يأتي أبي بالفاكهة في قراطيس ورقية، لها شكل أنيق ورائحة مميزة، ولون "جملي فاتح"، نتسارع إلى حملها واكتشافها، ونختلس منها بضع حبات، خوخ، مشمش، برقوق، ثم نجري ونتسابق إلى زراعة نواها " البذور" في علب الصفيح القديمة، أعلى سطح منزلنا، الذي لم يكن سوى دور واحد، نصعده بسلم خشبي ثقيل، لم أقوى على حمله أو تحريكه إلا في المرحلة الإعدادية.
أغلب ما كنا نزرعه لم يكن لينبت، نتيجة قلة الخبرة بمواسم زراعة الفاكهة، وكثرة الماء الذي نصبه يوميًا - دون فهم – لكن صادفت مرة بأن نواة "مشمش" أنبتت، وصارت العين تبصرها، وكررنا التجربة مرات عديدة، فأصبحت الزراعة متعة تراودني..
ما زلت أسمع ضجيج سوق ببا العمومي، الذي يقصده المئات من سكان القرى المجاورة، يمتلئ بالجاموس والأبقار والأغنام والماعز حتى الحمير، وعلى أطرافه تبيع النساء اللبن والسمن والجبن، الكشك والبتاو والفول النابت، البصل والثوم، القمح والذرة والشعير، أقفاص الدجاج، وحصائر الخوص، والمقاطف المصنوعة من سعف النخيل، والحبال الليف، والأوتاد الخشبية، والفؤوس والمناجل.
بالكاد نمشي وسط زحام هائل من الباعة الزبائن، وسكان البندر، والغرباء القادمون إلى السوق، الكل يسعى نحو تأمين لقمة العيش، وطلب الرزق، والعودة إلى المنزل باحتياجات مؤجلة، لا يحل وقتها إلا يوم السوق، وفي ببا يكون " الخميس" هو الموعد، الكل ينتظره، الكل يحبه كيوم عيد، حتى الأطفال والتلاميذ يعتبرونه يوما استثنائيًا، يخرجون من المدرسة مبكرًا، ومن سوق الخميس تحضر أمهاتهم البسبوسة، والفاكهة، واللحم الطازج، بل تحتفل معهم القناة الأولى، تحت شعار " اليوم المفتوح" بفيلم ممتع في الظهيرة، يعقبه آخر على شاشة القناة الثانية، ينتهي مع أذان العصر، هكذا كانت السعادة البيضاء، قبل الأقمار الصناعية، والدش، والموبايل، والانترنت، وكل ما أفسدته المدنية المزيفة، والتكنولوجيا المستوردة..
بائعو البوظة على يمين الطريق، بينما في اليسار ترعة صغيرة، تباع البوظة في أكواب أو أكياس حسب الطلب، لاذعة حامضية، جربتها مرة واحدة، لكن نفرني منها الطعم والرائحة، ربما قذارة الأدوات، ورداءة البائع، لذلك كنت أستبدلها ب "الجلاب"، حلوى مصنوعة من عسل قصب السكر، لونها بني فاتح، طعمها لذيذ، الواحدة منها تباع بـ 10 قروش أو 5 فقط، حسب الحجم والجودة..
بعد رحلة قد تستغرق أكثر من نصف ساعة عقب صلاة الفجر، مرورا بكل تلك المشاهد تظهر أمامنا بوابة السوق، وعقارب الساعة مازالت دون السادسة، تدخل الحيوانات سريعًا حتى لا تتكدس ويتعطل الطريق، بينما يجلس أمامها "المعلم"، رجل ضخم، بعمامة كبيرة وعصاة غليظة، يقدر قيمة "البوابة" أي رسوم استخدام السوق، ولم يكن أحد يجرؤ أن يراجع ذلك الضخم الثائر سريع الغضب، حاكم البوابة ومالكها، الذي يلتف حوله الرجال لمعاونته وحراسته وتحقيق الانضباط اللازم..
من يبيع بقرة أو جاموسة عليه أن يشتري أكوامًا من البرسيم أولا، حتى يعرف التجار أنها بصحة جيدة، وقادرة على الأكل والاجترار، وكذلك عليه أن يجعلها في حالة شبع ولو مؤقت، حتى لا تظهر ضلوعها، وينكشف عوارها، خاصة إن كانت هزيلة أو صغيرة الحجم..
