تابعت مراحل المتحف الكبير منذ أن طرحه الفنان الكبير فاروق حسنى إلى افتتاحه، ولا شكّ أنه مشروع طموح وإنجاز كبير، سُطر عنه فى الصحف، وشغل محطات التلفاز، لكنى هنا أستغل هذا الحدث لكى نفكّر سويًّا فى وضع منظومة الآثار فى مصر، فهى منظومة عتيقة تعود إلى القرن الـ19م منذ عصر محمد على إلى الخديوى توفيق، تبلورت يومًا بعد يوم، لكنها تجمّدت ولم تنل حظَّها من التحديث، وهو ما انعكس سلبًا عليها. وقد ظهر هذا واضحًا حين أرادت الدولة إدارة المتحف الكبير بصورة عصرية فلجأت إلى إصدار تشريع ولوائح خاصة به. لكن فى خضم الحدث وفرحة المصريين به، لا بدّ أن نثير أيضًا نقطة مهمة، وهى أن الأثريين فى مصر لديهم شعور بالخذلان؛ إذ كان من المتوقّع أن يكون مدير المتحف أحدَ المتخصصين فى علم المصريات. وأنا على الصعيد الشخصى أقدّر الدكتور أحمد غنيم، المدير الحالى للمتحف، كاقتصادى وعالِم اقتصاد، ولكن فى ظل وجود علماء مصريات أكفّاء، أَلَم يكن من الأفضل اختيار أحدهم لإدارة المتحف؟ ومنهم من أثبت كفاءةً فى عدد من المواقع مثل الدكتور ممدوح الدماطى وزير الآثار الأسبق، أو لديه قبول دولى مثل الدكتور طارق سيد توفيق، أو مشهود له بالكفاءة الإدارية والعلمية مثل الدكتور طارق العوضي، أو غيرهم. ثم إن المتحف ليس مكانًا للعرض أو "فاترينة" نقدّم من خلالها الآثار، بل هو مؤسسة بحثية علمية، ويشهد على ذلك ابتكارات المرمّمين فى معمل الترميم بالمتحف التى يجب أن تُسجَّل علميًّا. ولذا فإن المشروعات البحثية للمتحف لم تظهر ولم يُعلن عنها إلى الآن.
على صعيد العمل الأثرى فى مصر، فإن الأثريين المصريين لديهم حالة إحباط عامّة فى ظل تدنّى أجورهم، إلى حدّ أن العديد منهم يلجؤون إلى العمل فى أعمال متعددة أخرى. فضلًا عن أن من يرعى الكنوز لا بدّ أن يكون أجره يوازي—على الأقل—الحد الأدنى الذى يكفل له كرامته وحياة كريمة. وهذه نقطة مهمة؛ ففى الوقت الذى تحقق فيه الآثار موارد للخزينة العامة للدولة، يبقى هؤلاء دون المأمول من حيث الأجر. فكيف نحافظ على تراث الوطن فى ظل كل ما سبق؟
إن الحديث عن تعظيم الموارد من الآثار يقتضى منّا الحديث عن اقتصاديات التراث، وهذا باب، بالرغم من محاولات الدولة فيه لسنوات، إلا أنها محاولات منقوصة تفتقد الرؤية الشاملة والفلسفة وراء هذه الغاية؛ إذ إن من الخطأ القول بأن الأثر منفردًا كفيل بتقديم موارد. فالحساب لا يتمّ على هذا الأساس، بل فى إطار الأثر ومحيطه من مطاعم وبازارات وفنادق ومطبوعات وتذاكر طيران… إلخ. ولذا نجد العديد من الدول تُلغى تذاكر الدخول للأثر بوصفه عنصر الجذب الذى ينشّط كل ما حوله. وأقرب مثال على هذا أن مدينة كرشيد، بالرغم مما يبذله العاملون فى الآثار بها من جهود وأنشطة لجذب الزوار، إلا أن غياب الرؤية الشاملة للتعامل مع الأثر يُقوّض هذه الجهود التى نشهد أنها أكبر من طاقتهم كفريق. وذات الأمر فى مدينة فُوَّه التى تفتقد متحفًا يكون مكانًا وركيزةً لحركة الزيارة بها، ومحلجُ القطن المجاور لبقايا مصنع الطرابيش مكانٌ مناسبٌ لهذا المتحف الذى سيغيّر وجه المدينة وحركة زيارتها.
إن من المهم إشراك المجتمع المحيط بالأثر فى كل القرارات والمخططات للتنمية، ومن التجارب الناجحة التى خضتها: تجربة حديقة الأزهر مع منطقة الدرب الأحمر، وأخيرًا تجربة مشروع "تراث إسنا" الذى قام على إشراك المجتمع المحلى حتى حصد، بسبب هذا، جائزة الأغا خان للعمارة، وحقّق تفاعلُه هذا نجاحًا أدّى إلى أن المجتمع الإسناوى بدأ يفكّر بصورة مختلفة لأنه شريك فى عوائد الحفاظ على التراث. فالتنمية المستدامة للمناطق الأثرية هى الغاية والطريق الذى يحقق عوائد ضخمة للدولة وللمصريين.