مها عبد القادر

أبعاد الاقتصاد الأخضر التنموية 1

الثلاثاء، 25 نوفمبر 2025 02:07 م


يعيد الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر تشكيل علاقة الإنسان بالطبيعة وبذاته وبمجتمعه عبر منظور يقوم على الاستدامة والمسؤولية المشتركة، مما يستدعي إعادة بناء المنظومة القيمية وصياغة وعي جماعي قادر على قيادة مستقبل أكثر عدالة وإنصافًا، حيث يعد التعليم المحرك الأساسي للتحول، فهو يغرس القيم البيئية، وينمي السلوكيات المستدامة، ويبني الكفاءات التي تمكن الفرد من اتخاذ قرارات واعية ومسؤولة، فالتربية البيئية تقوم على التمكين وتنمية الوعي النقدي، وتحفيز القدرة على تحليل المشكلات واستشراف البدائل الصديقة للبيئة، وبذلك يصبح التعليم منصة لإعداد إنسان فاعل في التحول الأخضر، قائم على قيم أصيلة ووعي علمي ومسؤولية بيئية.

ويعد دمج مفاهيم الاقتصاد الأخضر في المناهج والأنشطة التربوية خطوة جوهرية لتنشئة أجيال قادرة على فهم التحديات البيئية المعقدة والتعامل معها بوعي، فالتربية الخضراء ترسخ أنماط حياة مستدامة وتبني إنسانًا مبتكرًا يدرك أثر أفعاله محليًا وكونيًا، ويعي الترابط بين الاقتصاد والعدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية، وتنهض بهذا الدور منظومة تعليمية وثقافية تربط بين القيم والتطبيق، وبين الإبداع والمسؤولية، وتؤهل الإنسان لقيادة التحول الأخضر وبناء مستقبل يوازن بين حاجات الإنسان وحقوق الطبيعة.
ويمثل الاقتصاد الأخضر مدخلًا لنهضة تربوية شاملة تعيد تشكيل فلسفة التعليم، ليصبح أداة لتحرير وبناء الإنسان وتنمية قدرته على الابتكار والتفكير النقدي وتعزيز قيم المسؤولية والعيش المشترك، وتتطلب هذه النهضة سياسات تعليمية وثقافية متوافقة مع التحول الأخضر، تدعم البحث العلمي البيئي، وتشجع ريادة الأعمال المجتمعية، وتتيح للشباب المشاركة في صناعة القرار، ويكتمل هذا البناء عبر إعلام تربوي وثقافي مسؤول ملهم يسهم في ترسيخ الوعي البيئي وتوجيه السلوك الجمعي، من خلال عرض النماذج الناجحة والمبادرات الشبابية في الزراعة المستدامة والطاقة النظيفة وإعادة التدوير، مما يوفر مناخًا إيجابيًا يدعم المبادرة والإبداع، ويعزز الإعلام الثقافي من خلال المسرح والدراما والأفلام الوثائقية والمحتوى الثقافي، والقيم البيئية بأساليب تجمع بين العقل والوجدان، وتترك أثرًا أعمق من تأثير المناهج وحدها عبر ترسيخ الثقافة الخضراء في الوعي الجمعي.
ويمثل توظيف الفنون والوسائط الثقافية، من مسرح ودراما وأفلام وثائقية ومقالات، وسيلة فعالة لترجمة القيم البيئية بصيغ تجمع بين العاطفة والعقل، فتحدث تأثيرًا عميقًا في سلوك الأفراد والمجتمعات، ويعد هذا التأثير الثقافي للإعلام أوسع وأعمق من تأثير المناهج وحدها، لأنه يخاطب المخيلة والوجدان ويغرس الثقافة الخضراء في الوعي واللاوعي الجمعي، لذلك تتضح أهمية بناء شراكات استراتيجية بين المؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام والهيئات الثقافية لصياغة خطاب بيئي موحد يساعد المواطن على فهم التحديات البيئية المعقدة، ويحفزه ليكون جزءًا فاعلًا من الحل. فاقتصاد المستقبل يحتاج إلى إعلام يعلم ويلهم ويرسخ الوعي، ويؤسس لثقافة بيئية داعمة للتحول نحو التنمية المستدامة.
ويضفي البعد الديني والقيمي عمقًا روحيًا وفلسفيًا على مشروع الاقتصاد الأخضر؛ حيث تتفق الرسالات السماوية على احترام الأرض والرفق بالمخلوقات وتحقيق التوازن في علاقة الإنسان ببيئته، وتؤكد النصوص الدينية على إعمار الأرض دون إفسادها، والاستهلاك الرشيد، وحفظ حقوق الأجيال القادمة، وهي مبادئ تتضح في مفاهيم الاستخلاف والتوازان والإعمار والزهد؛ فالاستخلاف يُحمل الإنسان مسؤولية إدارة الموارد بعدل، ويرسخ مبدأ التوازن البيئي، والإعمار يدعو إلى تنمية مسؤولة، بينما يحث الزهد على الاعتدال والترشيد والحد من الهدر، وتلتقي هذه القيم مع مضمون الاقتصاد الأخضر القائم على الكفاءة والعدالة البيئية والاستدامة، كما يسهم دمج هذه القيم في التعليم في ترسيخ حسّ روحي ومسؤولية وجدانية تجاه الطبيعة، ويحوّل حماية البيئة إلى سلوك تعبدي يعززه الوعي القانوني، ومن ثم يعد الخطاب الديني الوسطي دورًا مهمًا في تعزيز تقبل التحولات البيئية وربطها بالمقاصد الشرعية في حفظ النفس والمال والنسل والعقل والبيئة، لتصبح علاقة الإنسان بالطبيعة علاقة تكافل واحترام واستدامة.
