حازم حسين

عقارب نتنياهو وساعة واشنطن.. فصول غزة المتقلبة بين هجير تل أبيب ونسيم شرم الشيخ

الخميس، 09 أكتوبر 2025 02:00 م


الأمل معقود على طاولة شرم الشيخ، أن تُنجز المهمة المتعثرة منذ شهور طوال لإنهاء الحرب فى غزة. كل الاحتمالات واردة بالدرجة نفسها، وقد علمتنا سوابق المحاولات أن الإفراط فى التفاؤل لا يكفى وحده لتجاوز العقبات؛ لكن خبرة العمر وثِقل المأساة لا يسمحان برفاهية التشاؤم واليأس.


القطاع تردّى لحال يجب ألا تستمر أكثر من هذا، والقضية الفلسطينية كلها على مفترق طرق تتشابك فيه المهددات والمحفزات، وليس فى وسع الحادبين بصدقٍ على المظلمة والحقوق العادلة؛ إلا أن يستكملوا جهودهم لتوسعة طاقة النور الضيقة، وتضفير حبل الإنقاذ من نثائر الجنون، وعلى غير هوى الشيطان الكامن دوما فى التفاصيل الصغيرة.


قطعت المفاوضات حتى أمس ثلاث جولات متوالية الأيام، ويُحتمَل أن تُفضى بين اليوم وغد إلى تفاهمات قابلة للإنفاذ، أو تتجدد دوامة العراقيل لا قدّر الله. إنما تظل الوقفة الراهنة أكثر اختلافا عمّا مضى، وعامل التغيّر الأكبر فيها أن الإدارة الأمريكية تبدو راغبة فى حسم المسألة، وغير ميّالة لمنح نتنياهو هامشا أطول لاستنزاف رصيدها فى المنطقة، وتغليب طموحاته الشخصية على حسابات العقل والمنطق، وعلى مصالح الولايات المتحدة، بل وإسرائيل نفسها.
أما الباعث على تحول موقفها؛ فغامض ويحتمل التأويل، بدءا من تطلع ترامب لجائزة نوبل فى السلام المقرر إعلان الفائز بها خلال ساعات، وحتى تهيئة أجواء الشرق الأوسط لاشتباك جديد مع إيران، أو تبريدها بغرض التركيز على الحرب الدائرة فى أوراسيا، أو التجهيز لترتيبات مغايرة مع الصين وفى منطقة الإندوباسيفيك.


دخلت واشنطن على الخط بحماسة عالية؛ إنما تظل الاستمرارية مرهونة بالمثيرات التى حملت البيت الأبيض على نهجه الجديد. ما يعنى أن الاطمئنان إلى موثوقية الدور الآنى وطول صلاحيته يجب أن يكون محسوبا بدقة؛ إذ لا يُعرف على وجه الدقة لماذا انتقل الأمريكيون من الانحياز المشوب بالحياد إلى العكس، ومن ثمّ يصعب الجزم بالمدى الزمنى المتاح لتلك السماحة الطارئة، أو بالنقطة التى قد يتحولون ثانية من بعدها. ولهذا؛ يتوجب اغتنام الفرصة قبل أن تبرُد أو ينطفئ وهجها، وقبل أن ينجح زعيم الليكود بمراوغاته المعتادة فى تحويل دفتها مجددا.


وبعيدا من الخوافى التى لا نعلمها، وبالتبعية لا نملك جسارة التحديد الدقيق لمراميها ومجال فعلها مكانا وزمانا؛ فإن الحقيقة الجليّة الآن أن واشنطن تُريد اتفاقا سريعا، وتسعى إليه باجتهاد وتعجل.


لكنها تشترط فى الظاهر أن يكون تحت سقف الخطة التى أعلنها الرئيس ترامب، وإن سُمح فى الكواليس بقدر من النظر فى بعض بنودها، ومن غير تبديل الملامح الأساسية أو تحويلها إلى نسخة مختلفة تماما، سواء بالعودة إلى الجدل فى البديهيات التى أفشلت الخطط السابقة، أو بالسعى إلى تظهير حقائق غير ما أفرزها ميادين القتال، وثبّتتها التوازنات السياسية على طول المنطقة وعرضها، لا سيما بشأن القضاء على أذرع محور الممانعة، وإعادة رأسه إلى نطاقها الجغرافى المباشر فى الهضبة الفارسية.


والحال؛ أن الرؤية المحدثة للتسوية أنجزت فى أيام ما تعذر على غيرها فى شهور. إذ خلال أسبوعين فحسب انتقلت من اجتماع ترامب مع قادة وممثلى ثمانى دول عربية وإسلامية، إلى لقائه برئيس حكومة الاحتلال عقب كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومن الحدثين مرورا بالوسطاء إلى أيدى حماس ووفدها المفاوض. ووافق عليها الطرفان المعنيان مبدئيا وفى الخطوط العريضة، ثم انعقدت ورشة البحث فى مسارها الإجرائى والتنفيذى على وجه الاستعجال.
وسرعة الإيقاع إنما تُحيل إلى إرادة فى التغيير الفعلى، بقدر ما تشى بتبدّل الأوضاع فى الغرف المظلمة على الجانبين. بمعنى أن حدود التحرّك المعتادة لدى تل أبيب ربما باتت أضيق من السابق، وقد أشارت تقارير صحفية أمريكية إلى حوارات خشنة بين ترامب ونتنياهو، لم تخلُ من تهديدات مبطنة بجانب التدلل وشراء الخاطر، والضغط على أعصاب زعيم الليكود الذى لا يريد أن يخسر علاقته المتينة بالحليف الأكبر، أو يتعرّض لانفعالاته الهائجة ومزاجه المتقلب.


وإلى ذلك؛ فإن محاولة اغتيال خليل الحية وفريقه فى الدوحة ربما تركت أثرا نفسيا دافعا نحو الاعتدال والمطاوعة، فضلا على ما قادت إليه من تعديلات فى البروتوكول الأمنى، يُحتمَل أنها عزلت الدوائر عن بعضها كليا أو نسبيا، وحيّدت ضغوط الخطاب الأيديولوجى المتشدد على القادة من بقية الممانعين.


أى أن عزل الأسلاك العارية وفّر بيئة مثالية لانتقال الحرارة والإشارات الإيجابية داخل الدائرة الكهربائية المعنية بالاتفاق. بمعنى أن الحماسيين عُزلوا عن المحور الصاخب ليُفكروا بصفاء بين عائلة الاعتدال، وشعر نتنياهو المعزول عن بيئته أصلا بعمق التهديد جرّاء فتور مشاعر ترامب تجاهه، أو مُعاقبته بالتجاهل والإنكار وكشف التفاصيل الدقيقة عن محاولاته لإفشال الصفقات، بما يُهدده بمزيد من الانعزال فى الأروقة الأمريكية الرسمية.


وهو ما لا يملك قدرة على ترويضه أو الاحتيال عليه كما جرت العادة؛ خاصة أن الشارع يسير فى اتجاه آخر، وبلغ التوتر مداه مع القاعدة التقدمية داخل الحزب الديمقراطى، بل وصل الأمر إلى الجمهوريين أنفسهم، وحتى تيار الرئيس الذى تتقدم نزعته الانعزالية تحت شعار «أمريكا أولا» لتتغلب على هواه المسيحانى وعاطفته المشبوبة تجاه إسرائيل.


وبقدر ما يصّاعد القلق بشأن موقف الفصائل من بعض عناصر الخطة الترامبية، لا سيما نزع السلاح بما يشتمل عليه ضمنيا من تفكيك حماس وترحيل قادتها، ثم وضع القطاع تحت إدارة دولية قد يتولاها تونى بلير، وإن من وراء لافتة الرئيس الأمريكى؛ فإن الورقة أُعدّت فى التصميم والتتابع بمنطق لا يجعل القضايا حزمة واحدة، ولا يتيح للمتأخر منها أن يُعطل المتقدم أو يُرجئ المسار كله.


ومعلوم أن النقاشات الجارية تنحصر فى المرحلة الأولى، موزّعة على ثلاث نقاط فحسب: تبادل الرهائن بمفاتيحه وآجاله الزمنية، ثم خرائط الانسحاب من القطاع وتدرّجها، بالتناسب مع عملية التسليم والتسلم أو بمعزل عنها، وأخيرا إنفاذ المساعدات الإنسانية اللازمة للغزيين بكفاية وانتظام، وعبر المرافق الأممية والمنظمات غير المتصلة بأى من الطرفين.


والمسكوت عنه أن وكالة أونروا لن تكون طرفًا فى جهود الإغاثة، اتّصالاً بالمزاعم الإسرائيلية عن ارتباطها بالفصائل وتورّط بعض عناصرها فى أنشطة المقاومة.


إنما على الجانب المقابل؛ لن يُسمَح لـ»مؤسسة غزّة الإنسانية» بالشراكة فى العملية أيضًا، ما يُخلّص ملف المساعدات من آثار الاستقطاب والدعايات، بحيث لا تحتكره قوى الإدارة القديمة على الأرض لتعزيز مراكزها أو إضعاف مُناوئيها، ولا يُسلّحه الاحتلال لإنجاز ما يعجز عنه بالبارود والنار، وتلك نقطة وثيقة الصلة بموضوع إزاحة التهجير جانبًا، وضمان الحد الأدنى من أسباب البقاء والتمسّك بالأرض وعدم الاستجابة لإغراءات الخروج الطوعى.


العُقدة الراهنة تنحصر فى الضمانات المُوجبة للانتقال من وقف إطلاق النار إلى إنهاء الحرب بالكُليّة. ويُمكن القول إن الاختلاف على خرائط الانسحاب ليس عقبة حقيقية؛ إذ من دون موقف باتّ بشأن عدم العودة للقتال، لن يُفيد أن تتزحزح القوات أمتارًا أو كيلو مترات.


وعلى التعقُّد ذاته أيضًا يتأسس موقف الحماسيِّين بشأن السلاح؛ وقد صار مُعطّلاً وعاجزًا عن تغيير المُعادلات القائمة، ولن تُماطل الحركة طويلاً فى تسليمه إن اطمأنت لانتظام ما بعده من خُطَى مُتلاحقة. وهُنا لا قيمة حتى لاعتراض «الجهاد الإسلامى»؛ لأنها إمّا تميل مع الريح وتوافق حليفتها الأكبر، أو تُنحّى جانبًا فى ظل محدودية التأثير الذى يُمكن أن تُشكله على ترتيبات اليوم التالى.


أمّا ما بعد ذلك؛ فلن يعود بمقدور الحركة أن تتمرّد عليه أو تنقلب فى رؤاها. ورغم احتمالية أن ينفلت نتنياهو من تعهّداته؛ فإن قطع الطريق على نزواته المُتوقَّعة وسابقة التكرار لا يبدو مُستحيلاً.


إذ أعلن ترامب مؤخّرًا أنه سيكون ضامنًا للاتفاق، وحال التزام الفصائل بالمُقرّرات فلن ينشأ ما يدفعه للتحوّل عن موقفه، كما أن طبيعة السلطة الانتقالية يُمكن أن توفّر حزامًا عريضًا من الدعم أيضًا؛ إن باستصدار قرار من مجلس الأمن بشأن العملية كلها، أو بتوسعة إطار المشاركين فيها سياسيا ولوجستيا، وقد قالت مُمثّلة الاتحاد الأوروبى قبل أيّام إنهم مستعدّون وراغبون فى الحضور.


وحال إضافة دُوَل كُبرى وفاعلة من الشرق والغرب، بجانب الدائرة العربية والإسلامية؛ سيتعذّر على الاحتلال أن يُجابه كل تلك الهيئة الموصول معها بمصالح اقتصادية أو اتفاقات أمنية.


وإذا كانت الخطة تتأسّس على نقل الاشتباك من الفصائل إلى مُحيطها الإقليمى؛ فالمصلحة تقتضى استكمال الإزاحة لنقله إلى فضاء دولى أكثر رحابةً وتنوّعًا؛ بحيث يتقوّى عناصره ببعضهم، وتتعادل فيه قوى الانحياز للجانبين، ويكون المُحايدون فيه رقباء على المُنحازين.


وطالما أن المسألة ستُصَدَّر إلى الخارج فى كل الأحوال، ويجرى تدويلها خارج نطاق الثنائية الصراعية المباشرة؛ فلا فارق بين أن يتداعى إليه الأقربون وحدهم، أو يُستحضَر بعض البعيدين لغاية ومنفعة؛ وكى يكون الحصار الأخلاقى والسياسى للدولة الصهيونية عالميًّا، حصارًا ماديًّا وإجرائيًّا لأطماعها فى الإمساك بزمام الأمر فى غزّة، أو الاحتيال على مشروع استعادتها من مخالب الانقسام والاحتلال.


ويجب أن تُقرّ حماس اليوم قبل غد؛ بأنه لا مصلحة لها فى تأخير الحلول أو تغييبها، مهما بدت قاسية وغير مثالية، أو مُتحاملة عليها وعلى القضية، فالاختيار الآن بين حرب مفتوحة من دون أفق سياسى، مع مزيد من الخسائر والمخاطر والمصادفات العشوائية، أو الانتقال لمرحلة تعلو فيها احتمالات التداوى على الموت بالعِلّة الموصوفة.


وإنَّ ما يخصّها الآن ينحصر فى ذاتها فحسب؛ وقد قدّمتها على القطاع طيلة الشهور الماضية، واعتنت بخياراتها الخاصة أكثر من عنايتها بأولويات الغزيين وفلسطين عمومًا، وعليها أن تقضى فى التفاصيل المُتّصلة عضويًّا بفضّ الاشتباك الميدانى، وتصفية تركة الهزيمة وأكلافها بعيدًا عن مُقدّرات البيئة الحاضنة ومصالحها العُليا، ثمّ تترك للضحايا أن يُديروا شؤونهم مع المشغولين باستدامة الوجود الفلسطينى وتهيئته لمرحلة نضاليّة جديدة؛ ستكون محكومةً بالسياسة اضطرارا واختيارًا أيضًا.


وأقصى ما يُمكن أن تُقدّمه من اعتذار عمّا سلف؛ أن تُحسن المُقايضة على السلاح والهياكل التنظيمية، بتثبيت بنود الخطّة التى وافقت عليها بالإجمال، وأن تُعزّز مواقف الوسطاء والداعمين، الساعية إلى وضع مُخطّطات عملية مُتدرّجة ومُلزمة، وبحيث يُتَوصَّل من تلك الورشة إلى إنتاج هيئة إدارية نظامية غير فصائلية؛ لكنها تظل موصولة بالسلطة الوطنية الشرعية فى رام الله، وعلى سبيل الوكالة المؤقتة قبل إعادة الأمور لنصابها الصحيح حالما تستقر الأوضاع.


وذلك؛ مع تأطير مهمّة السلطة الانتقالية زمنًا وفى الصلاحيات، وترشيد النكهة الاقتصادية ذات الطابع التجارى فى موضوع إعادة الإعمار، وبحيث يُصار إلى الخطة المصرية التى اعتمدتها القمة العربية الإسلامية قبل شهور، بدلاً عن صيغة «الريفييرا الترامبية» المُضمَرة بين مكوّنات الطرح الراهن.


أمّا التمسُّك بأهداب الماضى؛ فلن يكون إلا تجديدا للذرائع، ومن وراء ذلك التصريح الفجّ من الحركة بأولوية النظر لأجندتها على أى اعتبار يخص الوطن ومواطنيه.


إذ لو كان الحماسيون يُقرّون بمُلامسة قعر المأساة فعلاً، ولا يجدون مخرجًا لأنفسهم إلا التضحية بآخر أوراقهم المُتمثّلة فى الرهائن، ويتقبّلون ضمنيًّا التنحّى عن الإدارة أو التشارُك فيها؛ فلا معنى لاستبقاء ذيول تسمح للعدوّ بتعطيل الجهود الإنقاذية، أو إطالة الأمد على تجفيف مستنقعات الحقبة الواجب إغلاق دفاترها فورًا وبالكامل.


فكأنهم بأية مُماطلة يمنحون الاحتلال كل ما يُريد عمليًّا، ويقطعون على غزّة طريق استيفاء الحدّ الأدنى مما تتيحه لهم شروط التسوية بعد الهزيمة.
لم يُهزَم نتنياهو فى الطوفان، وصار أشرس وأكثر تقدّمًا عمّا كان عليه فى السابق. وفى كل الأحوال؛ فإنه لا يُريد الاتفاق المطروح حاليًا بكل ما فيه من سوءات؛ بل لا يُريد اتفاقا من الأساس. إنها محاولة لترويض الوحش الذى استنفرته شعبوية المُمانعة بجهلٍ واستخفاف عظيمين، ويمتلئ بمشاعر الاقتدار على حَسم غاياته الكُبرى عاجلاً غير آجل، وقد تداعت الميليشيات أمامه وانكسر الهلال الشيعى بجهد أقل مِمّا كان مُتصَوّرًا.


وكَبحُ اندفاعته فى حد ذاتها مكسب، وإنقاذ المنكوبين بوقف الحرب يستأهل التضحية، أمّا شراء الوقت تحت النار فلا يُقارن على الإطلاق بشرائه فى سِعَة وأجواء طبيعية، وبما يُتيح تفاعل السياسة داخل فلسطين لترميم المشروع الوطنى النضالى وإغنائه، وتفاعلها فى قلب إسرائيل لتقليب تُربتها، وافتتاح مسار المُساءلة والحساب عن خطايا الحكومة القائمة، وتعويضها ببديل قد لا يكون أفضل قطعًا؛ لكنه لن ينطلق من ذات اللحظة المسعورة، ولا بفائض الزهو والوضاعة المُتسلّط على نتنياهو وعصابته.


جولة أمس فى شرم الشيخ اتّسعت، وأضافت مزيدًا من المُحرّكات للعربة التى يدفعها الوسطاء ويقف أمامها الصهاينة، فيما يجلس الحماسيون داخلها مُسيّرين لا مُخيّرين غالبًا. حلّ المبعوث الأمريكى ستيف ويتكوف ومعه جاريد كوشنر صهر الرئيس، إضافة لرئيس الاستخبارات التركية ورئيس ووزراء ووزير خارجية قطر، ومعهم جميعًا رون ديرمر، وزير الشؤون الاستراتيجية وأقرب مُستشارى رئيس حكومة الاحتلال.


ودخول الولايات المُتحدة من مُنتصف السكّة غرضه تصويب المسار وضبط السرعات، كما أن ترقية مستوى التمثيل الإسرائيلى علامة على الاستعداد للحسم والإلزام، لا سيما أن «ديرمر» وثيق الصلة بالإدارة الجمهورية وكان شريكًا فى إعداد خطّة ترامب، مع دلالة وجود أرفع مسؤول أمنى لدى أردوغان ووزير خارجيته السابق، فيما يخص أن تكون أنقرة بين الضامنين للاتفاق، وربما ما يتلو ذلك من ترتيبات تخص وضعية القادة الحماسيّين ومُستقرّاتهم المُستقبلية.
لقد كان مُلفتا أن يدعو الرئيس السيسى، فى كلمته خلال حفل تخريج دفعة جديدة من أكاديمية الشرطة أمس، نظيره الأمريكى دونالد ترامب إلى زيارة مصر وحضور توقيع الاتفاق؛ حال التوصل إليه.


عبّر السيسى عن أمله فى إنجاز المهمّة؛ لكنه استبق ذلك أو عقّب عليه بتلقّيه إشارات إيجابية للغاية من شرم الشيخ. ما يوحى بنبرة من التفاؤل المُتحفّظ؛ لكنه يميل بدرجة أكبر إلى قُرب التوصُّل لتفاهمات إجرائية تُنجز المرحلة الأولى، وبعدها سيكون الذهاب إلى بقيّة المراحل أيسر نسبيًّا من الإقلاع؛ طالما أن الولايات المُتّحدة تُعيد تكييف مواقفها وتتموضع عند مُنتصف الطاولة؛ بدلاً من جلوسها السابق إلى جانب الجناح العبرى.


آلية عمل إسرائيل محفوظة ومُتكررة. تقضم كلما كان مُتاحًا، وتَكمُن عندما تشتدّ الأنواء والعواصف، وقد تتراجع نسبيًّا بحسب الضرورة والاحتياج. منطقها يتساند إلى فكرة «خُذ وتربّص»؛ بمعنى أنها تقبل بالمُتاح مؤقّتًا لحين توافر الظروف المُحفّزة على القفز لِمَا هو أبعد.


فعلتها مع قرار التقسيم قبل ثمانية عقود، وفى أوسلو وغيرها، ولا شىء ينفى أنها تتأهّب لفعلها اليوم؛ لكن الطرف الآخر عليه أن يمتلك الترياق المُضادّ للسمّ، وكان قديمًا «خُذ وفاوض»، ثم صار الآن «اترُك وانجُ»؛ أى أن يُحسن المفاوض الفلسطينى الميقات فى التخلّى عمّا فقد بريقه وفاعليته بالفعل؛ لكى لا يُدفَع إلى زاوية يخسر فيها ما لا يطيق خسارته، أو تصعب التعافى من تبعاته الثقيلة.


ليس مُتاحًا لحماس أن تستدعى المراحل المُؤجّلة للبحث العاجل؛ ولن يفيد استعصاؤها مُستقبلاً بعدما تُسلِّم الرهائن. والواجب أن تُدبّر مع الحلفاء من الآن ما يتعيّن الوقوف عليه أو النزول عنه فى الفترة المُقبلة، وأوّله تحسين شروط الإدارة البديلة فى القطاع، وقصقصة الريش الزائد فى أجنحة «مجلس السلام» المُقترَح، والعمل على بناء مظلّة إجماعية، أو السير نحوها على الأقل؛ لإعادة تلزيم المسؤولية السياسية والمعنوية للسلطة الوطنية بالمواكبة مع إقرار ترتيبات إخراج عزّة من الحرب، وبما يجعل ذلك رديفًا لتفعيل الصلاحية الدولية، ويمزج رام الله مع الإدارة الجديدة شريكًا حاليا وبديلاً فى أقرب فرصة مُمكنة.


يُحتَمَل أن يحتال نتنياهو؛ لكنه الآن فى الحرب فعلاً. والخوف من أن يأخذ الرهائن وينقلب، يوحى كما لو أنه مشغول بهم أصلاً. بل على العكس؛ لعلّه كان آخر الراغبين فى تحريرهم، وإحراق تلك الورقة فى يده سيضعه أمام التزامات داخلية كان يُعلّقها على المجهول والذريعة.


لا شىء قد يحدث أسوأ من الحادث، ولا فرصة لدى حماس لرَدعه أو تكرار طوفانها الغبىّ. كل ما يُخشى منه واقع؛ وكل ما يُتَطَلَّع إليه مخبوء وراء الاكتواء بالجمرة القريبة؛ بدلاً من السير إلى عُمق المحرقة. بمعنى أن التكاليف تتزايد ولا تنقص، وما كان مرفوضا بالأمس صار مُستحيلاً، وما يُعرض الآن قد لا يكون مُتاحًا فى الغد.


يتطلّع ترامب إلى ساعته. عقاربها فى يد نتنياهو؛ والتوقيت سيتحدّد بالوفاق بينهما، ومعلوم من له اليدُ العُليا على الآخر. ومهما قيل عن اللوبى وسطوته، وعن خشية الساسة الأمريكيين أو إخلاصهم للدولة العِبريّة؛ فإن الجالس على عرش العالم الآن رجل صفقات، مُستقبله من ورائه، ومراكبه مُحترقة بالولاية الأخيرة، وعينه على بناء إرث إن لم يمنحه نوبل الآن؛ فعلى الأقل قد يُبقيه فى الذاكرة، أو يُنحّيه عن أسوأ صفحات التاريخ.


واشنطن تُريد الاتفاق؛ لو صحّت النوايا أو امتدّت صلاحيتها. إسرائيل بدونه تفعل ما تُريد، ولن تزداد به قوّة على قوّتها. إن كان فى خاطر نتنياهو أن يدفع حماس لرفض الخطّة؛ فعليها أن تُفوّت عليه الفرصة؛ ولن تخسر أكثر مِمَّا خسرته بالفعل. أما أقصى مخاطر القبول فأن تتجدد الحرب، وهى واقعة ولا سبيل لدَفعها ولو بالرهائن، وفى المزايا المُحتملة أن تتوقّف نهائيًّا، أو يصطدم قائد الاحتلال مع راعيه الأمريكى، بل ومع بيئته التى ضجرت منه.


الحركة مَدعوّة إلى تجربة الخسارة الناعمة؛ بما فيها من وعدٍ جيّد، أو أقل رداءة، لغزة وفلسطين، لا سيما أن غرامها بالخسائر الخشنة والحارقة أضرّ بالجميع دفعةً واحدة، ويتهدّد القضية فى وجودها من الأساس.


يخسر الغزّيون ولا تربح، ويُحتمَل أن يربحوا بخسارتها؛ ولها الاختيار نظريًّا. إنما الغالب أنها معدومة الخيارات تقريبًا، والأوراق كلها فى قبضة نازىّ مسعور يجلس فى تل أبيب؛ ما يضع المسؤولية كاملة على كاهل ترامب وإدارته، والساعات المُقبلة ستُنشئ وتكشف، وإن كانت الرياح الآتية من هُناك تُبشّر بشىء من الأمل، لمن لا رفاهية لديهم ولا مُتّسع لمزيدٍ من اليأس.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب