حازم حسين

حبّذا لو صار الإجماع جامعة.. عن المتحف المصرى الكبير مكانا ومكانة وفرصة تاريخية

الأحد، 02 نوفمبر 2025 02:00 م


فكرة مهمة، ورحلة مُلهمة، وإنجاز يبين عن رؤية وإرادة، وعن عزم وُرِّث فى مصر؛ فلم تنقطع سلسلته من الأجداد إلى الأحفاد. وبقدر ما يُضيف للحاضر والتاريخ؛ فإنه قادر على أن يكون منارة عِلمية وتعليمية لا مثيل لها فى المستقبل.. عن لحظة مصر الجامعة فى المتحف الكبير أتحدث، وعن جامعة المصريات أيضًا.


كثيرا ما يكون الماضى عبئا على الحاضر؛ أقلّه بالمقارنة الدائمة بين ما كان وما هو كائن بالفعل. يُشبه الأمر أن تكون حفيدًا لشخصية ناجحة وذائعة الصيت؛ ثم يُصبح ما أنجزتْه سابقًا عقبة فى طريق إنجازاتك اللاحقة.


وما من أُمّة تحمل على كاهلها جبل الإعجاز، مثلما يحمله المصريون، وقد أتعب قدماؤهم العالمَ وحيّروه، وصار لزامًا على المُحدثين منهم أن يُواصلوا المسيرة، مُحمّلين بالإرث والفخر والثِقَل العظيم!


ما عشناه أمس ليس عاديا على الإطلاق. إنه حدث كبير وجليل واستثنائى؛ مهما تحلّينا بفضيلة التواضع أو نظرنا للوقائع من منظورنا؛ كمصريين شادوا أرفع الحضارات وأكثرها غِنىً وثراء، ويُحوّطهم المجد من جهات الأرض وأعماقها؛ ولمَّا يُكتَشَف منه إلى اليوم إلا القليل.


المتحف المصرى الكبير أهم كثيرًا من منشأة أثرية يمتلئ العالم بأبنية تتشارك معها الصفة والتعريف، ولا تخلو عاصمة من عنوان يذهب إليه الراغبون فى زيارة الماضى. إذ إنه لا يكتفى باستعادة القصة الغابرة؛ بقدر ما يمنحها بُعدًا جديدًا، ويُضيف إلى السردية الوطنية ما كان غائبًا عنها، فى السياق أو المكانة والمكان، وعلى قاعدة تُفارق صيغة البكاء على الأطلال؛ لتُعيد بعثها وتمنحها وهجًا مُعاصرًا وأقرب إلى حال الإحياء والبعث.


فى الشكل؛ فإن مصر تُجدّد شباب ماضيها التليد، وتبثّ فيه روحًا حيّة ونابضة، وقادرة على إغناء القديم بالجديد، ووضعه على قارعة التداول ببلاغة وجاذبية تشدّ العابر وتُطرب المُقيم.


وفى المضمون؛ يبدو الحدث أعمق من ردِّ اعتبارٍ للتاريخ المنسىّ، أو تصويب أخطاء التعامل معه لأزمنة طويلة بما لا يستحق أو يليق به. إنه عودة إلى الجذور، وقوف على المنابع، وإعادة تعريف للهوية بصفاء لا يُخالطه الشكّ، وانحياز واضح لا يُصادر التنوّع؛ لكنه لا يقف أسيرًا برضاه لمسلك وحيد واختزالى فى تعريف مصر والمصريين.


ليست شوفينية عابرة عندما نقول «جاءت مصر ثم جاء التاريخ»، تلك حقيقة يعرفها المُهتمون بالسلسلة الحضارية للإنسانية على وجه الأرض، ولدينا من الأدلة عليها ما لا يتوافر للآخرين فرادى ومجتمعين.


ولا نتحدث عن طللٍ دارس، ولا نقوش بدائية فى سقوف الكهوف؛ بل عن اجتماع مدينى بالغ التطور والإتقان بالقياس إلى زمنه البعيد؛ بل لبعض الأزمنة التالية له إلى وقت قريب. عُمران وهندسة وفنون وإبداعات وأنماط معيشة، أنثروبولوجيا مُكتملة، وثقافة رفيعة ولها ملامح واضحة؛ وقتما كانت البشرية تتعثّر فى التقاط الثمر، أو تحتمى من الجوارح والمفترسات بالاختباء والارتحال، وما من دالّة عليها سوى افتراض أن الأرض لم تخلُ وقتها من ساكنين.


معنا حضارات كُبرى من دون شكّ، فى الصين والعراق وفارس وبعض أمريكا اللاتينية؛ لكنها جميعًا أتت تالية لنا، وبدأت بعد مصر القديمة من نقطة أوهن كثيرًا مِمّا اخترعه المصريون من الصفر تقريبا.


ومثلما كانت حضارة الإغريق فى جُلّ جوانبها فرعًا على أصلٍ؛ فالغالب أنَّ روحنا انطبعت فى وجه العالم القديم، وانتقل إرثُنا عبر الجغرافيا والمحيطات بقوّة الأثر الخلّاق، أو باجتهادات المُشاكلة والمحاكاة والتقليد.


لا شىء يُكافئ الحفاوة الشعبية بالحدث، وآيتها الجليّة فى احتفال المصريين على مواقع التواصل بالمتحف وافتتاحه، وحساباتهم التى تحوّلت معرضًا لصورهم بالملابس المصرية القديمة. هذا الزهو بالأصيل الذى طُمِرَ فى وعينا طويلاً؛ لهو أكبر المُكتسبات وإغلاها وأعلاها قيمة، وإن كان الصرح نفسه آية فى الإبداع والإنجاز إلى حدودٍ ترتقى لدرجة الكمال.


والتفرُّد يُلازمه من منشأ الفكرة؛ بمجرّد اختيار الموقع والوقوع على الفلسفة التى يُراد منه أن يُترجمها أو يكون عليها. مساحة فسيحة عند كتف الأهرامات الثلاثة، وتصميم ينطلق كأشعة الشمس من رؤسها إلى تجمُّع فى حلقة مخروطية على بُعد 4 كيلو مترات، ليكون امتدادا متوهّجًا لمحطة الماضى الرابضة على علوٍّ ظاهر، وبُعدًا رابعًا يُجسِّد القديم فى الزمن الحديث.


كأن الأهرامات تخلق الرابطة العضوية مع الأجداد؛ فيما يشدّها المتحف لتكون أكثر اندماجا فى زمننا، وشاهدًا على القماشة التى تُنسَج للمرة الأولى كحكاية واحدة. تتجلّى بأرفع صورها فى التحوّل عن مفهوم العرض المتحفى التقليدى، بدلاً من واحدية القطعة بذاتها وقصّتها، لتصير جزءًا من معمارية رمزية وتعبيرية تُقدِّم حكيًا سياقيًّا، وسردية بانورامية تصنع من النثارات التى كانت موزّعة فى الأرجاء، لوحة فسيفسائية جامعة، وخريطة يُتَوَصّل منها إلى مفهوم شامل عن العظمة وكمال الإبداع.


على مساحة تقارب 490 ألف متر مربع، ونحو 12 قاعة عرض تقوم الواحدة منها بمقام متحف كامل فى بلدان أخرى، بهو فسيح؛ ثم درَج عظيم تصّاعد عليه الخُطى بين الحقب وملوكها، وصولاً للذروة عندما تتجسد الأهرامات من وراء الجدار الزجاجى السميك، كأنها معروضة بين المقتنيات، أو كأنها مُتفرّج على الزوار فى حديقة الحضارة التى عاشت تحرسها قرونا، وما زالت وفيّة لأدوارها ومهمّتها المقدسة.


تكلّف المتحف بحسب التقديرات نحو 1.2 مليار دولار. الرقم أقل من القيمة الثقافية، وأكبر من قدراتنا الذاتية. والرسالة أنه لا شىء يعدل الاتكاء إلى تاريخ مجيد، ترخص أمامه كل الأعباء، ويُمثّل ثورة قومية لا يُعَزّ عليها الاهتمام، لأنها لم تبخل علينا بالمجد والزهو والعوائد المُتجدّدة مع الأيام.


لا سيما أنه يُتَوَقّع أن يستقبل قرابة 5 ملايين زائر سنويا، وأن يُدرّ 800 مليون دولار دخلا سياحيا مباشرًا فى مراحل التشغيل الأولى، ناهيك عن أثرٍ يتّسع عن حجمه وطاقة استيعابه؛ ليكون محورًا للتنمية فى محيطه وخارجه، ومُحرّكًا لحزمة عريضة من الأنشطة والفعاليات فى كل أفرع الاقتصاد.


يستصحب المكان معه رواجًا للمنطقة كلها، بما يعنيه من حركة وافدة، ومُعدّلات إشغال عالية، ونموّ للقطاعات الإنتاجية والخدمية، وعشرات المهن والصناعات اللصيقة بالسياحة والخادمة لها.


وذلك؛ بجانب أدواره المعرفية والعلمية عبر معهده ومراكزه المتخصصة فى الترميم، والقاعات النوعية، وإمكاناته اللوجستية فى استضافة المؤتمرات والفعاليات، وغير ذلك من تفاصيل خَطِّط لها ضمن مشروع ثقافى شامل ومتنوّع، لا مُجرّد رُدهات وصناديق عرض ومخازن متحفية.


ربما لا يعرف كثيرون أنه كيانٌ أكبر مما يدلّ عليه العنوان؛ إذ يحتضن متحفا نوعيا لمراكب الشمس، وخمس حدائق متخصصة، ومنطقة للكثبان الرملية ترتبط بمدرّج الأهرام مع حديقة المعبد، ومسلّة فريدة بعرضها مُعلّقة بما يُظهر أبعادها الأربعة وخراطيش القاعدة. بجانب مناطق الخدمات واستراحات الزوار ومواقف السيارات.


أكتب قبل الحفل المُنتظر مساء السبت؛ لذا لا تعليق لدىّ عليه، وإن كُنت مطمئنا إلى أنه لن يقل جلالا ومهابة عن موكب المومياوات، وسيُجسّد صورة جديدة من صور الافتخار بالحضارة المصرية، وإعادة إحياء بريقها فى نفوس أبنائها، للدرجة التى تتضاءل أمامها كل الضغوط والأعباء؛ لأنه لا شىء يُعادل أن يعود المصريون لجذورهم وأصولهم العريقة، وألا يروا تناقضًا بين أية صِفَة أُضيفت لهم، وأنهم أصل الرقىّ والمدنية والعمران فى العالم كلّه.


استغرق المتحف ما يزيد على ثلاثة عقود بين الحلم والواقع. ونحو اثنتين وعشرين سنة منذ وُضِع حجر أساسه فى 2002، إلى تشغيله تجريبيا فى العام الماضى. شاء القدر، أو العقل الواقف وراء التفاصيل، أن تُنجَز المهمّة فى زمن يُشبه ما استغرقه بناء الهرم الأكبر؛ فكأن التشابه بين الإنجازين يتخطّى البروز معًا فى لوحة واحدة، إلى التطابق بين الصنعة الثقيلة والقيمة المعنوية والرسالية فى الحدثين.


يعود الفضل بالدرجة الأكبر إلى الجهد المبذول فى آخر تسع سنوات. ولا يُستَثنَى منه بطبيعة الحال وزير الثقافة الأسبق فاروق حسنى، والرئيس الراحل مبارك؛ لأنهما وضعا اللبنة الأولى التى تأسّس عليها المشروع؛ وإن تعطّل طويلاً فى زمنهما. وتلك إشارة أخرى عظيمة إلى فكرة الاتصال فى سلسلة حضارية واحدة؛ وأن الخراطيش لم تَعُد تُشطَب أو تُمحَى منها أسماء مبتكريها الأوائل. نُضيف إلى ما فات؛ ولا نكتب عليه أو بدلاً منه.


إنما التذكُّر لا يعنى الإفراط أو التفريط، وقد رأيت كثيرين يحاولون إحالة الحدث بكامله إلى مرحلة سابقة؛ حتى أن أحد الكتّاب فى مطبوعة يومية زعم أن المتحف جاهز للافتتاح منذ العام 2010، وهو ما ينطوى على نقص معرفة أو تدليس مقصود؛ ذلك أن ما افتُتِح وقتها كان مركز الترميم فحسب؛ اتصالا بدوره فى تجهيز المعروضات المقرر أن يضمها الصرح الجديد بعد اكتمال عمارته.


تعود الفكرة للعام 1992، وقد استغرقت عشر سنوات من المسوح والدراسات حتى وضع حجر الأساس، ثم ثلاث سنوات إضافية قبل الشروع فى العمل، وضعفها إلى أن اندلعت أحداث 25 يناير، ولم يكن أتمّ العاملون إلا معامل الترميم وبالكاد تبرز القواعد من الأرض. جمود تام لأكثر من ثلاث سنوات؛ ثم مُراجعة فى العام 2014 للمشروعات المتعطّلة؛ فأطلّ المتحف بينها، وبدأ البحث عن مصادر للتمويل واستعادة العمل، وهو ما انطلق بهمّة وإيقاع منتظم بعد ذلك بسنتين.
حتى 2016 لم تكن نسبة الإنجاز تتخطّى 16%؛ ما يعنى أن السنوات الثمانى التالية أُنجِز فيها ما يُقارب 84% من المشروع، وبكُلفة قياسية ربطًا بتغيّر الزمن وأوضاع الاقتصاد، وبالتزامن مع مشروعات أُخرى عملاقة كان يجرى تنفيذها فى البنية التحتية وكل مرافق الدولة المتهالكة. أى أن دولة ما قبل يناير التى كانت تُنجز طريقًا أو كوبرى فى سنوات طويلة ضيّعت قرابة العقدين فى الحلم، ودولة ما بعد يونيو أنجزته فى أقل من عقد واحدٍ.


يحق لفاروق حسنى أن يُذكَر قطعًا، ويُشاد بفكرته وجهوده؛ إنما من دون تزيُّد أو مُجاملات مُفرطة. لا يُنتَقَص من دوره، ولا يُبالَغ فيه أيضًا. أمّا الصداقات والعلاقات الشخصية بين الناس فلها مدار آخر؛ إلا أن يبخس اللاحقين أشياءهم، أو يُضيف لأرصدة السابقين ما لم يجتهدوا أو يُوَفّقوا فى تحصيله.


المتحف مشروع دولة، ينتسب لكل مرحلة منها بقدر ما أنجزته، وإذا كان قد بدأ فى التسعينيات؛ فإنه ابن الزمن الراهن، ومن كَدّ وعرق الذين أحيوه واشتغلوا فيه بعدما كان نسيًا منسيًّا.


بدأت أعمال التمهيد قبل عشرين سنة، ومركز التجهيز فى العام التالى، وتوقف العمل تماما فى 2011. ثم عاد بعد خمس سنوات، واكتمل فى 2021 بالتزامن مع قرار إنشاء وتنظيم هيئة المتحف، وبدأ تشغيله فى 2024، وافتُتح رسميا فى 1 نوفمبر 2025.


تلك حقائق المواقيت التى تُجيز لنا جميعًا أن نفخر به، وأن نحتفى بصنّاعه كلهم على قدر إسهاماتهم، وأن نفتخر بالدولة التى لم تعد تكره ذاكرتها، أو تقتص من نفسها بالتعالى على أفكار السابقين، وقد عشنا قرونًا فى تلك الجائحة الرسمية والشعبية على السواء.


والاتصال هُنا يُذكّرنا بمصادفة أخرى سعيدة؛ أن يتزامن افتتاح المتحف الكبير مع ذكرى ثقافية كانت حدثًا بهيجًا وصناعة ثقيلة فى وقتها؛ إذ فى مطلع نوفمبر قبل نحو 156 سنة استقبل الخديو إسماعيل ضيوفه من ملوك العالم فى افتتاح دار الأوبرا بوسط القاهرة، تزامنًا مع الاحتفال بتشغيل قناة السويس.


وإذا كُنّا احتفلنا قبل عشر سنوات بإضافة ممر ازدواج جديد للقناة؛ فإننا اليوم نُضيف معلمًا ثقافيًا فى يوم يتصادف أنه يستعيد قصة رجل يتصل اسمه بالقناة وبتاريخ المتاحف فى مصر؛ أكان ببناء متحف بولاق «الأنتكخانة» وافتتاحه فى 1863، أم بالمتحف المصرى الذى بُنى فى ميدان يحمل اسمه؛ قبل أن يتحول بعد ثورة يوليو إلى ميدان التحرير.


أهم ما ينطوى عليه الإنجاز الجديد أنه استدعى الماضى ولم يذهب إليه. تجاوز خبراتنا السابقة عن الآثار والصنعة المتحفية، وأعاد تهيئة منظومة عرضها والتعاطى معها من منظور جديد. عبر شخصية معمارية حداثية متطورة، تتعانق مع الإرث العريق ومفرداته بتآخٍ ومحاورة جمالية ومعرفية أكثر نضجًا وتعمُّقًا؛ فكأنه لا يتّكئ على السلف المصرى الصالح فحسب؛ بل يُضيف مِدماكًا جديدًا إلى عمارتهم الموروثة؛ لتنجلى وتظل قائمةً ومُتجدّدة فى وجه الزمن.
يحتفى البناء بفكرة الاتساع والضخامة، ويتلاقى مع الأهرامات مكانًا وسياقًا، ومع مفاتيحها التعبيرية بالتيمة الهرمية الحاضرة فى المداخل وتصاميم الزوايا والردهات والواجهات الزجاجية.


تصميم يُحاول أن يُطاول المجد القديم، مستندًا إلى المُعاصرة وجماليات الهندسة المعمارية الجديدة، وعبر أفكار خضراء أو مشغولة بالاستدامة والطبيعية، من تدرج الأسقف وزوايا التهوية والإنارة الطبيعية، إلى أنظمة ترشيح الضوء والهواء وديناميكية التبريد وضبط الحرارة والرطوبة وغيرها. فضلا على مركز الترميم تحت الأرض؛ ليوفر أفضل حماية ممكنة، ولا يجرح شخصية المكان وهُويّته البصرية.


لن يكون المتحف مجرّد بديل أكثر اتّساعًا ومعاصرة عن سلفه فى التحرير؛ بل قاعدة علمية ومعرفية تتجاوز منصة العرض البسيطة، لتكون مُرتكزًا نوعيًّا لإبراز سردية مصر التاريخية، وتسويقها، وإعادة إنعاش السياحة الثقافية، وتقديم نموذج عملى لفلسفة التنمية المحيطية المُتكاملة، التى يكون فيها المشروع قاطرة لمنطقة ومشاريع ومنهجية تحديث شاملة تنبنى عليه، وتتولّد عمّا يُرسيه من أسس للانطلاق وتحضير مجاله الحيوى وتوسيع مداه أيضًا.


يروج عن المتحف الكبير أنه أكبر صرح ثقافى لحضارة واحدة فى العالم، وتلك حقيقة من دون شَكّ؛ لكن القيمة تتجاوز ضخامة البناء واتّساع القاعات. إذ يملك آخرون أن يَشيدوا أبنية أضخم وقاعات أكثر اتّساعًا؛ لكنهم لن يتمكّنوا من ملئها بآلاف القطع من حضارة واحدة أو عشرات الحضارات.


اللوفر يعرض 38 ألف قطعة تُمثّل عُشر مقتنياته، والنسبة نفسها لدى المتحف البريطانى بعرض 80 ألف قطعة؛ لكنهما وغيرهما يستندان إلى إرث ماضيهما الاستعمارى وما غصبوه من أرجاء الأرض؛ فيما مصر وحدها تعرض «الإرث الحلال»، ولديها من المُكتَشَف وما لم تَبُح به الأرض ما يكفى لإنشاء متاحف تنافس نظيراتها فى كل الدنيا وتتفوق عليها قطعًا.


وإذ أعرف أن المتحف الكبير أكبر من متحف كما أسلفت، لا بالأدوار الثقافية والمعرفية المُرافقة للعرض وتجربة الزيارة فحسب، ولا حتى بمركز الترميم وأنظمة الحفظ والتوثيق ورقمنة المعروضات، ونظام تخزين متحفى متطور بمثابة معرضٍ مُوازٍ لا تتكدّس فيه القطع داخل الخزائن والأقبية؛ فإننى أتطلّع إلى أن يلعب فى المقبل أدوارًا تتخطّى كل هذا على ما فيه من طموح وبُعد شأوٍ، وأن يُعمّق حضوره بكل السبل وأكثرها تطوّرًا ليكون قاعدة علمية ثقيلة، ومرجعًا وافيًا ويتقدّم على سواه فى الحضارة المصرية.


وأدعو إلى أن تدرس هيئة المتحف فى الفترة المقبلة، إمكانية تأسيس جامعة فى التاريخ والآثار وعلوم المصريات، أو كُلية نوعية متخصصة على الأقل، توفر الدراسة والتأهيل من الدرجة الجامعية لِمَا فوقها، أو تُركز على مرحلة الدراسات العُليا مثلاً.


وبما لا يُبقى المكان صرحًا يجذب المُهتمين والمتطلّعين لمُقاربة حضارتنا فقط؛ بل يصنع ذاك الاهتمام ويُزخّمه وينشر عبيره فى أرجاء الأرض، عبر برامج دراسية متطورة تستند إلى التجربة العملية التى لن يوفرها أحد بالكفاءة نفسها، ومنح دراسية لطلاب من أنحاء العالم، وأنظمة ربط وتعاون علمى وبحثى مع الأقسام المناظرة فى الجامعات الكُبرى.


ويُمكن أن تتطوّر لاحقا لتكون جامعة عالمية شاملة لكل تخصصات التاريخ القديم والحضارات الإنسانية على تنوّعها، كما يُمكن أن نستفيد فى ذلك بحضور الدكتور خالد العنانى على رأس اليونسكو لأربع سنوات مقبلة، نتطلّع ونثق فى أنها ستتضاعف بولاية ثانية فى العام 2029.
تليق الفرحة بالمصريين، أمس واليوم وفى كل وقت وحين. لدينا إرث عظيم، وعقول تتنبّه له وتسعى لاستثماره بأفضل الصور وأكثرها نفعًا، للاقتصاد كما للثقافة والمعرفة.


المتحف إنجاز دولة وشعب، ولحظة اصطفاف وطنى افتقدناها طويلاً، ونحتاج إليها دائمًا؛ لا سيما وسط المُلمّات والتحديات المُحيطة. لا دليل أكبر على قيمته من حفاوة العالم، وكونه صار موضوعا محليًّا فى كل الدنيا، ويشغل الاهتمامات الرسمية والشعبية فى أرجاء الأرض.
أحسنت الشركة المتحدة بإهداء إشارة البث لكل القنوات والراغبين، وأحسن المصريون وأجادوا فى احتفالهم، وتحقّقت المفرزة عمليًّا بما رأيناه من نَكَد المتطرفين والكارهين.


هكذا تصنع الدول لحظاتها الفارقة، وتعرف العدو من الحبيب، والأهم أنها تعرف نفسها أوّلاً، وتستكشف ما كان غائبًا عنها من آيات العظمة، وما يغبطها المحبّون عليه، ويحسدها الكارهون مُتمَنّين لو أنها لا تذكره، أو تظل متعثّرة فى هوّيتها المُركّبة ومكوّنات ثرائها التى لا حصر لها. إنها مصر، قبل الجميع وأكبر منهم، بما فى ذلك التاريخ؛ وما المتحف إلا رسالة للتذكير فحسب!




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب