على خطى مارمرقس.. كيف قاد البابا تواضروس الثانى مسيرة التجديد الروحى والإدارى فى 13 عاما من الحكمة؟.. مسيرة بطريرك ينسج خيوط الحكمة والمحبة فى تاريخ الكنيسة.. وإنجازات شكلت ملامح عهد جديد وخدمات بروح الإنجيل

الأربعاء، 19 نوفمبر 2025 01:00 ص
على خطى مارمرقس.. كيف قاد البابا تواضروس الثانى مسيرة التجديد الروحى والإدارى فى 13 عاما من الحكمة؟.. مسيرة بطريرك ينسج خيوط الحكمة والمحبة فى تاريخ الكنيسة.. وإنجازات شكلت ملامح عهد جديد وخدمات بروح الإنجيل البابا تواضروس الثانى

كتب: محمد الأحمدى

حين يتأمل المرء مسيرة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، يكتشف أنها لم تعرف يومًا فراغًا فى القيادة الروحية، بل كانت دائمًا تُهيئ فى صمت من يحمل الرسالة ويكمل المسيرة.

وفى صباح هادئ من صباحات الكاتدرائية المرقسية بالعباسية قبل 13 عامًا، وقف التاريخ عند لحظة فارقة حين تجلَّس الأنبا تواضروس الثانى بطريركًا للكرازة المرقسية، ليبدأ عهدًا جديدًا داخل الكنيسة وفى قلب المجتمع المصرى، لم يكن المشهد مجرد احتفال كنسى، بل كان انتقالًا روحيًا وإنسانيًا وسياسيًا فى آن واحد، لأن الرجل الذى جلس على الكرسى المرقسى كان يحمل ملامح مختلفة: عقل علمى، قلب رهبانى، رؤية إصلاحية، وهدوء يخفى خلفه قوة وصلابة نادرة.

ومع ذكرى التجليس الثالثة عشر هذا الثلاثاء، يعود السؤال الذى يشغل الكثيرين داخل مصر وخارجها: كيف استطاع البابا تواضروس أن يصبح أحد أبرز الشخصيات الدينية تأثيرًا فى الشرق الأوسط؟ الإجابة تكمن فى هذا المزيج الفريد بين الحكمة والصبر والمعرفة العميقة بالتاريخ والواقع، وبين إيمان راسخ بأن الكنيسة كيان حى يُدار بالمحبة قبل أى شىء آخر.

القرعة الهيكلية التى كتبت القدر

وفى الرابع من نوفمبر 2012، توجهت الأنظار إلى الكاتدرائية المرقسية بالعباسية حيث تقام طقوس القرعة الهيكلية، ذلك التقليد الفريد الذى يربط الكنيسة القبطية بجذورها الأولى، وبعد أسابيع من التزكيات، ودراسة سير المرشحين، والاستماع إلى رأى المجمع المقدس، وصلت القائمة النهائية إلى 3 أسماء فقط. حينها دخل الشعب فى ثلاثة أيام صوم وصلاة، كأن الجسد الكنسى كله يتحضر لاستقبال إرادة الله.

وسط مشاعر الرهبة، تقدم أكثر من 500 طفل ليتم اختيار واحد منهم، لأن القرعة – وفق التقليد – يجب أن يجريها طفل عمره ست سنوات، لا يرى شيئًا، ولا يعرف الأسماء، ليبقى الاختيار خارج إرادة البشر. كان الطفل بيشوى جرجس سعد هو المختار، ليقف أمام المذبح معصوب العينين، ثم تمتد يداه الصغيرة لتسحب الورقة التى تحمل اسم البطريرك الجديد. لحظة بكت فيها العيون وانطلقت فيها صلوات الشكر، فقد جاء اسم الأنبا تواضروس ليمثل بداية صفحة جديدة فى تاريخ الكنيسة.

ويروى قداسته تلك اللحظة ببساطة إنسانية خلال حوار سابق له مع اليوم السابع قائلًا: "ما حدش فينا بيرشح نفسه، ولا حد بيعمل دعاية القرعة هى صوت ربنا ويومها اتقدم 500 طفل، اختاروا 12 ومنهم اختاروا واحد. غمّوا عينيه، ومد إيده، والاسم اللى خرج هو اللى يبقى البطريرك. تانى يوم كان عيد ميلادى، ولما بلغونى إن اسمى هو اللى اتسحب حسيت بمسؤولية كبيرة جدًا، لأن الطريق مش سهل، لكن ربنا هو اللى بيدى القوة".

 

خليفة مارمرقس.. امتداد لكرازة عمرها عشرون قرنًا

ومنذ أن دخل القديس مارمرقس أرض مصر فى القرن الأول، لم تكن الكنيسة مجرد بناء، بل كانت بيتًا مفتوحًا لكل محتاج، ومدرسة للتعليم والإيمان، ومنارة روحية لمنطقة بأكملها. هذا الإرث الضخم انتقل إلى البابا تواضروس الثانى، ليكون حلقة جديدة فى سلسلة البطريركية الأطول فى تاريخ المسيحية.

وفى سنواته الأولى، حرص قداسته على إعادة تنظيم الخدمة وتوسيع العمل الرعوى، فشهدت مصر تدشين مئات الكنائس الجديدة، وترميم كنائس أثرية، وإنشاء إيبارشيات، واستحداث خدمات لم تكن موجودة من قبل. وأما خارج مصر، فامتدت أفرع الكنيسة القبطية إلى عشرات الدول، لتغدو واحدة من أسرع الكنائس انتشارًا عالميًا.

ويؤكد المركز الإعلامى للكنيسة أن البابا يسير على خطى مارمرقس الذى فتح بيته للغريب والفقير والهارب، وأن الكنيسة فى عهده استعادت دورها كحاضنة للمجتمع، لا مجرد مؤسسة دينية.

 

خدمات اجتماعية بروح الإنجيل

وفى فكر البابا تواضروس الثانى، لا ينفصل الإيمان عن العمل الاجتماعى. وعلى هذا المبدأ قامت عدة مبادرات غيرت شكل الخدمة داخل الكنيسة.

وجاءت خدمة «أخوة الرب» لتعيد تعريف كيفية التعامل مع المحتاجين، فبدلًا من تقديم المساعدات بصورة عشوائية، أصبح هناك نظام شامل يضمن الكرامة والاستدامة.

أما خدمة «بنت الملك» فكانت خطوة رائدة لرعاية الفتيات ومساعدتهن فى الزواج، ليس فقط ماديًا، بل نفسيًا وروحيًا.

وظهرت مبادرات لرعاية ذوى الاحتياجات الخاصة، حيث استقبل قداسته مجموعات من الصم والبكم وافتتح مراكز متخصصة لهم، ما جعل الكنيسة نموذجًا للاندماج الاجتماعى.

وكانت هذه الخدمات جزءًا من رؤية أوسع ترى أن الكنيسة ليست مؤسسة للتعليم الروحى فقط، بل بيتًا يسع الجميع، ويواجه آلام الناس قبل أن يمنحهم التعزية.

 

من الصيدلة إلى الرهبنة.. عقل علمى وروح نسكية

ونشأ البابا تواضروس فى دمنهور، فى أسرة محبة للعلم، وكان أحد المتفوقين فى دراسته حتى حصل على بكالوريوس الصيدلة عام 1975.

ولم يكن العلم بالنسبة له مجرد دراسة، بل طريقة حياة، ولذلك حصل عام 1979 على دبلومة الصيدلة الصناعية، ثم درس اللاهوت عام 1983، قبل أن يسافر إلى إنجلترا عام 1985 للحصول على زمالة الصحة العالمية من مستشفى تشرشل بأكسفورد.

وهذه الخلفية العلمية صنعت لديه عقلًا منهجيًا قادرًا على التنظيم، وهو ما ظهر لاحقًا فى إدارة الكنيسة. أما الروحانية فجاءت حين ذهب إلى الرهبنة عام 1986، حيث تعلم الصمت، والخدمة، والاتساع الداخلى.

وفى عام 1999 درس الإدارة الكنسية فى سنغافورة، وهو ما جعله يمتلك واحدًا من أكثر العقول الإدارية تطورًا داخل الكنيسة المعاصرة.

