واحدة من القطع النادرة التي تحتل مكانة بارزة داخل قاعات العرض بالمتحف المصري الكبير، الذي اختارها لتكون ضمن مجموعة القطع التي تمثل عصور ما قبل الأسرات في سيناريو العرض المتحفي الجديد، جاءت تماثيل تل الفرخة، والتي تعرض بالمتحف تأكيدًا على أن جذور الحضارة المصرية تمتد عميقًا في الشمال قبل بناء الأهرامات.
ويأتي عرض مجموعة تل الفرخة بالمتحف المصري الكبير، لا بهدف إبراز قيمتها الأثرية فقط، بل إلى توثيق تطور الإنسان المصري منذ فجر التاريخ وحتى قيام الدولة الموحدة، إذ تُعرض القطع داخل قاعة مخصصة تضم نماذج من أدوات الزينة والحِرف والفخار والرموز الجنائزية التي تُظهر ملامح المجتمع المصري قبل خمسة آلاف عام.
تل الفرخة.. موقع يعود لما قبل الأسرات
في قلب محافظة الدقهلية، وعلى بُعد نحو 55 كيلومترًا من مدينة المنصورة، يقع تل الفرخة، أحد أهم المواقع الأثرية التي تعود لعصور ما قبل الأسرات، والذي كشف عن مجموعة من أندر وأقدم القطع الأثرية في تاريخ مصر القديمة، لتتحول هذه البقعة الصغيرة من شمال الدلتا إلى شاهدٍ حيّ على فجر الحضارة المصرية قبل أكثر من ستة آلاف عام.
يُعد الموقع من أبرز المراكز الاقتصادية والدينية في تلك الحقبة المبكرة، حيث أسفرت الحفائر التي أجرتها بعثة مصرية عام 2017 عن اكتشاف مجموعة من الصلايات الحجرية التي بدأت كأدوات لطحن مساحيق الزينة مثل الكحل، قبل أن تتحول لاحقًا إلى لوحات تذكارية ودينية تسجل الأحداث الكبرى مثل توحيد القطرين في صلاية الملك نعرمر. كما كشفت الحفائر عن أوانٍ فخارية وسكاكين من الظران تعكس بدايات الحِرف والصناعات المصرية الأولى في عصور ما قبل الأسرات.
أبرز اكتشافات تل الفرخة
أما الاكتشاف الأبرز في تل الفرخة، فجاء على يد بعثة بولندية عام 2006، حين عثرت على اثنين من أندر التماثيل الخشبية المذهبة في تاريخ مصر القديمة، يعودان إلى عصر نقادة الثالثة (حوالي 3500 قبل الميلاد). التمثالان يمثلان رجلين عاريين، أحدهما أكبر بحجم يتراوح بين 70 و80 سم، والآخر أصغر يتراوح بين 35 و40 سم. والمثير أن التمثالين مطعمان بالذهب، وعيونهما مرصعة بحجر اللازورد النادر، مما يدل على المكانة المرموقة للشخصين الممثلين فيهما، ويُرجّح أن أحدهما كان حاكم البلدة والآخر ابنه.
تكشف تفاصيل الصناعة عن دقة فنية استثنائية، إذ صُنعت التماثيل من الخشب المصري المحلي، ثم طُعّمت بشرائح من الذهب ومواد نادرة، ولفت حولها أوراق مذهبة لحمايتها. ورغم أن أجزاء منها تعرضت للتلف بفعل الزمن، فإنها ما زالت تحتفظ بجمالها الأخّاذ الذي يعكس تطور المهارات الحرفية والفنية لدى المصريين في تلك الحقبة المبكرة من التاريخ.
ولم تقتصر اكتشافات تل الفرخة على التماثيل فقط، بل كشفت البعثات عن مصانع للجعة، ومدافن للأطفال، ومنازل سكنية قديمة، مما يوفر صورة شاملة عن أنماط الحياة اليومية للمصريين قبل توحيد القطرين، ويُظهر ملامح التنظيم الاجتماعي والاقتصادي في أولى مراحل تكوين الدولة المصرية القديمة.
وتؤكد الدراسات الأثرية أن تماثيل تل الفرخة أقدم من أهرامات الجيزة بنحو 1500 عام، أي أنها تعود إلى مرحلة فجر الحضارة، حين بدأت ملامح الدولة المركزية في التشكل على ضفاف النيل.