبة الناس. وهذه المحبة لم تُشترَ ولم تُفرض بل جاءت نتيجة احتكاك يومي وشعور الناس أن هناك من يسمعهم ويفهمهم ويقف معهم حين يكونون في أشد الحاجة إلى سند.

لقد أكدت الانتخابات حقيقة بسيطة: لا أحد أكبر من الناس. لا اسم ولا تاريخ ولا نفوذ يمكن أن يتجاوز قرار الناخب حين يقرر أن يقول كلمته. وهذه الكلمة كانت صريحة هذه المرة تقول بوضوح: كفاكم استسهالا. فالناخب لا ينسى من خذله ولا يسامح من تجاهله ولا يغفر لمن اعتقد أن السياسة مجرد موسم يُعزف فيه لحن الوعود.

ومع ذلك فإن ما جرى ليس نهاية بل بداية مرحلة سياسية جديدة تحتاج إلى قراءة واعية. لأن الدرس الذي تلقاه المحترفون وإن كان قاسيا إلا أنه مفيد. فهذه النتائج قد تدفع نحو إصلاح سياسي حقيقي يعيد الاعتبار للأحزاب،
ويرفع من جودة الخطاب العام ويجبر الجميع على بناء قواعد شعبية تقوم على العمل لا الدعاية وعلى الفكر لا الضجيج.

وفي ظل التغيرات الاجتماعية المتسارعة ومع ارتفاع وعي الناس ومطالبهم يصبح الطريق نحو المستقبل واضحا: السياسة لن تكون كما كانت. والمنافسة المقبلة لن يفوز فيها الأكثر إنفاقا بل الأكثر قربا والأكثر صدقا والأكثر قدرة على تقديم ما يشبه الناس ويشبه آمالهم.

إن الانتخابات ليست مجرد سباق بل درس. درس مؤلم لمن لم يستعد ومفرح لمن عرف طريقه ومنبه للجميع بأن الدولة والمجتمع يدخلان مرحلة جديدة لا تعرف إلا كلمة واحدة: المصداقية. ومع كل دورة انتخابية يزداد وعي المواطن ويصبح قراره أثقل وأعمق وأكثر تأثيرا. إنه قرار يغير المشهد ويعيد ترتيب الأوراق ويجبر الجميع على احترام أولوية واحدة: ثقة الناس.

وفي النهاية فإن المعركة الانتخابية التي انتهت لن تطوى صفحاتها الآن لأنها كشفت ما يجب أن يُكشف ووضعت قدم السياسة على طريق جديد يحتاج إلى شجاعة في الاعتراف وشجاعة أكبر في التغيير. إنها انتخابات لن تُنسى لأنها ببساطة قالت الحقيقة بصوت عالٍ:
الشعب أصبح اللاعب الأول… والبقية يتعلمون.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب