فى الثالث والعشرين من نوفمبر لعام 2025، لن تكون الأجواء داخل الكاتدرائية المرقسية بالعباسية اعتيادية، ستختلط رائحة البخور بأصداء التراتيل الفرحة، معلنة عن لحظة فارقة فى تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية المعاصر، ففى ذلك اليوم، ويخطو قداسة البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، خطوات واسعة نحو استكمال مبدأ "الوفاء"، حين يضع يده المباركة على رؤوس خمسة من كبار الأساقفة، مرقياً إياهم إلى رتبة "مطران"، الرتبة الأرفع والأكثر وقاراً فى الهرم الكنسى بعد البطريرك.
هذا الحدث ليس مجرد إجراء إداري لتغيير الألقاب، بل هو رسالة "حب وتقدير" مكتوبة بحبر السنوات الطويلة، موجهة لآباء حملوا عصا الرعاية في أزمنة صعبة، وفى بلاد بعيدة، ومن قلب الصعيد إلى صقيع أوروبا، ومنها إلى السودان الشقيق.
رسائل "التعب والدموع".. البابا يكشف الجانب الإنسانى للخدمة
وتعتبر الرسائل التى خرجت من المقر البابوى إلى الأباء الأساقفة المرشحين للترقية بحسب وصف المقربين، "وثائق محبة"، فقد وجه البابا تواضروس كلمات تلامس القلوب في دعوته للآباء: الأنبا دميان (أسقف شمال ألمانيا)، الأنبا أنتوني (أسقف أيرلندا)، الأنبا يوانس (أسقف أسيوط)، الأنبا برنابا (أسقف تورينو وروما)، والأنبا صرابامون (أسقف الخرطوم).
وجاء في نص الخطاب عبارة: "نحتفل بخدمتكم الأسقفية الجليلة بالجهد والتعب والدموع مع الثمار الوفيرة". هنا، يزيح البابا الستار عن الوجه الخفي للخدمة الكنسية. فالناس يرون الأسقف في كامل حلته أثناء الأعياد، لكن البابا يرى "الدموع" التي ذرفت في الصلوات الخاصة من أجل حل مشكلات الرعية، ويرى "التعب" في السفر والترحال لافتقاد المغتربين، ويرى "الجهد" المبذول في تعمير الأديرة وبناء الكنائس. إن ترقية الأنبا دميان والأنبا برنابا والأنبا أنتوني هي إعلان نجاح للكنيسة القبطية في "المهجر"، واعتراف بأن الزرع الذي غُرس في تربة أوروبا قد أتى ثماره. أما ترقية الأنبا يوانس والأنبا صرابامون، فهي تكريم للصمود والثبات في الجذور، سواء في أسيوط التاريخية أو في السودان الذي يمر بظروف استثنائية.
رحلة عبر التاريخ.. ماذا يعنى لقب مطران ؟
لفهم أهمية ما سيحدث يوم 23 نوفمبر، يجب أن نعود بآلة الزمن إلى الوراء. كلمة "مطران" التي تتردد الآن، هي تعريب للكلمة اليونانية "متروبوليتان" (Metropolitan)، والمشتقة من "ميترو" (أي الأم) و"بوليس" (أي المدينة). في القرون الأولى للمسيحية، ومع اتساع رقعة الإيمان، كان أسقف المدينة الكبيرة (العاصمة) يُمنح سلطة إشرافية على أساقفة القرى والمدن الصغيرة المحيطة به، لتنظيم الخدمة ومنع الهرطقات. كان "المطران" بمثابة "المرجعية الإدارية".
ولكن، مع تطور الزمان وتنظيم الكنيسة القبطية الحديث، تحول المفهوم. لم تعد الترقية تعني "سلطة إدارية" على أساقفة آخرين، بل تحولت إلى "سلطة أدبية". المطران اليوم في الكنيسة القبطية هو "شيخ الأساقفة"، الحكيم الذي يُرجع إليه، والوقور الذي يزين المجمع المقدس بشيبته وخبرته.
هل تتغير صلاحيات الأسقف بعد الترقية ؟
ومع إعلان الأسماء، يدور همس وتساؤل فى الأوساط القبطية: "هل ستتغير طبيعة عمل الأنبا يوانس أو الأنبا دميان ؟ هل سيمتلكون صلاحيات أوسع ؟". الإجابة الحاسمة التي تؤكدها قوانين الكنيسة هى: لا توجد مهام وظيفية جديدة، وأن الترقية من "أسقف" إلى "مطران" هي الحالة الوحيدة التي يترقى فيها المسؤول دون أن يتسلم "وصفاً وظيفياً" جديداً.
وحدة الكهنوت
ومن الناحية "السرائرية" واللاهوتية، الأسقف هو المطران هو البطريرك، وجميعهم يشتركون في درجة "الأسقفية". المطران لا يملك "سراً كنسياً" إضافياً يمنحه القدرة على فعل ما لا يفعله الأسقف. كلاهما يرسم الكهنة، يدشن المذابح، ويحرم ويحلل كنسياً.
استقلالية الإدارة
ويظل المطران "سيد قراره" في إيبارشيته. لا يتدخل في شؤونه مطران آخر، وعلاقته تظل مباشرة مع البابا والمجمع المقدس.
وفى الجلوس يجلس المطارنة عن يمين ويسار البطريرك مباشرة، قبل أقدم الأساقفة.
وفى الصلاة يُذكر اسم المطران مقدماً على الأسقف في الأوشية (الصلوات الطقسية).
وفى القيادة عند غياب البطريرك، يترأس "شيخ المطارنة" (الأقدم في تاريخ الرسامة) جلسات المجمع المقدس والصلوات الرسمية، باعتباره "كبير العائلة".
فلسفة "التكليل" لا "التقاعد"
وفى النظم الوظيفية العالمية، يتم تكريم الشخص عند نهاية خدمته أو تقاعده، أما في الكنيسة، فالمفهوم معكوس التكريم بلقب "مطران" هو تجديد للشباب الروحى، ودعوة لمزيد من البذل.
واختيار هؤلاء الآباء جاء بناءً على معايير دقيقة، أبرزها:
أقدمية السنوات: فغالبيتهم قضوا عقوداً في الخدمة (تتجاوز الـ 30 عاماً)، عاصروا خلالها بطاركة وتغيرات مجتمعية وسياسية، وظلوا ثابتين.
اتساع الخدمة: تحولت إيبارشياتهم من مجرد كنائس محدودة إلى مؤسسات ضخمة تضم خدمات تعليمية، واجتماعية، وتنموية. فأسقفية مثل شمال ألمانيا لم تعد مجرد كنيسة للمهاجرين، بل صارت جسراً حضارياً بين مصر وأوروبا بفضل جهود الأنبا دميان. ومطرانية أسيوط تعد من أكبر التجمعات القبطية في العالم.
رسالة للمستقبل
وتعتبر خطوة البابا تواضروس الثاني المرتقبة في 23 نوفمبر تحمل رسالة ضمنية لجيل الأساقفة والكهنة الشباب. مفادها أن الكنيسة "لا تنسى تعب المحبة". إن الترقية هنا ليست سعياً لمناصب، بل هي "استحقاق" يمنحه الله والكنيسة لمن يثبت أمانته في القليل، فيقيمه الله على الكثير.
وعندما يرتدي هؤلاء الآباء الزي الكهنوتي المميز للمطارنة، ويسمعون الهتاف الكنسي "أكسيوس" (مستحق)، سيكون ذلك إعلاناً بأن خدمتهم التى زُرعت بالدموع، تُحصد الآن بالابتهاج، وأن "المطرانية" ليست مجرد رتبة، بل هى شهادة حياة، وعنوان لمرحلة جديدة من "الأبوة الكاملة" التي تحتضن الجميع.
يترقب الأقباط في مصر والمهجر هذا اليوم، ليس فقط لمشاهدة طقس الرسامة المهيب، بل لتجديد العهد مع كنيستهم التي تكرم شيوخها، وتستند على حكمتهم في مواجهة تحديات المستقبل. إنه يوم "الوفاء" في أبهى صوره، ويوم يتحول فيه "تعب السنين" إلى "تاج من الوقار".