ناهد صلاح

هيام عباس.. كتبت عنها كتابا ولم ألتق بها ربما كان هذا أفضل

الجمعة، 21 نوفمبر 2025 02:36 ص


لم يكن قرارى بكتابة هذا الكتاب عن هيام عباس "تلك الممثلة وهذه الفلسطينية"، الصادر عن مهرجان القاهرة السينمائى بالتعاون مع دار ريشة للنشر والتوزيع، قرارًا تقليديًا أو مريحًا؛ بل كان مغامرة نقدية فى المقام الأول. المغامرة هنا ليست فى جمع المعلومات أو تنظيم المسيرة الفنية، بل فى محاولة الإمساك بجوهر فنانة تتشكل هويتها من طبقات متداخلة: فلسطينية وجليلية وعالمية، ممثلة ومخرجة، شاهدة وفاعلة. إنها شخصية يصعب اختزالها، ويصعب كذلك الإحاطة بها دون الغوص فى التوترات التى شكّلت وجدانها ومسارها.

لم ألتقِ هيام عباس، وهذه كانت نقطة القوة الأولى فى المشروع وليست نقطة ضعف. فالبحث النقدى، حين يتحرر من سطوة اللقاء الشخصى، يمنح مساحة أعمق لإعادة قراءة التجربة عبر أعمالها لا عبر روايتها الذاتية. كنت أتعامل مع هيام عباس كما يتعامل الناقد مع نص سينمائي: يُخضعه للتأمل، للتفكيك، للمقارنة، ولأسئلة لا هدنة فيها.

فى بدء الكتابة، واجهت سؤالًا نقديًا أساسيًا: كيف قدّمت هيام عبّاس فلسطين من دون أن تتحول إلى "ممثلة القضية"؟.. هذا التوازن بين الحضور السياسى والانخراط الإنسانى هو أحد محاور الكتاب. لأن هيام لم تجعل فلسطين شعارًا؛ جعلتها سياقًا، ظلًا، نبرة صامتة تعود فى ملامحها أكثر مما تعود فى تصريحاتها. هذا ما منح أعمالها وزنًا فنيًا يتجاوز التصنيف الأيديولوجي.

أدوارها المتعددة تمثل تحولات فنانة تقرأ العالم وتعيد إنتاجه، لا تنقل نفسها إليه فقط. فى هذه المسيرة، بدت هيام وكأنها تتحرك بين ثقافتين: الأولى جغرافية مشحونة بالتاريخ، والثانية سينمائية واسعة تفرض منطقها الخاص. النقد هنا لا ينحاز إلى الجانب الوجدانى بقدر ما يدرس قدرتها على المناورة داخل تلك المساحات.

فى البحث عن هويتها الفنية، كان على التعامل مع تناقضات تبدو متباينة: كيف يمكن لابنة دير حنا أن تتصرف بثقة فى فضاءات عالمية؟ وكيف يمكن لفنانة عالمية ألّا تتخلى عن الذاكرة القروية التى شكّلت لغتها الأولى؟ هذا السؤال ليس عاطفيًا بل نقديًا: فالممثل الذى يفقد ذاكرته يفقد مركز ثقله. وهيام عباس، كما تكشف أعمالها، لم تفعل ذلك يومًا.

عندما درست أدوارها الأوروبية والأمريكية، لاحظت أنها لا تُصدّر هويتها كشرط، ولا تتخلى عنها كعبء؛ بل تجعلها طبقة ضمن طبقات الشخصية. هذه القدرة على إدارة الهوية، أو ربما على تحويلها إلى قيمة جمالية، هى واحدة من العناصر التى يستكشفها كتابى نقديًا.

من أبرز الجوانب التى لفتتنى نقديًا هو ما أسميته فى الكتاب "اقتصاد المشاعر" لدى هيام عبّاس. هى ممثلة تُقدّم الكثير بالقليل، وتبنى تأثيرها على ما لا يُقال. هذا الأسلوب يشبه مدرسة تمثيلية قائمة على الحد الأدنى الظاهر والحد الأقصى الداخلى، وهو ما رأيته فى أعمالها مع مخرجين عرب وأجانب على حد سواء.

تجربتى النقدية مع الكتاب كانت أشبه بتحدٍ فكري: كيف يمكن تقديم سيرة فنانة دون الوقوع فى فخ الاحتفاء؟ وكيف يمكن نقد خياراتها الفنية دون إسقاط أحكام جاهزة على مسيرتها؟ كان على، فى كل فصل، أن أوازن بين الرؤية التحليلية والتأمل الإنسانى، وأن أتعامل مع هيام عباس كظاهرة فنية لا مجرد موضوع للبحث.

لم أسعَ إلى تقديم كتاب يصفق لصاحبته، بل كتاب يفكر فى تجربتها، يكشف مناطق القوة، يتوقف عند مناطق التردد، يقرأ بصمت المساحات التى لم تُقل فى حياتها أو فى مسارها.

عند انتهاء الكتاب، اكتشفت أننى لم أكتب فقط عن هيام عباس، بل عن علاقتى بالسينما نفسها، عن فهمى للهوية باعتبارها سؤالًا لا إجابة. كانت الرحلة نقدية بقدر ما كانت إنسانية، رحلة بحث عن فنانة غير قابلة للإختزال، عن تجربة تستحق أن تُقرأ بقدر ما تستحق أن تُحتفى بها.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب