فيسبوك
واتساب
-
"الطفل المعصوب العينين": طقس حاسم يختتم انتخابات بطريرك الأقباط الأرثوذكس
تعود جذور الكنيسة القبطية الأرثوذكسية إلى فجر المسيحية، فمؤسسها هو القديس مار مرقس الرسول، الذى يُعدُّ أول بطريرك لها، وعلى مدار قرون طويلة، تعاقب على الكرسى المرقسى 118 بطريركًا، كان آخرهم قداسة البابا شنودة الثالث. أن منصب بابا الإسكندرية يحمل بين طياته أعلى سلطة روحية وتنفيذية، وتمتد ولايته لتشمل مصر والسودان والحبشة وليبيا، بالإضافة إلى "أبرشيات الاغتراب" حول العالم. لكن، لم يكن اختيار هذا القائد الروحى يسير على وتيرة واحدة، بل تطورت طرق الاختيار عبر العصور، لتستقر فى النهاية على نظام يجمع بين الانتخاب والطقس الإلهى، يُعرف باسم "القرعة الهيكلية".
تنوع أساليب الاختيار على مر العصور
منذ رحيل مار مرقس الرسول، تباينت الآليات التى اعتمدتها الكنيسة لاختيار خلفائه. فى البداية، حظى الأنبا أنيانوس بالمنصب بتوصية مباشرة من القديس مرقس نفسه. وفى الفترات اللاحقة، كان الاختيار غالبًا ما يقع على مديرى المدرسة اللاهوتية بالإسكندرية أو تلاميذها، حيث كان يجتمع الكهنة والأساقفة ويتشاورون مع الشعب المسيحى للاتفاق على شخص البطريرك. وفى بعض الأحيان، كان الكرسى المرقسى يُشغل بناءً على وصايا الباباوات السابقين بعد موافقة الأساقفة والشعب.
ومع تطور الكنيسة، ظهرت طريقة فريدة ومميزة للاختيار، هى التى باتت تُعرف لاحقًا باسم "القرعة الهيكلية". فقد كان الأساقفة والكهنة يجتمعون ويضعون أسماء المرشحين فى رقاع صغيرة على الهيكل، وبعد الصلاة بنية خالصة، يقوم غلام صغير بمد يده ليأخذ رقعة، والاسم الذى يخرج هو الذى يُقدم بطريركًا. هذا التقليد ترسخ مع الزمن، ليصبح الآن جزءًا من النظام المعمول به فى اختيار البابا، والذى تنص عليه لائحة 1957، والتى تم على أساسها انتخاب البابا كيرلس السادس عام 1959، وخلفه البابا شنودة الثالث عام 1971.
القرعة الهيكلية: طقس إلهى يختتم العملية الانتخابية
تُعد "القرعة الهيكلية" الآن أحد أهم الطقوس المتبعة لجلوس البطريرك الجديد، إذ تضفى على الاختيار بُعدًا روحيًا، حيث يُعتقد بأنها إعلان لإرادة السماء. هذه القرعة لا تتم إلا بعد انتهاء العملية الانتخابية التى يخوضها مجمع الكهنة والأعيان من الشعب الأرثوذكسى بعد تزكية عدد من المرشحين من قِبل المجمع المقدس.
مراحل القرعة الهيكلية:
التصفية النهائية: بعد إجراء الانتخابات التى يخوضها المرشحون الذين تم تزكيتهم، يتم تصفية النتائج لاختيار ثلاثة مرشحين حصلوا على أعلى الأصوات.
إعداد الأوراق: تُكتب أسماء المرشحين الثلاثة على أوراق، وتوضع كل ورقة فى حلقة معدنية منفصلة وتُختم بالشمع الأحمر.
الوضع على المذبح: توضع الحلقات الثلاث فى صندوق صغير على المذبح، ثم تُوضع فى إناء زجاجى كبير على منصة مرتفعة.
الصلوات والاختيار: بعد الصلوات المتبتلة، يُختار طفل صغير معصوب العينين ليقوم بسحب ورقة من الثلاثة، والاسم الذى يظهر هو اسم البطريرك الجديد.
الباباوات الذين اختيروا بـ "القرعة"
لم تكن "القرعة الهيكلية" مجرد تقليد حديث، فقد استخدمت فى اختيار 11 بطريركًا فى التاريخ الكنسى الأرثوذكسى، منهم البابا كيردونيوس الرابع والبابا يؤانس الرابع والبابا ميخائيل الثانى وغيرهم. وفى التاريخ المعاصر، كانت القرعة حاسمة فى اختيار اثنين من أبرز باباوات القرن العشرين، وهما:
قداسة البابا كيرلس السادس: تم انتخابه عام 1959 بعد تطبيق لائحة 1957
قداسة البابا شنودة الثالث: بعد رحيل البابا كيرلس السادس فى مارس 1971، خاضت الكنيسة عملية انتخابية انتهت بتصفية المرشحين إلى ثلاثة: نيافة الأنبا صموئيل، نيافة الأنبا شنودة، والقمص تيموثاوس المقاري. فى قداس القرعة الهيكلية، تم اختيار الطفل "أيمن منير كامل" لسحب الاسم، ووقع الاختيار الإلهى على الأنبا شنودة، ليصبح البابا الـ 117.
إن القرعة الهيكلية، التى لا تزال تقليدًا متبعًا فى الكنائس الأرثوذكسية القبطية حول العالم، تمثل جسرًا فريدًا يربط بين إرادة الشعب المتمثلة فى الانتخاب، وبين الإيمان بأن القيادة الروحية للكنيسة هى فى نهاية المطاف اختيار وتدبير من الله.