ويشكل الاقتصاد الأخضر فرصة لإعادة الاعتبار للريف والمجتمعات الهامشية حيث أصبحت هذه المناطق فضاءات واعدة للتحول الإنتاجي المستدام، من خلال تعزيز الزراعة الذكية، والطاقة المتجددة، والسياحة البيئية، والمشاريع المجتمعية والمحلية المستندة إلى الموارد المتاحة، ويتيح هذا التحول فرص عمل جديدة، ويحد من البطالة، ويحسن جودة الحياة، مع تعزيز العدالة المكانية وتوزيع فرص التنمية على نحو أكثر توازنًا، كما يغرس قيم الرعاية بالبيئة والارتباط بالأرض، ويعيد الاعتبار للمعرفة الزراعية التقليدية عند دمجها بالتقنيات الحديثة، لينتج بيئة ريفية مستدامة تجمع بين الأصالة والتجديد، وتضع المجتمع المحلي في قلب التحول الأخضر.
وتمثل التنمية الخضراء في الريف مشروعًا تنمويًا، وتستلزم هذه التنمية سياسات تراعي خصوصية المجتمعات الريفية، مع تزويدها بمهارات العصر الأخضر، عبر تمكين الشباب والنساء والفئات الهشة، وتشجيع المبادرات البيئية والمشروعات المدرسية والمجتمعية في الزراعة العضوية والطاقة النظيفة وإعادة التدوير من المهارات العملية والتقنية، وتشجيع المبادرات البيئية الصغيرة والاقتصادات المنزلية والمجتمعية، وربط التعلم بالممارسة عبر مشروعات مدرسية ومجتمعية في الزراعة العضوية والطاقة النظيفة وإعادة التدوير، فضلًا عن تحويل المدارس والمراكز المجتمعية إلى حواضن للتعلم البيئي والإنتاج المحلي، كما تدمج المعرفة التقليدية بالتكنولوجيا الحديثة لضمان استدامة الإنتاج وتعزيز القدرة التنافسية، ليصبح الاقتصاد الأخضر في الريف مشروعًا اقتصاديا للكرامة والعدالة، يعيد للإنسان صلته بالأرض وبجذوره ومجتمعه ضمن تنمية شاملة ومستدامة.
ويشكل الاقتصاد الأخضر مدخلًا استراتيجيًا لتمكين المرأة الريفية التي عانت طويلًا من الفقر والبطالة وضعف النفاذ إلى الموارد، حيث يفتح التحول نحو أنماط إنتاج مستدامة آفاقًا جديدة لدمجها كفاعلة أساسية في التنمية، فالمرأة الريفية تمتلك معرفة عميقة بالموارد المحلية وخبرات تراكمية في الزراعة المنزلية والرعاية البيئية، وقدرة على إدارة مشروعات صغيرة ذات أثر اجتماعي مباشر، إلى جانب دورها المركزي في التربية البيئية داخل الأسرة والمجتمع، وفي مجالات مثل الزراعة العضوية والحضرية، والطاقة الشمسية اللامركزية، وإعادة تدوير المخلفات، والصناعات اليدوية المستدامة، والسياحة البيئية، تظهر المرأة قوة إنتاجية قادرة على إعادة تشكيل البيئة المحلية وبناء شبكات اقتصادية اجتماعية قائمة على المعرفة البيئية والتكامل المجتمعي، مما يجعل التمكين الأخضر وسيلة لتعزيز العدالة البيئية وإعادة توزيع فرص التنمية بشكل متوازن.
ونخلص أن التمكين الأخضر عملية شاملة تتجاوز مجرد توفير فرص التشغيل للنساء الريفيات، ليشمل تعزيز الثقة بالنفس، وبناء القدرات في إدارة المشروعات، وتطوير مهارات ريادة الأعمال المستدامة، وإشراك المرأة في صنع القرار البيئي، وتوسيع الوعي البيئي ليصبح جزءًا أصيلًا من الثقافة المجتمعية، كما يدعو الاقتصاد الأخضر إلى إعادة تصميم المناهج التعليمية لتكون أكثر ملاءمة لاحتياجات المجتمعات وأكثر ارتباطًا بمهارات الاستدامة العملية، من خلال إدراج الزراعة الذكية والطاقة النظيفة، واعتماد التعليم القائم على المشروعات، وتعزيز التدريب المهني الأخضر، وتحويل المدارس إلى فضاءات تعليمية منتجة، وتوثيق قصص النجاح النسوية كنماذج ملهمة، وبهذه الرؤية، يعاد تعريف النجاح في المجتمعات خاصة الريفية ليصبح معبرًا عن القدرة على قيادة التحول البيئي المحلي وإعادة بناء المجتمع من أسفل إلى أعلى، فتغدو التنمية الخضراء إطارًا شاملًا يجمع بين العدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية والتمكين الاقتصادي، ويعطي الشعب موقعهم الطبيعي في صياغة المستقبل الأخضر، وللتعليم دوره كأداة للوعي والتمكين والإبداع.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب