حازم حسين

عن سؤال الهوية قبل الدولة.. فلسطين بين محنة العدوان ومنحة الانعتاق من الأوهام

الأربعاء، 08 أكتوبر 2025 02:00 م


ما تزال الدائرة مغلقة منذ ثمانية عقود. كأن الزمن لا يتحرك؛ وإن فعل فبالالتفاف على الذات. لا جديد على الإطلاق فى الفضاء الفلسطينى؛ لأن كل ما يجرى اليوم سبق أن وقع وتكرر، وكل ما يُطرح من أفكار يقود إلى النتيجة نفسها، ويُمهد لمزيد من التكرارات المملة. ويبدو الاختراق المطلوب مستحيلا، أو غير مرغوب فيه من قوة خفيّة، تتجسّد ظاهرا فى الكتلة الأصولية الصلبة على الجانبين، ويختبئ شيطانها الحقيقى فى التفاصيل هنا وهناك. ودائما ما كانت الحلول الجزئية تجيب عن أسئلة من خارج الامتحان أصلا؛ أما المحكات الحقيقية فلم تُعرَض على البحث لمرة واحدة، فيما الغاصب والمغصوب مربوطان معا بحبل غليظ، ويقولان الكلام نفسه بلغتين متضادتين.

عمليا؛ تحققت تجربة الدولة الواحدة لعقود قبل نشوء إسرائيل. اليوم لم يعد ممكنا استدعاؤها من متحف التاريخ، كما يتعذر تقسيمها إلى دولتين تقفان على قدم المساواة. كلا الأمرين وصفة مثالية للصراع الأبدى؛ طالما تقف الأصولية فى خلفية الصورة، وتتسلط «الهويات القاتلة» بتعبير أمين معلوف، على منطق التعايش والمساكنة بين النقيضين فى بيئة واحدة. إذ لن يمتزج الزيت بالماء قطعا، ولن يتجاور الثلج والنار فى أية لحظة مقبلة. إنها مروحة ثلاثية بشفرات قاطعة: صهيونية تقتص من التاريخ بأثر رجعى، وراديكالية إسلامية تُناطح على ماضٍ لن يعود، وبينهما صدام لا يقبل الحسم أو التسوية.

واقع التجربة أن الأولى تمكّنت؛ فأفرطت فى البطش والتقتيل وقضم الجغرافيا ومحاولة هندسة الديموغرافيا على قاعدة السيادة المطلقة. ولو حلّت الثانية بديلا عنها فلن تتبدّل التفاصيل كثيرا، أما الاحتمال الثالث فيُعبر عن نفسه بأقصى وضوح ممكن فى العامين الأخيرين، وما اقترحه «طوفان السنوار» مخرجا عشوائيا من الاحتباس بين خيارين قاتلين: التبعية الكاملة لدرجة الانسحاق أمام العدو، والغضب المكتوم بالعجز عن إعلاء الإرادة وفرضها على الآخر/ الرافض لنا والمرفوض منّا فى ذات الوقت.

والدولة بالطبيعة ليست مجرد إطار تنظيمى؛ بل ضلع أصيل فى معمار الهوية وشبق إبرازها وتظهير مكوناتها فى أبنية ومؤسسات حاضنة وحامية. ويتطلب الوصول إليها حدا من التجانس يُنحّى الفرد لصالح المجموع، وبهذا تتحدد ملامح «الشعب» الذى يسبغ على الحدود معنى نافيا للجهالة والمجهولية، ومنه تنبع السلطة التى تبث الروح فى الهيكل الرمزى. ما يعنى أن تأطير المواطن ونمذجته هما المدخل الأساسى لفكرة الوطن، ثم يتسع الفضاء ويضيق، أو تتغير الأنظمة والحكومات. المهم أن تتوافر المفردة؛ لتنبنى الجملة.

قطع العالم شوطا طويلا من شرعية القوة إلى شرعية الضعف؛ بمعنى أن الدولة لم تعد ملعبا للقادرين على الهيمنة والاستبداد بغيرهم؛ بل حصنا للعاجزين عن الصراع وغير الراغبين فى الاستئساد. لم تعُد الأوطان تتشكل بالسيف داخليا، ولا بصكوك إلهية يحوزها البناة الأوائل أو يوهمون الرعية بحيازتها؛ بل بتلاقى العُزّل معا فى ساحة الاستسلام بإرادة خالصة. والشرط الشارط أن تكون الندية والتكافؤ قناعة عميقة؛ أما القمع وقوننة العنف فهما استثناء عابر، يُلجأ إليه طبعا، إنما لا يُحتج به على الطبيعة.

كان التغالب سمة للعلاقات بين البشر جميعا؛ ثم حِيز للصفوة فى انتقالة بين البداوة والتمدّن، وبعدها أُمِّم لصالح الكيان الاعتبارى. ومنذ صلح وستفاليا فى العام 1648 أُلزمت الدولة بالمادى دون المعنوى والميتافيزيقى، وحُيّدت عن منح معاركها الشخصية والمصلحية صفة مقدسة. وبهذا اتخذت الحروب الصليبية على الشرق قديما، صفة قومية فى الزمن الحديث؛ صحيح أن البشر لا يتوقفون عن المراوغة والحنين إلى ماضيهم البدائى؛ لكنهم صاروا أكثر عناية بتكييف النوازع العقائدية مع الأطر الوضعية المستحدثة، والإيحاء بالتجرّد والقوانين الرياضية المُعمّمة؛ ولو ادعاء وتمثيلا. ظل البشر على طبيعتهم، يُحبون ويكرهون كيفما شاءوا؛ لكن بلدانهم تتعانق وتتفارق بحسابات العقل والمنفعة.

ولو نظرنا للمسألة الفلسطينية من تلك الزاوية؛ فإنها ما تزال حبيسة مرحلة أسبق على وستفاليا، وربما الحروب الصليبية أيضا. تغلُب فيها العاطفة على الوعى، والانفعال على الفاعلية، ويحل الماضى بكل أثقاله على مسرح الحاضر، وتتنفس النصوص العتيقة من رئات البشر المعاصرين. وبأية حسبة ناضجة؛ لا عقل فى إدامة الصراع باندفاعة أبدية ونزوع صفرى، ولا منفعة حقيقية للقاتل إذ يُراكم الجرائم ويُذكى مشاعر الثأر، مرحبا ولا لذوى القتلى بينما يُعدّدون ضحاياهم فى متوالية حسابية لا تتوقف، وكلما لامسوا قعر المأساة فاجأتهم مخالب الضباع ومعاول حفّارى القبور بالمزيد.

تحيا إسرائيل فى الأسطورة التى طمرتها القرون، وتسكن وما زالت على أوراق التوراة، بأكثر مما تلمس طينة الواقع بين النهر والبحر. وليست مصادفة أنها البلد الوحيد تقريبا من دون دستور أو حدود واضحة، وإذا كانت تُسيّل خرائطها قصدا لغرض مُضمَر، فإنها تفرض السيولة على الآخر الفلسطينى بالضرورة. وبالتباس الهوية فيها؛ تجرّهم إلى فخ الارتباك والتناقض فى تعريف ذواتهم؛ لأنها إما تندب بسلوكها تيارا رجعيا مكافئا لها فى الأحادية والعنف، أو تستدرج الباقين إلى الإفراط فى تلبية الشروط المغرية؛ لتتصالح معهم أو تقرهم على الحد الأدنى من حقوقهم الضائعة.

والصلح مُستبعَد لأنه ليس من أدبيات اليهودية وحاخاماتها مع الأغيار، ولأنها غير مضطرة من الأساس للنظر فى احتلال الأرض؛ انطلاقا من كونها تستعمر العقول والأفكار على الجانب الآخر، وتُحرّك الفواعل النظامية وغير النظامية لدى الفلسطينيين باللين قبل الشدة، إما عبر التنافر أو التماثل، وكلاهما يقود إلى التماهى مع غاياتها المقصودة عبر الرفض العاطفى أو الحشد المُنتج للذرائع والدعايات.

وبوضوح أكبر؛ فما على تل أبيب إلا أن ترفع البندقية وتلوّح بالحوار، فيذهب المقاتل على الجانب الآخر إلى ميدان الحرب، ويلهث المفاوض للطاولة. تفعل هذا حينا وتتخطاه أغلب الأحيان؛ لكنها دائما تعرف طريقها إلى التلاعب بجنديين على جبهة واحدة، وبينهما غابة أيديولوجية تجعلهما كيانين لا كيانا واحدا؛ حتى أن السلاح يصير عبئا على السياسة، والعكس، فلا تنقطع حيل الاستدراج، ولا يتحقق التراكم المثمر للقضية ومسارها النضالى، وحالما تقع الخسارة فى ناحية تنعكس على الثانية، ويظل العدو قادرا طوال الوقت على الاحتيال عليهما معا، والانفلات من التعهدات لهذا بنوايا ذاك، أو بهداياه المجانية، وكثير منها نيران صديقة، تُفوّت الجار الجائر وتصوب على الشقيق الحائر.

ومأزق فلسطين الأكبر أنها وُئِدَت قبل أن تُولَد. خرجت من غبار القرون الوسطى إلى عصمة الاحتلال الإلغائى، ودون أن تختبر ذاتيتها الخاصة بعُمق، أو تعرف فكرة الدولة الوطنية وعيًا وممارسة. وإرثها يتنقّل بين أبنائها بإيمانٍ لا يتزعزع، ولا يُخضَع بالبديهة للمساءلة وإعادة التعريف.
لهذا؛ ما يزال طيفٌ منهم مُقيمًا تحت راية الدولة العثمانية، والناضجون نسبيًّا انطلقوا إلى فضاء القومية بغلافه العرقى والثقافى، ورواسبه الستينية التى تجاوزها الزمن. وإزاء استعمارها بأفكار تنبع من سياقات وصيغ تنظيم غير ما تقابله الآن؛ فإن استقلال الدولة يبدو عصيًّا، بالنظر إلى أن الهويّة الخاصة لم تستقل أو تتشكّل حتى الآن.

صحيح أن التناقض الأساسى يقع مع الاحتلال الذى يرفض التوصل إلى حلول عملية، ويُدير عملية هيمنة وابتلاع منهجيّة صاعدة؛ إلا أن التناقضات الثانوية ما تزال فاعلة بدرجة أكبر، ليس لأنها تُعين الصهاينة على تجزئة المُجزّأ والاستفراد بكل قطعة منه على حِدة؛ إنما لأنها تخلق صورًا شتّى عن الحلم الواحد، ما يجعل الشراكة فيه حديثًا نظريًّا خالصًا، والقدرة على تحقيقه خيالاً لا يرتضيه أصحابه قبل الآخرين.

الحالة الفردية حاضرة بقوّة، ولا اتفاق على تصوّر واحد للدولة أو طبيعة العلاقات داخلها. عشرات التنظيمات المدنية والمُسلّحة تختلف على كل شىء تقريبًا، ولا ترتسم فى أذهانها خريطة واضحة للوطن المأمول؛ حتى أن الأيديولوجيا الواحدة تنقسم على نفسها عِدّة مرّات؛ لتُقدّم نُسخًا شديدة التباين على الرغم من تسكينها فى برواز واحد. كما فى حال فوضى الرؤى والمذاهب داخل مُنظمة التحرير، بل وحركة فتح نفسها، وفى حال النموذج الأوضح على امتداد المروحة الإسلامية: من حماس للجهاد وبعض السلفيين والدواعش أيضًا.

والافتراق هُنا يتعاكس مع الاندماج الكامل هناك؛ إذ الإسرائيليون جميعًا جلبتهم الفكرة بالأساس، ويقرّ فى وعى الفرد منهم أن مكوّنه الصهيونى شرط أصيل للوجود والبقاء، ما يجعل التمايزات بينهم عامل إثراء لا إضعاف. وتحت تلك المظلّة؛ ينوب المقاتل عن المدنىّ فى حراسة المشتركات المتفق عليها، ويلعب الأخير دورًا فى تمرير السردية وإبراء الذمّة؛ كأن تضطلع النخبة بمهام الدعاية والتعمية وخلخلة المواقف المضادّة لإجرام الدولة؛ بما يُكسبها طابعًا ديمقراطيا مُضللا، ويختزل جريمة المجموع فى الفرد، وبعددٍ لا مُتناه من فرص الإنكار مع تبدّل القادة على مقعد الحُكم.

والدور سالف الإشارة، لعبه ياسر عرفات لوقت طويل باقتدار؛ وإن لم ينجح فى مزج المكونات معًا ضمن ماعون واحد. أما حماس فقد استعاضت عنه بتعميم لونها على الجميع؛ إما بالشمولية والانفراد بالقرار فى غزة، أو بمُنازعة السلطة وتقويضها فى الضفة الغربية، وبينهما الانطلاق من دعاية دينية تدّعى الطّهرانية وترمى غيرها بالخيانة. حتى صار بإمكان نتنياهو وعصابته أن يقولوا إن القطاع بكامله مسؤول عن خطايا الحركة، فيما لا تصلح «رام الله» بديلاً؛ لأنها مرفوضة فلا تنعقد لها راية الإجماع فى بيئتها، وعاجزة عن الفعل بحيث لا تصلح شريكًا يُماشيها على طريق الدولة.

وما لم يُعرّف الفلسطينيون أنفسهم على وجه صحيح، وبالتقاء واضح فى الثوابت والمُشتركات، وانفصال عن كل ما عُرِّف به الصراع سابقًا، وقادهم إلى اللحظة القاتمة حاليًا؛ فلن يكون الطوفان آخر مآسيهم ونكباتهم. وبعيدًا من العاطفية؛ فإنها ليست قضية عربية وإسلامية؛ بل فلسطينية خالصة. قضية ديموغرافيا قبل الجغرافيا، إذ الفكرة تتحقق بالبشر أوّلا وقبل كل معيار آخر، ومسألة اعتقاد فى الوطن؛ يجب ألا يتجاوزه أو يُدانيه أى مُعتقد آخر.

عند تلك النقطة؛ فلا مجال للحديث عن الوقفية الإسلامية، ولا لاستدعاء النصوص التاريخية التى يُقابلها العدوّ بنصوص أقدم. كما لا تستقيم مُعادلة أن الواحد منهم بألفٍ مِنّا، وأن إيلامهم فى الطوفان يُكافئ تكسيح الغزيين لسنتين تاليتين. فضلاً على التيقّن من أن الجنّة لا تنوب عن الدنيا، والغايات الكُبرى لا تُؤخَذ مرّة واحدة.

والقصد؛ أن العقبة لا تتجسّد فى طبيعة المُحتل الباطش فحسب. لا سيّما أنها لن تتغيّر غالبًا، وأن العنف أصيل فى حمضه النووى، ولن تُفضى مقارعته بالوسائل المُحبّبة لديه إلا لمزيدٍ من الصدامات غير المحسوبة؛ لكنها تظل محسومة بفارق القوّة والإمكانات. ما يفرض التغيُّر على الطرف الضعيف، واستكشاف فضاءات أكثر نُضجًا للعيش والمقاومة، وقبلهما تخليص الهُويّة من عوالق الزمن القديم، وإخراجها من الاستقطاب والاستتباع خروج الحىّ من الميت؛ لأن القضايا تُنصر بالحياة لا بحصيلة الأموات.

من هنا فقط؛ يُمكن أن تُشكل خطّة ترامب المطروحة لإنهاء الحرب فى غزة فرصة حقيقية؛ أقلّه من منظور العلاج بالصدمة، ووضع المنكوبين أمام الحقائق القاسية دون تجميل أو تزييف. فالمَخرج المُتاح يُحدّده طرف مُنحاز بالأساس، ولن يُقلع عن انحيازه اليوم أو غدًا. وكان إلى وقت قريب داعيةَ تصعيد وإفناء؛ وإن تجدّدت الوقائع فقد لا نعرف إلى أى وجه يسير.

يقول الرجل صراحةً إنه ينصر الظالم على المظلوم، ويُخطر حماس بأثمان الهزيمة الواجب سدادها؛ لكنه إلى جوار ذلك يشقّ طريقًا للقضية أن تُرمِّم شقوقها، وأن تُعيد النظر فيما فُوِّت عليها أو فوّتته باستخفاف بعض الناطقين باسمها. والمسألة ليست فى إزاحة الحركة وسلاحها الآن أو بعد فاصل قتالىّ آخر؛ إنما فى أن يكون ذلك إيذانًا بمُغادرة الزمن القديم وأطروحاته الرديئة، والدخول فى عصر جديد تتشكّل فيه فلسطين على صورة تُشبه حاضرها، ولا تُشَدّ فيها قهرًا إلى متاهة جُرّبت طويلاً، وأفنت أجيالاً من السُذّج أو المفتونين بالشعارات الساخنة.

إن حماس، من حيث كونها عنوانًا على نمط فى التفكير والسلوك؛ قد صارت عبئًا على نفسها وبيئتها. ومُطالبة الاحتلال بإزاحتها تنطلق من غضبة أو مصلحة؛ لكن المفارقة أنها تنطوى على مصلحة فلسطينية أيضًا. لقد كانت الحركة ارتدادًا إلى وعى قديم، والانعتاق منها لا يُبشّر بالضرورة بالعصرنة والإمساك باللحظة الراهنة؛ لكنه يفتح طريقا إلى ذلك على الأقل.

ربما نشأت الحالة الفصائلية من أجواء السيولة، وبدافع الحاجة إلى الإرباك والمُشاغلة، وتوزيع البيض على سلال عِدّة؛ لكنها آلت إلى تركيبة مُعقدة من النزاعات البينية، وطرح بدائل محلية تتناوش فيما بينها، ويسعى كل بديل منها لالتهام الكعكة دون الآخرين. وإذا كانت ميادين القتال غير المُتماثل تحتاج لتلك الشرذمة؛ فإن الانتقال الذى صار وجوبيًّا إلى حروب السياسة التماثلية يتطلّب رأسًا واحدًا، وسلطةً نظامية لا تُنازعها الميليشيا؛ أقلّه لتُوجَد الدولة رمزيًّا كى تتعزّز حجية المطالبة بها ماديًّا.

طوفان السنوار لم يكن أوّل الطوافين؛ إذ الانقسام والانقلاب على السلطة والبطش بالغزيين تصحُّ أن تُؤخَذ على هذا المحمَل، وكانت لها مفاعيل وتداعيات لا تقل فداحة. نشوء الحركة نفسها من فضاء الانتفاضة الأولى، وانقسامها على ذاتها فى صورة «الجهاد الإسلامى»، واستتباعهما بين محورى العثمانية الإخوانية والشيعية المُسلّحة، وشراكة التشغيب على أوسلو مع اليمين الصهيونى؛ كلها كانت أمواج هائجة أطاحت بالقليل القائم، وما قادت إلى الكثير الضائع، أو اقتربت منه شِبرًا.

أضرّت حماس بإسرائيل فى السابع من أكتوبر؛ لكن أضرارها على فلسطين كانت أكبر طوال ثلاثة عقود أو يزيد. ويجب أن تتحرّر الذهنية الفلسطينية من الاستقطاب الذى تسبّبت فيه، وأن تثوب إلى رُشدها انتصارًا لهُويّة جامعة، وعقل سياسى يستضىء بالتجارب ولا يُدمن الانتحارات المُتكررة. خصوصا أنها آيلة للتردّى من حالقٍ، وستُسدِّد كُلفة النزق والمُغامرة، وينبغى ألا يُجبَر المنكوبون على الوفاء بمغارمها مُستقبلاً، بعدما اسُتحلِبَت مغارمها من شرايينهم ماضيًا.

يُدَار التفاوض بشأن المرحلة الأولى من خطّة ترامب فى مصر. كان تاريخ الانعقاد الأول فى السادس من أكتوبر مُحمّلاً بالدلالات. وحتى لو تحدّد بالمصادفة؛ فإن اختيار شرم الشيخ لم يكن عشوائيًّا، وأُريدت منها رسائل ورمزّيات عِدّة. أهمّها أن ثمرة السلام تُعرّف عن نفسها دون حاجة للكلام، وأن الأوهام تسقط مع الزمن. كانت المدينة فى قبضة الصهاينة حتى أربعة عقود مضت؛ وصاروا يحلّون عليها ضيوفًا عابرين. الحماسيّون طُوردوا فى أرجاء الأرض، واغتيل قادتهم فى عواصم بعيدة، لكن الحاليين منهم يجلسون على مسافة قريبة من قطاع غزّة ليحسموا أمر الحرب، وكانوا قبل شهر واحد مُعرّضين للقتل فى الدوحة.
تعبير واثق عن القوّة، وتأكيد لنهائية الموقف من التهجير وتصفية القضية. وفيه تذكير ضمنىّ لقادة الحركة بأن الهزائم تتلوها انتصارات؛ طالما استُوعِبَت وأُخذِت بحقّها، وتقدّم فيها الأصيل الراسخ على الدخيل المصنوع. عادت سيناء بعد يونيو لأن المصريون لم يُكابروا فى الاعتراف بالواقع؛ ولن تعود فلسطين إلا حالما يُقرّ أبناؤها بالحاجة إلى تغيير أنفسهم؛ ليتغيّر العالم من حولهم.

أصابت حماس وأخطأت، وعليها أن تنتقل ككيانٍ إلى عُهدة التاريخ. بقاؤها بالعقلية نفسها؛ لو تيسّر أصلا، سيكون خطيئة فى حق القضية، وفناؤها من دون إغناء فلسطين وتعزيز سلطتها الشرعية خطيئة فى حق نفسها، وتدليل على أنها أرادت الخاص قبل العام، وقدّمت رايتها على الوطن وما تزال. وفى كل الأحوال؛ يتوجّب أن تُحسَم المسألة وتُفَكّ التشابكات وطنيًّا، وأن يتحرّر الغزّيون وغيرهم من سجون الأيديولوجيا والحركات الملوّنة؛ ليُتاح لهم أن يستكشفوا فضاء الوطن المرجوّ لخدمة شعبه؛ لا لامتصاص رحيق أرواحهم فى متاهة مُغلقة عليهم من الداخل.

الدولة الواحدة خيال، والدولتان أبعد ما يكون عن الواقع الحالى. إسرائيل ترفض الاحتواء، وتسعى لأن تفرض النمذجة والتنميط على مناطق مُؤطّرة بالحُكم الذاتى. التعايش يتطلب ترتيبات أمنية تضمن التوازن، وتسبقه الحاجة لإعادة التأهيل النفسى والثقافى على الناحيتين. طريق طويلة وشاقة؛ والصهاينة ليسوا مُضطرّين لخَوضها، ولن يتغيّروا؛ طالما لم يُفرَض عليهم التغيُّر. يُديرون اللعبة بمنطقهم، وأوّل الانعتاق أن يُستَدعوا إلى ملعب آخر، وأن يتمرّد مُنافسوهم على الشروط الموروثة. إن لم تكن قويًّا بما يكفى؛ فلتُجرّب حِيَل الضعفاء، بدلاً من تقديم القرابين المجانية للوحوش.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب