أهمية كبيرة تحظى بها روسيا في إطار الدبلوماسية المصرية، وهو ما بدا في العديد من المشاهد، ربما أقربها الشراكة بين الجانبين، في إطار بناء محطة الضبعة النووية، والتي تمثل طفرة تنموية كبيرة، تعكس لب اهتمام الدولة المصرية في اللحظة الراهنة، والتي تعتمد في دبلوماسيتها على هذا الإطار باعتباره نقطة الانطلاق نحو تعزيز العلاقات، بما يحقق المصالح المشتركة، ويساهم في تنحية الخلافات، إن وجدت، وهو النهج الذي تبنته القاهرة في إدارتها للعديد من الملفات، وكذلك في إعادة هيكلة علاقاتها بالمحيطين الدولي والإقليمي، لتتحول من دور الحليف، إلى الشريك الحقيقي والفاعل، الذي من شأنه المساهمة في تحقيق الأهداف العالمية، وحل الصراعات الدولية.
ولعل الفارق بين التحالفات الدولية، بصورتها التقليدية، والشراكات التي دشنتها مصر، في السنوات الأخيرة، تتجلى في إضفاء قدر كبير من المرونة على المواقف التي تتبناها الدولة، ففي إطار الشراكة، لا تبدو الحاجة ملحة إلى إعادة رسم سياساتها لتتماهى مع رؤى القوى الكبرى، وإنما يمكن من خلالها الوصول إلى نقطة التقاء في القضايا الخلافية، تتحقق عبرها التوافقات، وهو ما بدا في النهج الذي تبنته مصر في إدارة أزمة غزة، عبر بناء توافق واسع النطاق مع القوى الدولية المعروفة بمواقفها المنحازة لإسرائيل، انطلق من الثوابت، ليساهم في تضييق الفجوة من ذريعة الدفاع عن النفس التي تبناها الغرب لتبرير العدوان الوحشي على القطاع، مرورا بالإدانات الدولية المتواترة، وصولا إلى سلسلة غير مسبوقة من الاعترافات بالدولة الفلسطينية.
وعند الحديث عن منهج الشراكة الذي تبنته الدولة المصرية، ينبغي الالتفات فورا إلى روسيا، باعتبارها نقطة الانطلاق في هذا الإطار، فعبر بوابتها أرست القاهرة خروجا هادئا من التحالفات التقليدية، عندما زارها السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، في أعقاب ثورة 30 يونيو، ليعلن انفتاحا غير مسبوق، وفي لحظة بالغة الحساسية، على كافة الأطراف الفاعلة في المعادلة الدولية، وهي الزيارة التي تجاوزت كونها مجرد رسالة مفادها أن امتلاك القاهرة كافة خيوط الاستقرار، حتى في الوقت الذي تعاني فيه ضغوطا دولية كبيرة، نحو ما هو أبعد من ذلك، عبر سياسة الاحتواء التي مارستها تجاه الأطراف الأخرى.
العلاقة بين القاهرة وموسكو، لم تقتصر في واقع الأمر على البعد التنموي، فهناك العديد من المحاور الأخرى، التي ارتكزت عليها العلاقة، في إطار من التعاون بين الجانبين، وهو ما يعكس التوافقات الكبيرة، في العديد من الملفات، منها أزمة غزة الأخيرة، والتي شهدت خلالها أروقة مجلس الأمن توافق مصري روسي، خاصة فيما يتعلق بقرارات وقف إطلاق النار، التي أفسدها الفيتو الأمريكي في الكثير من الأحيان، والملف الليبي مرورا بقضايا الأمن الغذائي والسياحة، وحتى الانغماس في شراكة أكبر تحت مظلة "بريكس" والتي تمثل انعكاسا صريحا لمرونة الشراكات، باعتبارها تضم دولا لا تتطابق في مواقفها، ولكن لديها مساحات يمكن أن تلتقي من خلالها، وهو ما يمثل شكلا جديدا في العلاقات الدولية الجمعية.
