منذ بداية الولاية الحالية للكنيست الإسرائيلى، يسير الائتلاف الحكومى فى مسار تكريس هيمنة السلطة التنفيذية وتقليص صلاحيات السلطات التشريعية والقضائية الأخرى، الأمر الذى يراه مراقبون تقويضاً لمبدأ الفصل بين السلطات. فقد قدّم الائتلاف الحكومى بزعامة نتنياهو مجموعة من مشاريع القوانين التى أثارت الكثير من الجدل مثل مشروع قانون تعيينات القضاة الهادف إلى تغيير آليات اختيار القضاة بحيث يتم إحلال عضويين من نقابة المحاميين بتعيينات سياسية أحدهم تسميه الحكومة والآخر تسميه المعارضة. من شأن هذا الإحلال أن يضعف استقلالية الجهاز القضائى ويحول التعيينات إلى أدوات فى أيدى الساسة، الأمر الذى يراه كثيرون إخلالاً بمبادئ النزاهة والمحاسبة والفصل بين السلطات.
فى ذات السياق، وفى إطار تهميش دور القضاء ومنعه من الرقابة على السلطة التنفيذية "الحكومة"، قدّمت النائبة اليمينة وعضوة الائتلاف الحكومى سمحة روتمان مشروع قانون يغل يد السلطة القضائية عن إبطال قرارات الحكومة التعسفية وغير المنطقية، وهو ما عرف بمبدأ "عدم المعقولية". وفقاً لهذا المبدأ فمن حق أى جهة تتضرر من قرار ما للحكومة باللجوء إلى المحاكم لإبطال القرار نتيجة التعسف أو "عدم المعقولية".
بالنظر إلى مشاريع القوانين التى يقدمها الائتلاف الحكومى، يمكن القول أن المعارضة الإسرائيلية والجمهور الإسرائيلى محقون فى مخاوفهم من فرض السلطة التنفيذية كلمتها وتهميش أدوار باقى السلطات. فإسرائيل تتحول شيئاً فشيئاً إلى نظام حكم شمولى يعيد إنتاج أنظمة شمولية وديكتاتورية بأدوات عصرية. فالتاريخ الحديث يمتلئ بالشواهد على سن السلطات التنفيذية تشريعات تساعدها على بسط نفوذها على حساب السلطات الأخرى. سن هتلر قانون التمكين الذى منح الحكومة صلاحية إصدار القوانين دون العودة للبرلمان، ما أدى إلى إلغاء الفصل بين السلطات، وأخضع الإعلام والقضاء للسلطة التنفيذية تماماً. كذلك فعل موسولينى الذى استخدم نفس القانون، فاستأثر لنفسه بصلاحيات تشريعية مطلقة، وانتهت فى عهده التعددية الحزبية فى إيطاليا. والأمثلة على سن السلطة التنفيذية قوانين قوضت النظام الديمقراطى من داخله عديدة، وأدت كلها إلى ذات النتيجة فى تشيلى والأرجنتين واسبانيا، وعلى نفس النهج تسير إسرائيل.
استمراراً لهذا النهج التشريعى المتطرف، أقر الكنيست الإسرائيلى بالقراءة الأولى مشروع القانون الذى تقدمت به كتلة القوة اليهودية بقيادة المتطرف بن غفير، والذى يجيز إعدام الأسرى الفلسطينيين ممن تتهمهم إسرائيل بالمشاركة فى مقاومة الاحتلال. المزاعم اليمينية خلف طرح هذا المشروع هو أن من شأنه تحقيق الردع وتقليص حجم عمليات المقاومة ضد جنود الاحتلال، وكأن إسرائيل كانت بحاجة إلى قاضِ ينطق بحكم الإعدام علانية فى قاعات المحاكم لقتل الفلسطينيين.
لم يكن ثمة قضاة ولا أحكام قانونية بالإعدام فى قاعات المحاكم الإسرائيلية عندما أقدمت إسرائيل خلال سنوات احتلالها الطويلة على تنفيذ أحكام الإعدام الميدانية دون محاكم ولمجرد الاشتباه وفق التفسير الإسرائيلى للأمن. فأعدمت الرضيعة إيمان حجو، وأعدمت محمد الدرّة دون حكم إعدام، واغتالت عشرات الآلاف من المدنيين فى غزة جماعياً دون محاكمة ودون قضاة، واغتالت قادة سياسيين من مختلف الأحزاب والفصائل الفلسطينية والعربية، واغتالت نشطاء سلام، وفاعلين فى المقاومة السلمية للاستيطان وجدار الفصل العنصرى، وعلماء، ومتضامنين دوليين كراشيل كورى، ومرضى على فراش المرض، وجرحى فى الشوارع والأحياء السكنية أيضاً دون محاكم ودون قضاة.
مشروع القانون الذى أقره البرلمان الإسرائيلى ليس سوى غسل الوحل بالوحل، ورش مساحيق رديئة على وجه الحقيقة البشع، ووضع صورة الإجرام الإسرائيلى فى إطار صدئ، وتزيين القبيح بما هو أقبح منه.