شحاتة زكريا

النهضة ليست عنوانا.. إنها إرادة تشتغل على الأرض

السبت، 01 نوفمبر 2025 05:34 م


في زمن تتكاثر فيه الشعارات وتتناسل فيه الوعود ، تختار مصر أن تتحدث بلغة مختلفة: لغة الفعل.

فبينما ينشغل العالم بالجدل حول الماضي تفتح القاهرة أبواب المستقبل على مصراعيها ، لتقول للعالم — كما فعلت دائما — إن الحضارة ليست صفحات في الكتب بل نبض في العروق يتجدد كلما قررت الأمة أن تنهض.

لم يكن بناء المتحف المصري الكبير مشروعا هندسيا فحسب بل كان مشروع وعي وإرادة وكرامة. فمنذ أن وُضع حجر الأساس ، كان واضحا أن الدولة لا تفتتح مبنى جديدا ، بل تؤسس لمرحلة جديدة في تعريف القوة الناعمة المصرية.
هنا على مقربة من أهرامات الجيزة ينهض المبنى كأنه امتداد طبيعي لحجارة خوفو رسالةٌ من الماضي إلى المستقبل تقول إن هذا الشعب يعرف طريقه حتى لو ضل العالم البوصلة.

لقد تجاوزت مصر فكرة عرض الآثار إلى صناعة تجربة إنسانية كاملة. فالمتحف الجديد ليس مجرد جدران تحتضن تماثيل، بل هو مشهدٌ شامل للهوية المصرية حيث تتكلم الحجارة وتبتسم المومياوات ، وتغني النقوش على جدران التاريخ أنشودة الخلود.
كل قطعة وُضعت في مكانها بعناية كأنها تعود إلى بيتها الأول وكل مسار مصمم ليحكي قصة الإنسان الذي صنع المعجزة الأولى على وجه الأرض.

لكن ما وراء الواجهة الحضارية تكمن قصة الإرادة المصرية الحديثة.
فالمتحف المصري الكبير لم يُبن في أوقات رخاء بل في لحظات كانت الدولة تخوض معارك وجودية على أكثر من جبهة — الإرهاب، والاقتصاد، والإصلاح، وإعادة بناء مؤسسات الدولة.


ومع ذلك واصلت مصر العمل في صمت مؤمنة بأن “النهضة الحقيقية لا تبدأ عندما تتوافر الظروف بل عندما يقرر الناس أن يصنعوها رغم الظروف”.


وهنا تتجلى عبقرية الدولة المصرية في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي جعل من مشروعات الوعي والهوية جزءا من معادلة الأمن القومي لأن بناء الإنسان لا يقل أهمية عن بناء الجسور والطرق والمدن.

من كان يتخيل أن نرى هذا الصرح العظيم — الأكبر من نوعه في العالم — يقف شامخا أمام الأهرامات يضم أكثر من مائة ألف قطعة أثرية منها كنوز لم يرها العالم من قبل؟


من كان يظن أن تصبح التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي جزءا من تجربة المتحف وأن يتحول التراث إلى محتوى تفاعلي يخاطب الأجيال الجديدة بلغتها؟


هذه ليست مصادفة بل ثمرة رؤية دولة تؤمن بأن التاريخ إذا لم يتحول إلى قوة إنتاج للوعي فهو عبء على المستقبل.

في كل تفاصيل المتحف، يمكن قراءة ملامح مشروع الدولة المصرية الحديثة
تصميم هندسي يزاوج بين الأصالة والمعاصرة أياد مصرية شاركت في التشييد والنقل والترميم شراكات دولية مدروسة ورسالة ضمنية تقول: “مصر لا تستعيد ماضيها.. إنها تكتب مستقبلها من جديد.”


ومن هنا تأتي قيمة الحدث — ليس لأنه متحفا يضم الآثار بل لأنه مرآة لروح مصر الآن: مصر التي تعمل وتبني وتنهض وتثبت أن الحضارة ليست ذكرى بل مسؤولية.

التحضيرات الجارية لافتتاح المتحف تعكس بدقة حالة الاستنفار الوطني الجميلة التي ترافق كل مشروع كبير في مصر الحديثة.
تعاون بين الوزارات وتدقيق في التفاصيل وحرفية في العرض والإضاءة والتأمين وكأن كل حجر في المتحف يقول: هنا تعمل دولة تعرف معنى القيمة.


حتى المشهد المحيط بالمتحف — من الطرق الجديدة إلى المحاور والمناطق الخضراء والفنادق والمرافق السياحية — صُمم ليحوّل المكان إلى منظومة متكاملة للنهضة السياحية والثقافية وليصبح المتحف مركز جذب عالمي ونقطة انطلاق لاقتصاد الثقافة الذي تراهن عليه الدولة بذكاء.

إن ما يحدث في الجيزة اليوم ليس حدثا عابرا بل فصل جديد في رواية طويلة عنوانها الإرادة المصرية.


ففي الوقت الذي تتراجع فيه بعض الدول أمام أزماتها تختار مصر أن تواجه وأن تحوّل التحديات إلى مشاريع.


تزرع المدن في الصحراء وتعيد كتابة التاريخ على جدران المستقبل وتقول لكل العالم: لسنا نحتمي بالماضي.. بل نستدعيه ليحمي المستقبل.

المتحف المصري الكبير سيكون عند افتتاحه أيقونة عالمية ليس فقط لأنه يضم آثارا نادرة ولكن لأنه يعكس فكرة أن النهضة لا تُستعار، ولا تُستورد، ولا تُشترى بالمال.


النهضة تُبنى بالإرادة، تُروى بالعرق، وتُوقَّع باسم الشعوب التي تعرف من تكون.
وهذا بالضبط ما فعلته مصر: حولت الحلم القديم إلى واقع حديث وأعادت الاعتبار لتاريخها بطريقة تليق بمكانتها كأم الدنيا وذاكرة الإنسانية.

ولأن كل مشروع كبير يحتاج إلى من يحمل رسالته، فإن افتتاح المتحف لن يكون مجرد احتفال ثقافي بل احتفال وطني شامل يشارك فيه العالم ليرى بأم عينيه كيف تصنع مصر معجزتها بيدها.


إنها لحظة لا تحتفي بالحجارة فقط بل بالإنسان المصري الذي قاوم اليأس، وانتصر للإرادة، وكتب من جديد تعريفا لمفهوم الحضارة.

في النهاية، لا يمكن أن نرى المتحف المصري الكبير بمعزل عن الصورة الكبرى لمصر الآن:
من العاصمة الإدارية إلى مدينة العلمين، ومن مشروعات الطاقة إلى مبادرات الثقافة والتعليم تتحرك دولة بكامل مؤسساتها في اتجاه واحد — أن تبني مجدها المعاصر بوعي يحترم التاريخ ويستشرف المستقبل.

وهكذا حين يقف الزائر أمام تمثال رمسيس الثاني في مدخل المتحف فلن يرى فقط ملامح ملك قديم بل سيشعر أنه أمام رمز أمة لم تنكسر يوما.
أمة عرفت طريقها منذ آلاف السنين وما زالت تمضي عليه بثقة ، تؤمن بأن النهضة ليست عنوانا جميلا على لافتة

بل إرادة تشتغل على الأرض... وتصنع مجدا يبقى ما بقيت الحضارة.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب