حنان يوسف

فى اليوم العالمى للتسامح.. التسامح وعى وآليات

الثلاثاء، 18 نوفمبر 2025 07:00 ص


احتفل العالم فى ١٦ من نوفمبر من هذا الشهر باليوم العالمى للتسامح وهو اليوم الذى حددته منظمة الأمم المتحدة كل عام لتعزيز نشر ثقافة التسامح والتعايش بين مختلف فئات المجتمع.

وهذا العام ركزت المنظمة الدولية على أن التسامح هو ضرورة ولكن فى إطار كونه حالة ذهنية ووعى تتطلب جهدا عقليا فى فهم منهجية التسامح ودرجته بما لا يحدث الخلط بينه وبين فكرة التنازل وإضاعة الحقوق.
وهو ما يحتاج أن يتم وضع اليات من أجل أن يتم التسامح المطلوب بالشكل المناسب وبما يحقق أهدافه فى تعزيز قيم المحبة والتوافق بدلا من الكراهية والتنافر.
والتسامح قيم نبيلة ينبغى نشرها فى المجتمع وتعتمد فى مرجعيتها على الدعوة الإلهية للعفو والتسامح واحترام الاختلاف.


ومع الرؤى الفلسفية المختلفة لقيم التسامح والتعايش والتنوع تأتى ضرورة وضع آليات وأدوات من جهة أخرى ضمانا لوضع هده القيم فى إطارها التطبيقى من اجل تحقيق السلام الاجتماعى الذى هو الهدف النهائى من احلال قيم التعايش والتنوع والتسامح.


فالتسامح مبدأ أساسى للحفاظ على التنوع الثقافى، وهذا الأخير لا يتأتى الا بتوفير شروط أساسية تجعل من هذا المبدأ فعّال وناجح، ويفسح مجال الحوار وثقافة الفهم، وتقبل الآخر فى ظل تجاذب لا تنافر. لهذا وجب أن يكون التسامح بين الأفراد داخل المجتمع الواحد وبين المجتمعات بعضها البعض، لأن فلسفة التسامح تسمح بتعزيز ثقافة العيش المشترك المبنى على احترام الهويّات حتى أن التنوع الثقافى قد يصبح خطرا على المجتمع إذا لم يحبك بنسيج التعايش والتسامح.


ولعل من أهم التحديات التى تواجه المجتمعات الإنسانية اليوم هو كيفية التعامل مع الاختلاف ومع تزايد وتيرة التحريض على العنف وخطاب الكراهية تحت مبررات دينية وعرقية، أصبح موضوع إدارة التنوع، من خلال صناعة التسامح، داخل المجتمع الواحد، أو بين المجتمعات الإنسانية، أمراً فى غاية الأهمية، ليس فقط لأصحاب القرار السياسى، بل لأفراد المجتمع كافة. ومن هذا المنطلق أصبح مفهوم التسامح أحد المفاهيم المحورية الهادفة لإدارة التنوع فى المجتمعات الإنسانية بشكل سليم، وتحويله إلى قوة دفع لتعزيز التماسك المجتمعى وتحقيق السلام بين شعوب العالم. لأن التسامح، كضرورة مطلقة لتسوية العلاقات الإنسانية، فى المجتمعات والأديان والأوطان، لم يعد منها مفر؛ إذ أن البديل للتسامح هو، بالضرورة، الإقصاء والإلغاء وما يترتب عليهما من عنف وفوضى، وعنف مضاد.


وهنا تظهر أهمية وضع اليات واضحة من أجل تحقيق هذه الفلسفة، ومن أهم هذه الآليات هى أدوات القوة الناعمة وفى مقدمتها الإعلام والتعليم والمجتمع المدنى.


ففى الإعلام ينبغى إعادة النظر فى مواجهة خطابات الكراهية المتزايدة فى وسائل الإعلام وبصفة خاصة مع تزايد قوة وسائل الإعلام الجديدة ومواقع التواصل الاجتماعى التى يسيطر على أغلبها الانفلات وعدم وجود رقيب فيها.
وأما عن التعليم فيجب اعادة النظر فى تنقية المناهج التعليمية من أية مضامين محرضة على الكراهية والعنف مع استحداث مقررات تعليمية تشجع على الحوار والاختلاف وتقبل الآخر والاهتمام بالأنشطة الطلابية والتعليمية المختلفة التى تبنى من شخصية الطالب وتجعله متزنا وقادرا على التسامح وسط التنوع والاختلاف.


ويعتبر المجتمع المدنى بما يتوفر له من ديناميكية فى الحركة والأدوات أداة قوية فى إدارة التنوع والاختلاف داخل المجتمع فهو يمتاز بقدرته على التشبيك والتداخل وسط الفئات المختلفة فى المجتمع مما يجعله قادرا على إدارة الاختلاف والتنوع بكفاءة كبيرة شرط توافر إطار مؤسسى قوى يعمل من خلاله.


التسامح لغة من تسامحوا: أى سامحوا على الألفة والتعايش والعيش معناه الحياة. كما أن المفهوم الذى جاء على صيغة «تفاعل» اللغوية يقتضى، بالضرورة، علاقة تشاركية بين طرفين أو أكثر، مع وجود اختلاف بينهما أو اختلافات بينهم. وهذا يعنى أن قدرتنا على إدراك أهمية العيش المشترك، كقيمة عليا من قيم الحياة، لا بد أن تكون نابعة من اعتقاد مشترك بين طرفين، أو أطراف تريد أن تتعايش، رغم اختلافهما. ولهذا فإن القيم المشتركة هى مركز ومحور عملية التسامح. ولتحرير مفهوم التسامح ورصد الأفكار التى تعكس حقيقته فى الأذهان، لا بد من القول إن التسامح لا يعنى إلغاء العقائد الأساسية للبشر، أو المرجعيات الفكرية المختلفة بينهم، لأن هذه العقائد أو المرجعيات هى التى تمنح الفرد توازناً نفسياً، وسلاماً داخلياً وانسجاماً مع محيطه العام. لكن مع ذلك، لا يعنى الاختلاف فى العقائد الأساسية بين البشر، فى مجتمع ما أو كيان ما؛ إلغاء، أو إكراهاً لعقائد الآخرين أو المختلفين داخل ذلك المجتمع أو الحظر عليهم، ما دامت الممارسات التى يعبرون فيها عن عقائدهم المختلفة هى ممارسات ذات تعبير سلمى.


كما ينبغى الاتفاق والتسليم بأن كل النصوص المقدسة والفلسفات الإنسانية الكبرى لا تختلف فيما بينها حيال الإقرار والتسليم بأن المبادئ والقيم الإنسانية، مثل الكرامة الإنسانية والعدالة مثلاً، هى قيم قابلة لتصور التعاون والاشتراك فى تحقيقها، مع بقاء الاختلاف الفكرى والعقدى، الذى هو سُنة أخرى من سنن الحياة وحقائقها؛ ولكن، فى الوقت نفسه، لا بد من الاتفاق، أيضاً، بأنه لا يقتضى التسامح بين أصحاب تلك الفلسفات والأديان والمرجعيات المختلفة؛ أن يكون على حساب التنازل فى المعتقد الذى يمثل مرجعية الفرد لكل واحد منهم. بمعنى آخر، أنه، فيما دون التنازل على مستوى العقائد والمرجعيات العليا، هناك وجود لمساحة مشتركة وكافية لتفعيل مبدأ التسامح.

وهذه المساحة المشتركة يعبر عنها مبدأ الاعتراف المتبادل لكل طرف بحق الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى؛ أولاً، فى حريتهم المطلقة حيال توجهاتهم الفكرية والعقدية، وثانياً، فى ممارسة التعبيرات السلمية التى تعكس تلك التوجهات الفكرية. وبهذا الاعتراف تتأسس مفردات غنية لعلاقات متعددة من القبول المتبادل بين الأطراف المختلفة، لا سيما إذا كان يجمعهم كيان مشترك، كالوطن، أو الدين أو العرق.


بطبيعة الحال، هناك اختلافات فى رؤية البشر لمفهوم التسامح مع التسليم بضرورته والعيش ضمن شروطه كضمانة للسلم. لكن نظرياتهم فى فهم التعايش على ضوء حقائق الواقع والتاريخ تختلف باختلاف منظور الرؤية الفكرية بين الأطراف المختلفة. وهذا بطبيعة الحال من حق كل تيار فى اختيار استراتيجيات فهم تتناسب مع منظوره الفكرى أو العقدى.


وفى غياب هذا الاستعداد النظرى لفهم التسامح، فى أى مجتمع أو كيان؛ سيكون البديل هو: الكراهية، والعنف، والإقصاء. لأن فكرة التسامح لا تقبل الفراغ؛ فإما أن يكون التسامح هو الطبيعة المعبرة عن الاستقرار والسلم، وإما أن يحل العنف الرمزى والمادى وما يترتب عليه من عنف مضاد وكراهية.


وحتى يتسنى لمبدأ التسامح أن يتحقق على أرض الواقع، فإن هناك منظومة من الشروط والقيم المصاحبة له، لا بد أن تكون حاضرة وداعمة له. فالمعرفة شرط ضرورى من شروط مجتمعات التعايش؛ لأنه من خلال المعرفة والإدراك تتفهم المجتمعات المتحضرة اختلافاتها فيما بينها، من ناحية، واختلافات المجتمعات المغايرة لها، وما يتصل بذلك من عادات وتقاليد وبيئات حضارية، من ناحية أخرى. ولهذا فإن مجتمعات المعرفة تجعل اختلافاتها فيما بينها، واختلافاتها مع غيرها، مادة غنية للعيش المشترك، لا مادة للصراع.


والشرط الثانى هو النظام، ونعنى بالنظام هنا؛ القواعد والقوانين التى تحكم طبيعة التعايش، بحيث يصبح التعايش، بذاته، علامتها الفارقة فى أى مجتمع، عبر تطبيقات النظام الذى يؤطر ويحرس نمط التعايش وازدهاره فى ذلك المجتمع.


ومن أهم هذه القيم الداعمة لمبدأ التعايش، قيمة الحوار؛ لأن الحوار هو عنوان التعايش والتعبير الأسمى عن دلالته؛ بل يمكننا القول أن التعايش، فى حقيقته، إنما هو أشكال متعددة من الحوار، ناطقة وصامتة. كما أن الحوار هو النشاط الفكرى الأول فى مسيرة المجتمع نحو التعايش وبالحوار يمكننا استطلاع آراء المتحاورين، وتقييمها وتطويرها باستمرار عبر الفكر والرأى والرأى الآخر. وباختصار يمكننا القول أن العلاقة بين الحوار والتعايش علاقة شرطية يقتضى وجود إحداها وجود الأخرى بالضرورة. ومن القيم الداعمة للتعايش؛ قيمة الاحترام، فهى من مظاهر التعايش، لأن الاحترام فى حقيقته حالة من سمو النفس تفرض على صاحبها مراعاة قواعد العيش المشترك.

وبهذا يصبح الاحترام قيمة عليا فى الضمير الاجتماعى الذى عادة ما يكون قيمة موازية لقيمة النظام والقانون. كما أن من مظاهر التعايش؛ قيمة التسامح، وهى قيمة ترتبط بالقدرة على أن يكون المجتمع متصالحاً مع نفسه ومعبراً عن ذلك التصالح من خلال التنوع والتعدد فى التوجهات المختلفة بين أطيافه. أن التسامح بهذه الصورة، أيضاً، علامة كاشفة عن وجود التسامح وجوداً حقيقياً لا شكلياً. إلى جانب تلك القيم، يعتبر النقد الذاتى من أهم الحصون لمبدأ التعايش، حيث أن حصانة النقد الذاتى التى تزدهر فى مجتمعات التعايش الحقيقى ستكون لها بمثابة المسار الذى يصفى صحة المجتمع والوطن من تلك الشوائب باستمرار. وبالتالى يصبح نمط التعايش فى أى مجتمع هو حصانة مستمرة، عبر النقد الذاتى، من الارتداد والنكوص إلى حضيض الأمراض الاجتماعية المزمنة من قبلية ومناطقية وطائفية لا تبقى ولا تذر. وأخيراً ما يعتبر تاج التعايش وحصنه الآمن هناك قيمة المواطنة، بوصفها تعريفاً حصرياً وعمومياً للفرد فى الدولة؛ تقوم عليه المساواة التامة بين جميع أفراد الشعب أمام النظام والقوانين، وبعيداً عن أى اعتبار للقبيلة، أو للون أو للعرق، أو للطائفة. ففى تفعيل مبدأ المواطنة على النحو الصحيح لا بد أن يكون التعايش هو شكل النمط الاجتماعى الحاكم للعلاقات البينية حيال مختلف مكونات المجتمع فى الوطن.


إن مبدأ التسامح لم يعد مجرد ترف فكرى يقتصر على الفلاسفة والمثقفين، بل هو ضرورة لحماية مستقبل البشرية من أخطار دعوات الكراهية والعنف والإقصاء على أسس دينية أو مذهبية أو عرقية. وهذا يستدعى استنهاض قدرات المجتمعات الإنسانية وتوحيد جهودها لتعزيز مسار التعايش كقيمة إنسانية جامعة تكفل حماية التنوع، وتعزز الحوار والتعاون. ومن هنا، تأتى أهمية العمل على غرس قيمة التعايش فى مناهج التعليم، ووسائل الإعلام، والأسرة وأماكن العبادة.


من أجل تحقيق البيئة الإنسانية المطلوبة لجودة الحياة فى ظل الأحترام المتبادل والوعى المسئول والفهم المشترك بين الجميع.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب