في زمن تتراكم فيه التفاصيل الصغيرة لتصنع الجدل الأكبر، ثمة أشياء تبدو بسيطة لكنها تحولت في عصر الاستهلاك إلى عادات يومية، وإلى مظاهر تُسلَّع فيها الأشياء وتُشيَّأ حتى المشاعر التي كانت يومًا قيمة إنسانية خالصة، أصبحت احتياجات الإنسان العادية مواد استهلاكية وسلعًا لا يملك الإنسان منها شيئًا، بعد أن كانت حاجاته الطبيعية موضوعية لأنها في صميم الضرورات الحيوية التي لا غنى عنها للبقاء، لكن الرأسمالية استطاعت أن تبسط سطوتها على الإنسان نفسه، فصار تحقيق احتياجاته يتطلّب جهدًا مضاعفًا وثمنًا إنسانيًا باهظًا، مرورًا باستلابه واستغلال قوة عمله وتكديحه في أقسى الشروط.
ومن هذا المنطلق يمكننا النظر إلى فيلم "شكوى 713317" من إخراج وتأليف ياسر شفيعي، وبطولة الفنان محمود حميدة والفنانة شيرين، وعرض في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته السادسة والأربعين ضمن مسابقة "آفاق السينما العربية" وهو فيلم اجتماعي كوميدي يدور بالكامل حول أسرة تتكون من زوجين وصلا إلى سن التقاعد، ويسعيان لإصلاح ثلاجة معطلة، لكنهما يتعرضان لنوع من المماطلة من شركة الصيانة، فينقلب استقرار الأسرة رأسًا على عقب، وتتحوّل المشكلة البسيطة إلى سلسلة من المواجهات البيروقراطية.
العمل، منذ الوهلة الأولى، يبدو وكأنه يتحرك داخل نطاق ضيق (شقّة بسيطة تدور فيها الأحداث) لكنها تبدو معبرة عن حال الأسرة بشكل خاص وحال المجتمع بشكل عام، يتخذ الفيلم من الثلاجة نموذجًا فريدًا لتحويل اليومي والعابر إلى ثيمة إنسانية واسعة، لكنه في الحقيقة يستخدمها كأداة درامية لكشف علاقة المواطن بالمؤسسة، وحدود الحق، وفكرة الكرامة في مجتمع يتأرجح بين الاستهلاك والبيروقراطية.
يشتبك الفيلم منذ البداية مع علاقة الفرد بالمجتمع، ومع سؤال القدرة على انتزاع أبسط الحقوق اليومية. فالثلاجة لم تعد أداة رفاهية، بل صارت رمزًا لتحول الإنسان من كائن منتِج إلى كائن مستهلك، ومن عامل يملك قوة عمله إلى فرد تُستغنى عنه لصالح الآلة، ومع تقلص مساحة العمل، تتراجع كذلك قدرة الإنسان على الاستهلاك، ليتقلص نطاقه إلى حدوده الدنيا، رغم اتساع معروضات الرأسمالية وتفننها في إثارة الرغبات وهو ما يظهر في الإعلان التي يشاهدها البطل (محمود حميدة) حتى أصبحت تطارده، كما يحضر أثر التكنولوجيا بوضوح؛ إذ يكشف الفيلم كيف جعلت الآلة من الإنسان كائنًا مطواعًا، يخضع لإيقاعها، ويستغرق وقتًا طويلًا في التعامل معها، كأنها تُملي عليه شروط وجوده اليومي.
مؤلف ومخرج العمل ياسر شفيعي منذ اللحظة الأولى يحاول توثيق علاقة الفرد بالمؤسسة، في سياقٍ تحكمه البيروقراطية وآليات الاستهلاك الحديثة، فالثلاجة المعطّلة، بوصفها المحرّك الأساسي للمسار الدرامي، لا تُطرح كجهاز منزلي عادي، بل كاستعارة مكثّفة للمؤسسة الرسمية بطيئة، متخشّبة، ثقيلة الحركة، وعاجزة عن تلبية احتياجات المواطن البسيطة دون تعطيل أو مماطلة، وفي المقابل، تبدو الأسرة في العمل تجسيدًا لحال المواطن المصري الذي يجد نفسه مضطرًا إلى الجري المستمر خلف حقّه، وملاحقة الإجراءات المعقّدة والمؤسسات المغلقة، من أجل الحصول على أبسط الخدمات، إنها معادلة غير متوازنة، مؤسسة عملاقة جامدة في مواجهة فرد أو أسرة تستنزف وقتها وطاقتها وكرامتها لأجل شيء تافه في ظاهره، لكنه يمسّ جوهر الشعور بالعدالة.
وعندما تُصلَح الثلاجة أخيرًا بعد شهور من المطاردة، ثم تتخذ الأسرة قرار تحطيمها بأيديها، فإن هذا الفعل لا يظهر بوصفه سلوكًا عبثيًا، بل بوصفه إعلانًا رمزيًا لانتصار متأخر على جهاز بيروقراطي كان يماطل ويرهقهم. هنا يتحول الشيء نفسه – الثلاجة – من رمز للعجز والانتظار إلى أداة للتحرر.
تضمن الفيلم طيفًا واسعًا من طرائق التعبير الجمالي، بدءًا من توظيف الرمز، مرورًا بالارتكاز على لغة الصورة، وصولاً إلى بناء كادرات ذات دلالة واضحة داخل الحدث الدرامي، وقد عالج العمل جوهر العلاقة بالآخر/ المؤسسة الرسمية، عبر مقاربات بصرية ودرامية لا تعتمد المباشرة، بل تستند إلى الإيحاء والتلميح، وجاء توظيف الرموز دقيقًا ومحسوبًا، بحيث يمكن للمتلقي استشراف المسار الدرامي وتلمّس المآلات الإيجابية للشخصيات من خلال تلك الإشارات البصرية الموحية التي تتراكم وتتكامل داخل النسيج السردي.
كما نجح الديكور في تقديم معادل بصري مقنع لحياة أسرة تنتمي إلى الطبقة الوسطى، بواقعية غير مفتعلة، وبانحياز واضح إلى التفاصيل اليومية التي تعبّر عن هشاشتها وقلقها وأحلامها المؤجلة، وقدم المخرج شريطًا سينمائيًا قادرًا على الإجابة عن كثير من التساؤلات العالقة، وكشف الغوامض التي تتحرك في خلفية العلاقات، مؤكدًا عبر الصورة والحركة والإيقاع مجموعة من الدلالات والمعاني التي تنهض عليها التجربة الفنية.
وتجلت نقاط التميز بوضوح في البناء البصري، إذ جاءت الكادرات متناغمة مع الحبكة، ومعبرة عن تتابع الحدث صعودًا وهبوطًا، وعن توترات الحوار وتفاوت إيقاع الحركة بين الشخصيات، بما يعكس اختلاف مستويات الفهم والتفاعل والتعبير لديها. وفي بعض المشاهد، اشتغل الفيلم على تعميق الأثر العاطفي، مستثمرًا إمكانات الضوء والظل وحركة الكاميرا والموسيقى ليُحدث استجابة شعورية تُكمل ما لا تقوله الكلمات.
جاء أداء محمود حميدة وشيرين، بطلي العمل، أداءً مركّبًا، ينطوي على قدر من الإرباك المحسوب الذي يخدم المعنى الدرامي. فقد استطاع الاثنان الانتقال بسلاسة من حالة شعورية إلى أخرى، مع الحفاظ على خط داخلي واضح للشخصية ومبرّر درامي متين.
محمود حميدة قدّم شخصية الزوج المُقعَد بقدر عالٍ من الاتزان؛ رجل مسالم، يبتعد بطبيعته عن الصدام، ولا يضع نفسه – لا مع زوجته ولا مع المؤسسة – في موضع المواجهة المباشرة. ومع ذلك، تدفعه الظروف إلى المطالبة بحقه، فيتحوّل تدريجيًا دون أن يفقد سمته الهادئة. ولم يلجأ حميدة في أدائه إلى الانفعال الفج أو القوة الصريحة، بل اعتمد على الإقناع بوصفه أداةً وجودية للشخصية، وعلى ما يمكن تسميته بـ التلاعب الصوتي والانفعالي؛ كل نظرة محسوبة، وكل جملة منطوقة بوعي، كأنها تحمل طبقة إضافية من المعنى تتجاوز النص المكتوب.
أمّا شيرين فقدّمت أداءً شديد الحساسية، يُجسّد امرأة بلغت مؤخرًا سن التقاعد، تحاول موازنة إحباطاتها الشخصية مع ضغوط الحياة اليومية. لم تعتمد على المبالغة في الانفعالات، بل على انفعالات مدفونة تحت السطح، تشي بما تعانيه دون أن تصرخ به. وتبدو ملامح التعب، والتوتر، والرغبة في الحفاظ على تماسك الأسرة، عوامل بارزة في تشكيل أدائها، مما منح الشخصية عمقًا إنسانيًا وقابلية للتعاطف.
في النهاية، قدّم العمل معادلاً حيًّا لحال الأسرة الحديثة في مواجهتها البيروقراطية وما تخلقه من منظومة استلاب واستغلال، إذ يكشف الخطاب السينمائي عن الآثار الخطيرة لعمليات التشييء والتسليع التي تطال الإنسان ومنتوجه في ظل الرأسمالية، حين يتحوّل الجهد البشري إلى مادة قابلة للاستهلاك، ويُدفع الفرد إلى داخل قمقم الأرباح والمصالح الخاصة التي تحتكرها فئات محدودة داخل المجتمع، ولو كان ذلك على حساب الجوهر الإنساني ذاته.
وحاول الفيلم، عبر أدواته البصرية، رسم صورة موازية للمجتمع داخل هذه المنظومة؛ مجتمعٍ يُختزل أفراده تدريجيًا إلى مجرد عناصر في آلة كبرى، سلَعًا تُنظَّم وتُسعَّر وتُدار، أكثر مما يُنظر إليهم كذوات لها احتياجاتها وكرامتها وحقها في حياة عادلة، مقدمًا شهادته عن مأزق الإنسان الحديث وهو يواجه قوة اقتصادية تُعيد تشكيل وجوده، وتبتلع طاقته، وتعيد إنتاج علاقاته وفق منطق المنفعة لا منطق القيمة.