ورغم انشغاله بالقيادة، ألّف أكثر من 34 كتابًا فى الروحيات والتأمل والكتاب المقدس والخدمة، وألقى عشرات المحاضرات فى مصر والعالم، ليُعرف بأنه بطريرك قارئ ومفكر قبل أن يكون مسؤولًا.

 

إنجازات شكلت ملامح عهد جديد داخل الكنيسة

ومن أبرز التحولات التى حدثت فى عهده:

العظة الأسبوعية التى أصبحت متنقلة بين الكنائس.

تأسيس المركز الإعلامى للكنيسة وتعيين متحدث رسمى.

صدور قانون بناء الكنائس عام 2016.

افتتاح كاتدرائية ميلاد المسيح بالعاصمة الإدارية 2019.

افتتاح المكتبة البابوية المركزية 2019.

إطلاق قناة COC الرقمية عام 2020.

تدشين الكاتدرائية المرقسية بعد تطويرها عام 2018.

إطلاق الموقع الرسمى للكنيسة عام 2021.

وكانت هذه الخطوات جزءًا من رؤية تجعل الكنيسة معاصرة دون أن تفقد هويتها، ورائدة دون أن تتخلى عن جذورها.

تأثيرات إنسانية شكلت ملامح شخصيته

ويرجع البابا تواضروس الكثير من تكوينه الروحى والإنسانى إلى معلمته "أبلة أنجيل" التى ظلت تحبه كأنه تلميذ صغير حتى قبل وفاتها. كما تأثر بكاهن كنيسته "أبونا ميخائيل" ورئيس ديره وأصدقائه فى دمنهور.

لكنه يعتبر أن أعظم تأثيرين فى حياته هما:

البابا كيرلس السادس: الذى لم يره لكنه أحب بساطته وقداسته.

البابا شنودة الثالث: الذى عاصر نصف قرن من خدمته وتأثر بكتاباته وشعره وعمق تعليمه.

هذه التأثيرات صنعت منه بطريركًا يجمع بين روحانية كيرلس السادس وفكر شنودة الثالث.

احتفال التجليس.. قداس يتجدد كل عام

أعلن المركز الإعلامى للكنيسة أن الاحتفال هذا العام سيقام فى مركز لوجوس البابوى بوادى النطرون، حيث يجتمع المجمع المقدس والوفود الكنسية. لا يعتبر هذا القداس مجرد ذكرى، بل محطة سنوية للتأمل فى معانى البطريركية والخدمة، وفرصة للشعب ليشكر الله على قيادة تحاول أن تكون أمينة قدر المستطاع.

البابا الإنسان.. مدرسة فى الهدوء والحكمة

ويتميز البابا تواضروس بقدرة نادرة على إدارة الأزمات بهدوء، فهو يتحدث ببساطة مهما كانت تعقيدات الموقف، ويعتمد على الاستماع قبل القرار، وعلى الصلاة قبل التحرك.

ويقول المقربون منه إنه لا يرفع صوته أبدًا، وأنه يرى كل شخص من زاوية إنسانية، ويؤمن بأن المحبة أعمق من السلطة، وأن القيادة الحقيقية هى التى تُمارس من القلب لا من الكرسى.

 

بطريرك يعيد تعريف القيادة الروحية

ثلاثة عشر عامًا مرت منذ أن سحب الطفل بيشوى ورقة تحمل اسم الأنبا تواضروس واليوم، يقف البابا تواضروس الثانى كشخصية محورية أعادت تشكيل العمل الكنسى، وبنت جسورًا مع المجتمع والدولة، وقدمت نموذجًا للقيادة الهادئة التى تعمل بصمت، وتترك أثرًا عميقًا لا يرتبط بالضجيج، بل بالثبات والاستمرارية.

ومع حلول 18 نوفمبر، لا تحتفل الكنيسة بذكرى تجليسه فقط، بل تحتفل بمسيرة قائد آمن أن الكنيسة بيت كبير، وأن المحبة هى أعظم ما يمكن أن يقدمه البطريرك لشعبه ووطنه.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب