جغرافية إسرائيل وصغر حجمها سلاح ذو حدين، فبالرغم من أنها تمتلك قواعد عسكرية وصواريخ جاهزة للانطلاق فى أى لحظة، فإن المواطن الإسرائيلى حينما تنطلق صفّارات الإنذار ليس لديه سوى من 12 إلى 15 ثانية للاختباء فى ملجأ، فإسرائيل بلد يفتقد العمق الاستراتيجي، إذ إن الصواريخ على بابها.
فالجغرافيا عامل مهيمن فى الأمن القومى لإسرائيل، إذ يقيم معظم سكان إسرائيل والبنية التحتية الحيوية داخل الشريط الضيق من السهل الساحلى، وهو الجزء الأكثر أهمية، الذى أصبح فى الحرب الأخيرة يتعرض لتهديد دائم بصواريخ وطائرات مسيَّرة، هذا ما شل الحياة وألحق أضرارًا بالغة بالمنشآت والاقتصاد الإسرائيلي.
حاولت إسرائيل أن تتكيف مع موقعها باستراتيجيات الدفاع الجوي، مثل "القبة الحديدية" و"مقلاع داود" والحرب الإلكترونية، لكن الطرف الآخر وضع تل أبيب وحيفا وعسقلان وغيرها تحت القصف المستمر، مما جعل الشرق الأوسط، مع طول أمد الحرب الأخيرة، بؤرةً ساخنة فى منطقة ذات تقاطعات معقدة قد تقود إلى مشكلات تستمر على مدى بعيد، أبرزها قلق إسرائيلى مستديم حول مستقبل أمنها فى ظل افتقادها العمق الجغرافى الذى لن يستطيع الصمود أمام التطور السريع للطائرات المسيرة والصواريخ الفائقة السرعة.
تعتمد إسرائيل على التفوق النوعى عسكريًّا، وهذا التفوق كفَل لها ضمان وجود الدولة إلى الآن، فى ظل استراتيجية قامت على إحباط التهديدات وتأجيلها لخلق فترة طويلة من الهدوء بالتزامن مع الجهود العسكرية والسياسية الاستباقية، لكن ما حدث فى 7 أكتوبر 2023 كسر هذه الاستراتيجية، أما الآن، فإسرائيل تسعى لمحو قوة حماس العسكرية وتدمير غزة بصورة غير مسبوقة حتى لا تقوم للمقاومة قائمة مرة أخرى على مدى زمنى قصير، بل تحتاج حماس لعقود لتعود بالقوة ذاتها. لذا فإن طول أمد الحرب فى غزة هدفه واضح: خلق فترة طويلة من الهدوء.
صناع الاستراتيجية فى إسرائيل باتوا على قناعة بأن حماس فكرة، والأفكار لا تموت، ومع تصاعد شعبية حماس فى الضفة الغربية، فإن إسرائيل تحت تهديد الديموغرافيا الفلسطينية على حدودها بل وداخلها، فباتت الجغرافيا الإسرائيلية مهددة، وعكست شراسة الحرب الأخيرة هذا التهديد.
كل ما سبق يعتمد على استراتيجية الأمن القومى المبنية على مفهوم "الجدار الحديدي" لزئيف جابوتنسكي؛ فإسرائيل ترى أنه لا يمكن تحقيق السلام إلا بعد أن يستنتج أعداؤها أن جهودهم غير فعّالة، وتعمل على زيادة معاناتهم، فمن وجهة نظر إسرائيل يجب أن يكون أعداؤها مقتنعين بأنهم يستطيعون تحقيق أكثر بكثير عبر الحوار مما سيحققونه بالعنف، وعليه عليهم قبول ما ستطرحه إسرائيل عليهم.
لذا فإن مواجهة إسرائيل لا بد أن تعتمد على ضغط معرفى مستمر حول وجودها واعتباره وجودًا شاذًّا، وهذا ما تردّ عليه بسياسات تكرّس "يهودية الدولة" وهى تعلم أن تحقيقها أمر مستحيل. وفى الوقت نفسه يستمر القلق الإسرائيلى من صِغَر حجمها؛ فقد كانت سابقًا تواجه جيوشًا تقليدية، أما الآن فتواجه جماعات مسلحة غير حكومية. ومن ثَمَّ فإن تفكك هذه الجماعات وتحولها إلى "قطعان متناثرة" أو "ذئاب منفردة" يجعل إسرائيل تحت ضغط الحوادث المتكررة، مما يؤدى إلى استنزافها بصورة مستمرة. والسؤال هنا: هل العنف المفرط والمتجاوز لكل ما هو متخيَّل وفّر الأمن للمواطن الإسرائيلي؟
فى حقيقة الأمر، بات عمق إسرائيل مهددًا؛ فالمواطن الذى يدرك أن إسرائيل دولة وظيفية يسعى للهرب أو الهجرة خارجها، وقد بات هذا واقعًا مع الحرب الأخيرة، خاصة من مزدوجى الجنسية. كما أن إسرائيل لم تعد بيئة آمنة للاستثمارات، ولأول مرة تُجمَّد استثمارات كانت مقررة فى حيفا وتل أبيب والمنطقة الساحلية.
تكمن أهمية إسرائيل فى كونها تمنع انفراد قوة بشرق المتوسط والبحر الأحمر، أى مصدر أهم طرق التجارة الدولية والطاقة والعديد من المواد الأولية؛ فهى أشبه بـ"بوليصة تأمين" توفّر متطلبات الهيمنة الغربية على الاقتصاد العالمى ومقدرات العالم، وتضع المنطقة العربية تحت الضغط المستمر بلا سلام دائم، فتُستنزَف فى شراء السلاح الغربى وتدخل فى حروب متتابعة. وعلينا أن ندرك أن إيران تعتبر أن أمنها يبدأ من شرق المتوسط منذ قديم الأزل، وهذا ما دفع الفرس قديمًا إلى احتلال شرق المتوسط فى إطار الصراع مع الإمبراطورية البيزنطية. كما أن انفراد تركيا بشرق المتوسط سيشكّل قوة كبرى منافِسة، وكذلك الحال بالنسبة لدول جنوب المتوسط.
وظيفة إسرائيل إذن هى الحد من نمو قوة سياسية أو عسكرية أو اقتصادية فى شرق المتوسط أو فى دائرته. لكن فى المقابل، فإن وجود روسيا فى سورية وتغلغل الصين فى المنطقة عبر قاعدة عسكرية فى جيبوتى وشراكات اقتصادية، يضع الغرب فى ضائقة استراتيجية ما زالت بلا حل حتى الآن. بل إن الحرب الأخيرة جعلت الجغرافيا فى مأزق؛ فالحلول الجيوسياسية لم يعد لها مجال، فتوسع إسرائيل جغرافيًّا لم يعد ممكنًا كما كان سابقًا، فى ظل وهن أوروبا واستنزافها فى حرب روسيا–أوكرانيا، فضلًا عن أن الدعم الأمريكى لن يستمر طويلًا فى ظل المعارضة فى الداخل الأمريكى نتيجة تكاليف دعم إسرائيل ومشكلات الاقتصاد الأمريكي.
يبقى السؤال: هل تفقد إسرائيل وظيفة "حاملة الطائرات" أو "الفتوّة" الذى يمثّل أمريكا فى المنطقة؟
هذا كله يتوقف على الوعى العربى بأن إسرائيل لديها مشكلة جيوسياسية كبيرة، وأنها استراتيجيًّا باتت مهددة. ولعل هذا ما شكّل رؤية غربية مفادها أن إسرائيل ستنتصر فى الحرب، لكنها سوف تُهزَم استراتيجيًّا على المدى البعيد.