السماسرة يلتفون يمينًا ويسارًا طمعًا في 5 جنيهات من البائع، ومثلها من المشتري، في وقت كانت الـ 10 جنيهات تشتري دجاجتين من الحجم الكبير، لكن كان عليك دائماً الحذر من السماسرة، وضمائرهم التي يبيعونها مقابل بضعة جنيهات، وهذا أمر يفطن له الفلاح الواعي، الذي لا يتأثر بكلماتهم، التي لا تستهدف إلا بخس البضاعة..
أمسك بيدي "الرسن" بفتح الراء والسين وتسكين النون – حبل من الليف الخشن – منذ خروجنا من البيت وحتى أبواب السوق، وعندما يقترب البائع من إتمام الصفقة، ويُخرج أمواله ليدفع، أُمسك الرسن مرة أخرى، وأقسم يمينًا مغلظًا بأن هذه بيعة لن تتم، إلا بعد حصولي على 20 جنيهًا، مكافأة على السعي والتعب، وهذا يحاول إثنائي، وذاك يتمنع، إلا أن التاجر يتأثر سريعًا أمام صرامتي البريئة، ويسارع لإخراج المبلغ من جيبه ويمنحني إياه عن طيب خاطر..
أتذكر أني بعت مع أبي جاموسة مقابل 1100 جنيه فقط، بينما سعرها الآن يتجاوز المئة ألف، بما يعني أن التضخم في المحروسة على مدار 35 عامًا، قد تضاعف مئة مرة أو يزيد، والجنيه الواحد في مطلع التسعينات، يعادل 100 بسعر اليوم..
أحد أقاربنا كان يشاركنا في ثمن جاموسة، وقد كان ذلك شائعا حينها، له النصف ولنا الآخر، وظل الحال على ذلك سنوات، حتى زرعنا مساحة من القطن، كانت نحو فدان ونصف، وكنا على موعد مع الجني والحصاد، فوجئنا برغبته في فض الشراكة، وبيع نصيبه، في وقت كنا نعول على محصول القطن أحلامًا وآمالًا، إصلاحات منزلية، سداد أعباء تعليمية ومدرسية، وقليل من الرفاهية التي كنت شخصيًا أخطط لها، ساعة يد، حذاء جديد، لكن الرجل عقد العزم والنية، وأصر على موقفه، فما كان منا إلا توجيه المحصول لشراء جاموسة جديدة، وهكذا مواقف وذكريات من الطفولة جعلتني لا أعول كثيرًا على العشم، وأتحسب لما تحمله ضمائر الناس..
نعود من السوق وأيادينا مزدحمة بكل ما نشتهى، وقبل أمتار من المنزل أرقب أمي التي تنتظر، لا تبادر بسؤال أبي عن تفاصيل، خوفًا من غضب متوقع نتيجة عدم توفيق في ظروف البيع أو الشراء، فلا تنطق كلمة واحدة حتى يبدأ أبي الحديث، ويسرد التفاصيل، واحدة تلو الأخرى، منذ خروجنا حتى العودة، ثم في النهاية يخرج نقوده من جيبه، ويسلمها لأمي لتضعها في الدولاب القديم، ربما عمره 150 عاماً، وكان لجدتي "لزم" هكذا اسمها، وهيا زوجة طنطاوي، الجد الثاني، الذي توفي في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، ورغم أن المرحوم أبي لم يراه، إلا أن اسمه عاش طويلا وصار صاحب الذكر، بينما محمد وأحمد وعلي لا يعرفهم إلا القليل..
تنجح أمي في تلطيف الأجواء، التي عكرتها قسوة السوق، بل وترجح البيع بعباراتها الراضية، وكلماتها التي لا تخل من الشكر والحمد، حتى نقتنع بأن ما أحرزناه كان أفضل هدف، وأهم فرصة، وأن البقرة أو الجاموسة التي بعناها لن يتجاوز أبدا ثمنها أكثر مما حصلنا عليه اليوم..
لو أن للقناعة عنوان يقصده الناس، فما رشحت لهم غير أمي، قدرة مذهلة على امتصاص الصدمات، وهزيمة الشدائد، وتبسيط الصعب، رضاها عقيدة، ومحبتها مذهب، وصلاتها شكر، أتذكرها دائمًا عندما كانت توزع اللحم والدجاج على أسرة من 10 أفراد، ولا أرى في يدها شيء، وكأنها لا تأكل، يكفيها بعض الخبز الجاف، والقليل من الجبن مع البصل أو الخس والجرجير، لا تأكل أبدًا خارج منزلها، حتى ولو كانت في بيت أبيها، لدرجة أن جدي كان يحلف يمينا بـ "الطلاق" حتى تأكل، وكانت حينها تفعل على استحياء.
الستر أهم من الغنى، والرضا أشمل من القناعة، هكذا تعودت وتعلمت، فلا أطمح إلى ما عند غيري، ولا أتعلق إلا بما تصنعه يدي، ولا أعاتب الناس على نقائصهم، فقط أكتشف معادنهم وأتعلم، وحينها أقرر البقاء أو الرحيل، هكذا كنت دائمًا، وقد شارفت مواقع ومشاهد في سن صغيرة، وانسحبت منها عندما رأيت المكائد تدبر، والفخاخ تنصب، بعدما صارت الحملان ذئابًا ضارية، تأكل كل شيئ، حتى من قربها وأطعمها واستأنسها داخل القطيع..
في كهولة الأربعين صرت أعرف أن المصلحة تحكم كل شيء، فهذه حياة بلا مجانية، تحركها الأطماع، ويذكيها الاعتقاد الزائف بأن هناك من يملك المستقبل ويعلم ومؤشراته ويتوقع نتائجه، في حين أن هذا كله عبث بلا قيمة، ووهم بلا ثمن، وسراب يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، ورغم كل ما سبق، تبقى الحقيقة الأهم، وهى أن الناس لا يتعظون، على الرغم من أن الأساطير تتهاوى، و الأمور تتبدل، وسيناريوهات السقوط تتكرر نصًا وفعلا..
جربت ذات مرة أن أسأل أطفالي: هل تعرفون إسماعيل ياسين ؟ فأجابوني استنكارًا من إسماعيل ياسين ؟! فسكت قليلًا ثم همهمت متعجبًا :" لو سألت هذا السؤال لأي من أبناء جيلي أو من جاء بعدهم، فلن يخطئه أحد، فالكل يعرف إسماعيل ياسين، ذلك الفنان الذي كان من فرط شهرته يطلقون اسمه على أفلامه، " إسماعيل ياسين في الأسطول" و " إسماعيل ياسين في البوليس"، وغيرها العديد من الأفلام، التي اعتمدت على اسمه كأحد وسائل التسويق والدعاية في منتصف القرن الماضي، لكن التطور والزمن جعل الأجيال الجديدة لا تعرف من هو، أو تتذكر أعماله، وأظن أنه ما لذلك من دلالة إلا محدودية الشهرة، ووقتية النجومية والتوهج، وضآلة الإنسان في مواجهة الزمن..
أحيانًا أتوقف عند فكرة كم يتذكرك الناس حتى لو كنت نجمًا لامعا أو شخصية عامة ؟ ثم أعيد السؤال بطريقة أخرى، كم من الوقت تتذكرك أسرتك إذا صرت جدًا عجوزًا ؟ في ظني لن يتذكرك إلا الأبناء، ثم الأحفاد إن التصقت بهم وعاصرتهم، ثم تموت وتفنى وتظل سنوات لا يحصيها أحد خارج كل الحسابات إلى يوم يبعثون، حتى اسمك لن يذكرونه إذا ما صرت الجد الخامس أو السادس أو حتى العاشر، فالزمن أبقى من فناء البشر، ونحن لا نشكل أكثر من ذرات صغيرة في كون شاسع.
مساكين من يبسطون عشمهم في الدنيا أكثر من اللازم، يفترون ويظلمون ويزاحمون، يغترون ويتجاوزون شرًا ومكرًا وسوءً، ثم يسقطون بين عشية وضحاها، بلا ثمن أو فرصة لتوبة أو وقفة مع ضمير، أو نزعة نحو إنسانية أو إرادة للخير، فيظنون الخلود، ويتشبسون بأهوائهم وشهواتهم حتى النهاية، وينكرون حكمة الحياة وقانون الزمن، فلا يبقى من ذكراهم إلا مساوئهم، وسيرتهم العفنة، وشباك الشر التي صنعوها لاصطياد الناس..