تلك الحالة خلقت علاقات وثيقة بين القاهرة ومحيطها الدولي، بتعقيداته وصراعات، فصارت حلقة الوصل بين الشرق الصاعد بقوة جراء طفرات كبيرة تشهدها روسيا والصين، والغرب المرتبك جراء الانقسام الذي ضرب المعسكر الغربي، خاصة بعد صعود الرئيس دونالد ترامب إلى عرش البيت الأبيض، للمرة الأولى، في 2017، وسياساته التي يراها قطاع كبير انقلابا على التحالف الوجودي مع أوروبا، فصار نهج الشراكة الذي أرسته مصر، كبديل للتحالفات التقليدية، انطلاقا من بوابة موسكو، بمثابة الملاذ الأخير، فتحولت أوروبا نحو التقارب مجددا مع الدولة المصرية، إلى حد استلهام نهجها سواء في علاقتهما المباشرة، من خلال ترفيع العلاقات إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، أو في إدارة علاقتها مع العالم الخارجي.
وحتى العلاقة مع الولايات المتحدة، ربما لم تتأثر بالنهج المصري، القائم على الشراكة مع مختلف أطراف المعادلة الدولية، وعلى رأسهم روسيا، رغم الخصومة التاريخية، بل على العكس، ساهمت في إضفاء المزيد من الزخم عليها، وهو ما يبدو في الاعتماد الأمريكي المطلق على الدور المصري في إدارة أزمة غزة إقليميا، بالشراكة مع قطر، بالإضافة إلى حضور الرئيس ترامب قمة شرم الشيخ، في تقدير بالغ للدور المصري، والذي انطلق من توسيع دائرة علاقاته على المستوى العالمي، وعدم التزامه بتحالف بعينه، على أساس من الشراكة.
والواقع أن التحول المصري من نهج التحالف، القائم على التبعية المطلقة لقوى بعينها، إلى الشراكة المرنة، ساهم ليس فقط في خلق "سنة" دولية جديدة، في إدارة العلاقات الدولية، بينما خلقت آفاق أوسع للدور المصري، تتماهي في واقع الأمر مع ما تحظى به الدولة المصرية، فيما يتجاوز النطاق الإقليمي الضيق، وهو ما يفتح الباب أمام دور كبير فيما يتعلق بالأزمات الدولية المعقدة، في إطار الصراع بين روسيا والغرب، على سبيل المثال، بفضل احتفاظها بمسافة متساوية بين جميع أطرافه.
الدور المصري في هذا الإطار لا يقتصر على مجرد الوساطة التقليدية، وإنما يمتد إلى خلق حوار بين الأطراف المتصارعة، من شأنها التخفيف من حدة الصراع المتأجج، نحو إطار تفاوضي، يخلق شراكة عملية داخل القارة الأوروبية، انطلاقا من المصالح المشتركة، في ضوء الحاجة الملحة للتعاون، للتغلب على العديد من الأزمات، وعلى رأسها أزمة الطاقة والأمن الغذائي، والتي تعتمد فيها أوروبا الغربية بقدر كبير على روسيا، مقابل تخفيف العقوبات المفروضة على موسكو، تمهيدا للوصول إلى صيغة تفاوضية بشأن أوكرانيا.
والواقع أن هذا النهج ليس جديدا تماما على الدبلوماسية المصرية، فقد سبق لها وأن انتهجته في إدارة الصراع الإقليمي، في الشرق الأوسط، عبر شراكات ضيقة شهدت اتساعا تدريجيا، وعلى رأسها الشراكة الثلاثية التي جمعتها مع كلا من العراق والأردن والتي أسهمت في خلق منصة "مؤتمر بغداد" والذي جمع أطرافا متصارعة على مائدة تفاوض واحدة، دفعت في نهاية المطاف إلى إذابة عقود من الجليد.
وهنا يمكننا القول بأن العلاقة المصرية الروسية تحظى، ليس فقط بقوتها، وإنما بحيويتها، باعتبارها نموذجا دوليا تم استلهامه عالميا، في العديد من الأطر الدبلوماسية خلال السنوات الماضية، وهو ما يضفي عليها المزيد من الزخم، ويضيف إليها الكثير من الاهتمام، مما يفتح أفاقا من التعاون الذي يصب في صالح البلدين، ويساهم في حل الصراعات العالمية.