حازم حسين

كريستال حاييم ومشنقة بن جفير.. عن عنصرية إسرائيل من قاعة الأمم المتحدة لقاع الكنيست

الأربعاء، 12 نوفمبر 2025 02:00 م


يُعيد التاريخ نفسه؛ إنما كمهزلة فى المرة الثانية، كما قال كارل ماركس. وحكاية فلسطين مع الاحتلال الصهيونى سلسلة من المآسى والمهازل، لا تتوارى حلقة منها إلا لتُطلّ على فواصل مُتقطّعة، فيما تنوب عنها فى الغياب صورة لا تقل وقاحة من السابقة؛ وإن اتّخذت سَمتًا مُغايرًا فى الشكل لا المضمون.

وأحدث الحلقات ما كان قبل نهار الاثنين الماضى، عندما صوّت الكنيست بالقراءة الأولى على مشروع قانون مُقدّم من حزب القوة اليهودية «عوتسما يهوديت»، بقيادة الوزير الإبادىّ المتطرف إيتمار بن جفير، بشأن إقرار عقوبة الإعدام بحق الأسرى الفلسطينيين.

ولا مفارقة أدلّ على الطبيعة الصارخة لإسرائيل، والمكوّن الوحشى القارّ فى حمضها النووى، من التزامن العجيب وغير المقصود غالبا، بين ذكرى إدانة الصهيونية ووَصمها بالعنصرية فى أرفع الفعاليات الأُمَميّة، وتقديم دليل جديد وبأثر رجعى على التهمة الآن.

وثمّة تشابه آخر لا يخلو من الدلالات؛ أن المحطتين تلاقيتا تحت ظلال رجلين يحملان الاسم نفسه. الأولى مع حاييم هيرتسوج عندما كان مندوبًا للدولة العبرية فى الأمم المتحدة، والثانية مع ابنه إسحاق/ يتسحاق، الذى يتسنّم الرئاسة الشرفية فى بلدٍ يخلو تماما من الشرف!

والقصة بإيجاز؛ أن الجمعية العامة أقرّت فى مثل اليوم ذاته، 10 نوفمبر، مشروع قرار قُدِّم بمبادرة عربية مع الاتحاد السوفيتى آنذاك، اعتُمِد بالرقم 3379، وينص على اعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصرى، ويدعو جميع دول العالم إلى مقاومة تلك الأيديولوجيا الساقطة، بما تمثله من خطر حقيقى على الأمن والسلم الدوليين.

وقف المندوب/ الأب حاييم خطيبًا فى الحشد الغاضب؛ ليزعم أن القرار يستند إلى كراهية وأكاذيب، ويُعبّر عن نزعة مُعادية للسامية، وأن الصهيونية حركة تحرر قومى، وحقوق الشعب اليهودى ليست منحة من الآخرين.

مزّق ورقة النص الذى اعتبره خاليا من كل قيمة أخلاقية أو قانونية، وانتقد المنظمة لأنها تأسست قبل ثلاثة عقود على تحالف مناهض للنازية، فيما تتموضع وقتها، بحسب ادّعائه، على طريق أن تكون مركزًا لمُعاداة السامية.

ومن إشاراته العجيبة، والتقاطاته غير المُوفّقة طبعًا، أن التصويت تزامن مع وقائع «ليلة الكريستال» فى ألمانيا الرايخ الثالث، تلك التى شهدت وقائع عُنف نازى مُمنهج بحق اليهود، أفضت إلى مقتل مئات أو إجبار بعضهم على الانتحار، وتخريب مُمتلكات ودور عِبادة، وصولا لاعتقال عِدّة آلاف واقتيادهم لمعسكرات الاعتقال.

كان ذلك فى العام 1938؛ أى قبل القرار بسبع وثلاثين سنة، وقبل نشأة إسرائيل بسبع سنوات، وعلى مسافة 87 عاما من الهولوكوست الذى ما يزال دائرًا فى غزة وعموم فلسطين.

يُوَرَّث العار فى إسرائيل كما تُوَرّث الأرض المُغتَصَبة من أصحابها. لهذا دخل رئيسها/ الابن إسحاق، على خط الذكريات السوداء مُنتقيًا من معروض الجنايات المُشينة، ما يَعُدّه مناطًا للافتخار من وجهة نظره المُعتلّة.

أحيا ذكرى التصويت بالإدانة، واستدعى سيرة والده الوقح، وذكّر بإلغاء القرار بعد ستّ عشرة سنة من اعتماده، كما لو أنها كانت عودة عن النص والفعل على سبيل الاعتذار والتصويب.

وقصّة الإلغاء؛ أن تل أبيب اشترطت للدخول فى ورشة مدريد، التى كانت فاتحة مفاوضات السلام بين الصهاينة والعرب فى مرحلة ما بعد كامب ديفيد، أن يُلغَى قرار تصنيفها من الأمم المتحدة باعتبارها تيّارا عنصريًّا.

رعت الولايات المتحدة غايات حليفتها الصغرى، واضُطرّ البعض للموافقة على سبيل سدّ الذرائع وتقدمة المُشهّيات، بما قد يُفضى لتدفيع المسار السياسى قُدمًا؛ رغم سابق العِلم بإجرام الإسرائيليين وافتتانهم بالدم.

دُفِع بمشروع الترضية فى ديسمبر 1991 تحت الرقم 86/ 46، وأُقِرّ من باب الاستدراج والمُغازلة، لا التبرئة وغسل السُمعة. وقتها اصطفت ثلاث وخمسون دولة فى الجانب المضاد، بين الرفض والامتناع والغياب عن الجلسة، وكانت بينها أغلب العواصم العربية، بما فيها مصر، صاحبة اتفاقية السلام الوحيدة مع الصهاينة وقتها!

اعتبر حاييم هيرتسوج أن الأيديولوجيا الصهيونية المقيتة حركة تحرّر وطنى؛ فأجاز القتل بموجبها تحت غطاء استعادة الحقوق اليهودية فى أرضٍ وفدوا إليها من شتات العالم.

كأنه كان يُرخّص القتل دفاعًا عن الاعتقاد، فيما لا يكتفى ابنه اليوم بلوم الضحايا على مقاومتهم؛ بل يُظلّل مشروعًا لمواصلة الولوغ فى دمائهم ميدانيا وداخل السجون، وينتظره بعد قراءتين تاليتين فى الكنيست؛ ليُوقّعه ويُقرّه قانونا نافذًا، فى دولة لطالما كانت خارج القانون، واحتقرته بالممارسة العملية؛ حتى أنها تعيش من دون دستور أو حدود واضحة.

والغريب؛ أن عقوبة الإعدام شبه مُعطّلة فى إسرائيل. صدرت عشرات الأحكام على مدار عُمرها القصير؛ إنما لم يُنَفّذ منها سوى اثنين فقط: الأخير بحق الضابط النازى أدولف أيخمان الذى اختُطف من أمريكا اللاتينية ليُحاكم فى القدس 1961، ويُعدَم 1962، والأول قبله بأربع عشرة سنة وفى زمن النكبة الفلسطينية وإعلان دولة اليهود، وكان ضد الضابط الإسرائيلى مائير توبيانسكى، على خلفية اتهامه بالخيانة والتجسّس.

بعد أيخمان صدرت أحكام وأُلغيت، أو جرى تخفيفها إلى السجن، فيما توقّف القضاء عن المعاقبة بالإعدام تماما منذ أواخر الثمانينيات أو مطلع التسعينيات، بعدما امتنع الادعاء عن المطالبة بالعقوبة.

أى أن إسرائيل تتحلّل من إحدى نقاط دعايتها المدنية، ولم تعُد تكتفى بالاغتيال خارج القانون أو إشعال المحارق للمدنيين؛ إنما تردف مسلكها الوحشى بتطبيع القتل وتقنينه؛ ليكون المحاكم أداة حربيّة تُلحَق بأفرع الجيش النازى؛ بدلاً عن أن تكون جدارًا مدنيًّا يُحصّن البشر من غيلة السلاح وشهوة السفّاحين.

المشروع من بنات أفكار بن جفير، وزير الأمن القومى وشريك الجناح اليمينى المُتشدّد فى الحكومة مع حليفه بتسلئيل سموتريتش. وكان قد رهن بقاءه فى الائتلاف بمنسوب البطش بالغزّيين العُزّل، والفلسطينيين بوجه عام، وهدّد بعدم التصويت على مشاريع القوانين المُقدّمة من الليكود؛ ما لم يُمَرَّر مشروعه لتعليق الأسرى على أعواد المشانق!

الرجل نفسه كان رصاصة فى بندقية نتنياهو طيلة السنتين الماضيين، وظلّ ذريعة يحتمى بها رئيس الحكومة من مساعى فرض هُدنة فى غزة، أو الدفع نحو إنهاء الحرب. ولو أبدى الأخير اعتراضا ناعما على القانون المقترح اليوم؛ فلا يُنسَى له أنه كان ظهيرًا لمشروع مُشابه قبل سبع سنوات، عندما صوّت لصالح تعديلات تُسهّل على المحاكم العسكرية استصدار أحكام بالإعدام، وقال إنه سيدعم كل مقاربة تجعلها عقوبةً عامّة.

طرح الفكرة اليوم ليس عارضًا، ولا ناشئا عن تداعيات الطوفان وتأثير البيئة العبرية بالاشتباك الطويل مع حماس وفصائل غزّة. حزب بن جفير صاحب الاقتراح يتأسّس على مبادئ عدوانية شديدة العنصرية والتمييز، منها وليست كلها: طرد العرب وراء الخط الأخضر، ومُعارضة إطلاق السجناء الفلسطينيين، وتخفيف القيود على جيش الاحتلال بما يُطلق يده فى القتل، ومعارضة المفاوضات وليس مُجرّد الرفض المُطلق لقيام دولة مستقلة فى الضفة والقطاع.

وبديهىّ أن تحالف نتنياهو معه يُعبّر عن مشتركات بين الطرفين؛ ذلك أن الأحزاب اليهودية من كل التيارات، باستثناء بعد أطياف اليسار، ترفض العمل مع الأحزاب العربية، ما يعنى أن الائتلاف القائم ليس حسبة مقاعد وأغلبية مُجرّدة؛ إنما التقاء على أفكار متشابهة وأهداف مُتطابقة.

تنظر إسرائيل للعالم من منظورها الخاص، ولا ترتضى منه إلا أن يكون داعمًا لوحشيتها صراحةً، أو ضمنيًّا بالصمت المتواطئ والحياد الرمادى. وهذا ما يتجلّى فى كلام مندوبها إبّان اعتماد قرار العام 1975، وما يزال قائمًا حتى اليوم.

الأُمم المتحدة بالنسبة مُجرّد وكيلٍ عصر ما بعد النازية، ولا هولوكوست أو إبادة إلا ما تعرّض له اليهود؛ لذلك تستنكف اقتراف الجنائية الدولية لخطيئة البحث فى وقائع غزّة، وإصدار مذكرات توقيف بحق رؤوس الحرب فى تل أبيب.

وعلى الدرب يسير ابن المندوب، ومظلة الدولة العبرية فى أشد مراحلها انكشافا ووقاحة. فبيان الرئيس الإسرائيلى تحدث عن عُمق الإهانة فى قرار الوصم بالعنصرية، وتفاخر برسالة والده المُتبجّحة، واعتبر أنها نقلت رسالة للعالم بأن «وجود اليهود كشعب لا يستند إلى اعتراف الآخرين»؛ بينما يصادر وجود الشعب الفلسطينى رغم حقائق الجغرافيا والتاريخ، وعلى الرغم من اعتراف العالم، أو أغلبه من ذوى الضمائر الحيّة على الأقل.

كأن هيرتسوج الأب كان يُبعثر شظايا الكريستال تحت أقدام العائلة الأممية؛ ليصرف عيونهم عن واقع إسرائيل المعجون بالدم والأشلاء. فيما استدعاها هيرتسوج الابن الآن بغباوة لافتة؛ كما لو أنه يفرشها على طريق بن جفير، ويُدمِى الدولة المُلفّقة من جهة تذكير العالم بأنها عتيقة فى الإجرام، مرذولة من زمن النشأة، ولا تتوقّف عن تكرار جناياتها بأشد الصور استخفافًا بالعقول واستنادًا إلى الغطرسة.

والمُتطرف الأخير، صاحب المشروع، يدلف إلى قاعة الكنيست، أو قاعه، قابضًا على نصوص القتل التوراتية، يحشو شِدقيه بلحم طفل غزّى، ويُطوّح العظام على المنصّة ونجمة داود. زومبى ينوب عن بيئة كاملة، ومن عادة الصهاينة أنهم يوزّعون الأدوار فى الجرائم، ويتلاقون على اقتسام ثمارها.

الساسة هُناك لا يقلّون توحّشًا عن الجنرالات. استطلاع رأى فى العام 2017 أكد أن نحو ثلاثة أرباع الإسرائيليين يُرحّبون بعقوبة الإعدام بحق الفلسطينيين. القرار يأخذه المستوى السياسى، والجيش مُنتَدب من كل بيت وأسرة، وتظاهرات الغضب طيلة الشهور الماضية كانت لاستخلاص الرهائن المحبوسين فى غزّة؛ أما الغزّيون فلا مانع من إبادتهم بعدما يُستعاد أخوّة الصهيونية وشركاء الحلم فى العيش على جُثث الأغيار.

خمسون عامًا مرّت ولم يتغيّر شىء؛ اللهم إلا طفرة التقنية وما وفّرته من فرص سهلة للإبادة الجماعية. استند القرار قبل نصف القرن على ممارسات عملية، وعلاقات مشبوهة ببقيّة العائلة العنصرية فى زيمبابوى وجنوب أفريقيا زمن الأبارتيد.

وكذلك إلى بيان لمنظمة الوحدة الأفريقية يَعُدّ الأنظمة الثلاثة كلها «ترجع إلى أصل استعماری مشترك، وتُشكّل كیانا كلیًّا، ولها هیكل عنصری واحد، وترتبط ارتباطا عضویا فی سیاستها الرامیة إلى إهدار كرامة الإنسان وحرمته».

وقبل ذلك قراران: فى 1973 يدعو للقضاء على كل أشكال التمييز العنصرى، و1973 بإدانة التحالف الآثم بين العنصرية والصهونية.

كانت الدولة غضّة وقتها ولم تُكمل ثلاثة عقود. وكان أرشيف العالم آنذاك خاليا من كل ما تلا ذلك، فى الانتفاضتين الأولى والثانية، وخمس حروب على القطاع، وآلاف المُعتقلين وعشرات آلاف وقائع الاغتيال والقتل خارج القانون. ازدادت الصهيونية شراهة، وتعاظم تبجُّحها.

وإن كانت التوازنات لا تسمح بإعادة إنتاج قرار الإدانة القديم؛ فإن وقائع الحاضر تُبرهن عليه وتستدعيه من رفوف الأمم المُتّحدة، ويتطوّع بن جفير وبقية الائتلاف الحاكم بالتدليل عليه بالممارسة العملية، مع سبق الإصرار والترصّد.

والزمن مكّار رغم محاولات الاحتيال. فيتقصّد دون قصدٍ من البشر أن تكون إدانة الصهيونية بالعنصرية فى ذات تاريخ ليلة الزجاج المكسور الألمانية، ما يعنى انعدام الصلة بين إسرائيل والمظلمة اليهودية، وانقضاء فاعلية الهولوكوست كمنصّة للتجارة والاستثمار العاطفى.

ثمّ يُقَفّى على ذلك بالتصويت على إعدام الأسرى الفلسطنيين فى اليوم نفسه؛ فكأن الدولة العبرية تُتَمِّم مراسم تلبُّسها بالنازية شكلاً ومضمونًا، وتحلّ بديلاً عنها فى سرديّة الاجتماع الإنسانى المحكوم دومًا بتكرار وقائعه السوداء، وبألا يتوقف سلسال المُجرمين العُتاة عن التناسل؛ لأن الخير المُبتغى، مُكَلّف إلى الأبد بالصراع مع شرٍّ عظيم!

أمّا ما دون ذلك من إشارات؛ فإنه لا يتأتّى إلا للضرورة أو تحت ثِقَل الاضطرار. ومنه كان الذهاب إلى مدريد وأوسلو، كما كانت هُدنتا غزّة فى نوفمبر 2023 ويناير 2025، وصولا إلى الانصياع لخطة ترامب الأخيرة، بعدما استشعرت واشنطن أن نتنياهو صار عبئا عليها وعلى إسرائيل، وأن الصهيونية تتنحّى عن مسرح المُخاتلة، لتدخل فى تراجيديا التَمَثُّل النازى الكامل؛ دون أية فرصة للإنكار أو تضليل شهود العيان.

إنها الحاجة لا القناعة. ولهذا؛ كان رون ديرمر، وزير الأمن الاستراتيجى وأقرب رجال نتنياهو، شريكًا فى إعداد ورقة ويتكوف المطروحة بدءًا من مايو الماضى، ثم فى خطّة ترامب التى كانت 21 بندًا ثمّ تقلّصت إلى 20، وأُعيدت صياغتها بما يُناسب هوى اليمين الصهيونى المتطرف.

وصولاً إلى تفاصيل استكمال المرحلة الأولى، والتشغيب بشأن جُثث الرهائن أو عناصر القسّام المُحاصرين فى رفح جنوبًا، وما يتّصل بالانتقال للمراحل التالية، بما تشمله من بنود خلافية على وضعية مجلس السلام، وقوّة الاستقرار، وطبيعة الإدارة التكنوقراطية الفلسطينية، وكذلك ملف حماس والفصائل.

وكل ما فات لا يعنى إعفاء الحماسيّين من المسؤولية بالمناسبة؛ ذلك أنهم يعرفون عدوّهم جيّدًا، أو هكذا يُفتَرَض، ولم يكونوا بحاجة إلى مَدّه بالذائع فى طوفان السنوار، أو ملاقاة أهوائه التصعيدية طيلة الشهور التالية، من دون ضرورة وقتية مُعجّلة، وفى مرحلة فوران يمينى داخل إسرائيل، والتباس سياسى عاشته الولايات المتحدة فى البرزخ الفاصل بين إدارتى بايدن وترامب.

والقصد؛ أنه لو كانت إسرائيل واحدة دومًا؛ فليست كل المُقاربات الفلسطينية سواء. ومن الصعب مساواة أوسلو بالطوفان، ولا حال السلطة الوطنية على ضعفها، بما كان مع حماس فى شدّتها المُتخيَّلَة، وبأسها الذى وقع على الفلسطينيين أكثر مِمّا أصاب الاحتلال، وعندما أشاح عن البطش بالمدنيين إلى تفعيل أدواره الأساسية فى المقاومة، استدعى لهم وجهًا من التوحِّش والإبادة لم يعرفوه مُسبقًا؛ فكأن الحركة نكّلت ببيئتها مرّتين!

وإزاء ما يمتلئ به صدر الصهاينة، ونتنياهو تحديدًا، من شعور بالزهو بعد كل ما تحصّلوا عليه من هدية السنوار؛ فالمُتوَقّع بالطبيعة أن يستحلبوا المُستجدّات الدراماتيكية إلى آخرها، وأن يتمسّكوا بالمكاسب الوافية دون تنازلات حقيقية، فيما لا بديل لدى الطرف الآخر ولا خيار.

وأكبر العبء هنا على كاهل الوسطاء، أو ذوى النزاهة منهم خصوصا، وعلى مصر بشكل أخص؛ ذلك أنها تجِدُّ لانتشال القطاع من نكبة ثانية تخطّت الأولى بمراحل، وتتحرّك فى مساحة ضيّقة بين تطرّفين غبيّين، وتحمل الهَمّ فى كبير التفاصيل وصغيرها، بأكثر مِمّا يحمله المتسبّبون فيه بالنزق والمُغامرة.
تكفّلت القاهرة مبكرًا بلفت الأنظار إلى مُخطّط التهجير، وتصدّت له علنًا وبكل الصور الخشنة والناعمة. وقفت فى مواجهة الاحتلال وداعميه، ونجحت فى تمرير السردية العربية/ الفلسطينية، وتعديل نظرة الإدارة الأمريكية المشدودة إلى الصهاينة بحبل غليظ.

خرجت خطة ترامب أقرب إلى الطرح المصرى، وتجسّدت خطتها للتعافى المبكر وإعادة الإعمار فى تسلسل المراحل، واستقر الجميع على «لجنة الإسناد المجتمعى» التى اقترحتها؛ ولو بمُسمّى بديل. وكانت أوّل المُطالبين بأن تكون قوّة الاستقرار المقترحة تحت مظلّة أُممية، وعليه أعدت واشنطن مسوّدة مشروعها المُتداوَل حاليا بين أعضاء مجلس الأمن.

لم يأتِ المشروع مثاليًّا، وينحاز لرؤية تل أبيب فى كثير من الأمور. الإمارات لوّحت بعدم المشاركة فى القوّة، وفق تصريحات المستشار الرئاسى أنور قرقاش قبل يومين، لأنها لا ترى لها إطار عمل واضحا.

وهو ما استبقه فيه وزير الخارجية بدر عبد العاطى، عندما أشار إلى الملاحظات الأساسية الكُبرى، وقال إن مشاركة مصر مرهونة بعديد المؤشرات والمتطلبات، متابعا: «ندعم نشر القوّة؛ وليس بالضرورة أن نكون طرفًا فيها».

بعد السابع من أكتوبر صار الاختيار بين السيئ والأسوأ؛ وما من جيّد على الإطلاق فى مجال النظر. وضعت إسرائيل طبقة جديدة من الإجرام على ملامحها شديدة القُبح والترهل، وغاية الجهود اليوم أن نتوصّل إلى مُجرّد الاعتدال، وليس إلى العدل الذى كان غائبا وازداد غيابا.

وما من تجربة واحدة ناجحة فى مُلاعبة النازيين الصهاينة؛ إلا لدى مصر، حربا وسلمًا، وبالسلاح والتفاوض والقانون على السواء؛ لهذا لا تكتسب رؤيتها جدارتها الكاملة من مُجرّد المُتاخمة الحدودية أو العناية المبدئية بالقضية؛ بل من واقع الخبرة المُتراكمة، والمقدرة الثابتة بالدليل والممارسة.

وكل عاقل يعرف أنها لن تكون آخر الحروب؛ وأن الصهيونية ستظل شكلاً من أشكال العنصرية. يحدث أن تلعب التواريخ لعبتها فى التذكير عبر التزامن والمُشاكلة، وقد تُغيّب الوقائع الثقيلة ما يعدُّه البعض خفيفا وأقل أثرًا، ومن عادة العرب أنهم يأكلون التراث أكلاً لمّا، ومعه الذاكرة والفاعلية العقلية واحترام التجارب وتراكماتها.

لا تُخفى إسرائيل بشاعتها؛ وحتى لو فعلت فإنها تظل عارية فى عيون العالم، والمُهم ألا ينافسها البعض منّا فى الرداءة، ولا أن يتعرّوا لها تطوُّعًا!
كريستال الرايخ أدمى فلسطين عقودًا؛ إلى أن تكسّرت شظاياه مُجدّدًا تحت أقدام إسرائيل. هيرتسوج الأب كان شريكًا فى العنصرية القديمة، والابن يرعى نُسختها المُحدّثة، وبن جفير يُعرّى ما عاشت دعايات الاحتلال تُغطّيه أو تتنكّر له.

وما على الخصوم العُقلاء إلا أن يتخلّوا عن غرامهم القديم بالمواجهات الخاسرة، وأن يستثمروا فى السياسة؛ بأكثر مِمّا يندفعون إلى مُقامرات لا طائل لهم بها، وأكّدت الأيام أنها تنزح القليل الباقى، ولا تُمكّن الآملين فى الربح مرّة واحدة؛ لأنها استوثقت من إدمانهم البقاء على طاولة الماضى بعِلّاتها، وإعفاء عدوّهم من عبء الاستدعاء إلى ساحات لم يألفها.

عصابات وفدت من الشتات، صارت دولة على أرض الآخرين. تقدّمت وتأخّر مُحيطها، وبعض تفوّقها راجع لاجتهادها، وكلّ تخلّف الإقليم نتاج رخاوته الذاتية. بالأصولية والمشاحنة والمزايدات الفارغة، بالاستئساد البينى والخفّة مع الآخر، وبصراعات المكان والمكانة والبحث عن أدوار أثقل من طالبيها. يصح ذلك مع حماس، كما مع كامل محور المُمانَعة، وبعض عواصم الطموحات بالغة التضخُّم والعقول شديدة الصَّغَار!




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب