ليست شيفونية، وحسب، ولكن من باب الإنصاف والعدل، ووفق الأحداث والمواقف التاريخية الواضحة الجلية المسجلة كتابة ورسما على الشواهد الأثرية المختلفة، منذ آلاف السنين، أن مصر منحها الله سبحانه وتعالى، القدرة والجدارة على كتابة المشاهد النهائية للأحداث العاصفة، ومنحة رجاحة العقل والحكمة، ولما لا، وتاريخها يشى بأنها خُلقت لتكون منارة للعالم، حضاريا بكل مشاربها. لن نعيد ذكر كتابة هذه المشاهد التاريخية العظيمة التى دونتها مصر، ولكن نؤكد على بعض مشاهد الأحداث الفارقة، منها انتصار أكتوبر 1973 العظيم، وكيف حقق الجيش المصرى الانتصار المبهر الوحيد فى العالم، على الجيش الإسرائيلى، وكسر أنف إرادته.
اقرأوا مذكرات جولدا مائير، رئيسة الوزراء الإسرائيلية، حينذاك، والتى كشفت فيها إنها استغاثت بالرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون قائلة: «انقذوا إسرائيل من الطوفان المصرى»، وعلى الفور تحركت الولايات المتحدة الأمريكية ورفعت حالة الطوارئ بإقامة جسر جوى لتعويض الجيش الإسرائيلى عن خسائره الكبيرة فى العتاد العسكرى.
ما ذكرته رئيسة وزراء إسرائيل إبان حرب أكتوبر يدحض كل ادعاءات المشككين والمسخفين من الموتورين الحقدة للتقليل من هذا الانتصار العظيم والوحيد على إسرائيل، وقهر الصعاب، وعبور أكبر وأقوى حاجز مائى فى التاريخ.
ثم جاء «طوفان الأقصى»، والذى جلب وبالا أغرق الخرائط وهددها بالانقراض، لتقف مصر من جديد، وتدشن عشرات اللاءات، أبرزها «لا لتصفية القضية الفلسطينية، ولا للتهجير القسرى، ولا لأى حل على حساب مصر والأردن، ولا لاحتلال غزة، ولا لوجود الناتو على الأراضى الفلسطينية، ولا بديل سوى حل الدولتين»، وغيرها من اللاءات.
بجانب الموقف الواضح الرسمى المعلن بأن مصر تقف وتدعم أشقاءها من أى تهديد إسرائيلى، وكان موقفها شاهدا مع قطر التى تعرضت لضربة مؤلمة.
موقف مصر الصلب والقوى، أوقف تصفية القضية الفلسطينية، وأثمر عن مبادرة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بإنهاء الحرب فى غزة مع إلزام الأطراف بقبول العرض، وكان رد حماس «سياسيا» بقبول المبادرة، أمرا مهما فوت الفرصة على إسرئيل، أما رد مصر فكان درسا من دروس الدبلوماسية الحكيمة الناضجة، رحبت بالمبادرة ودعمتها ثم كانت دعوتها لكل التنظيمات الفلسطينية للاجتماع العاجل لبحث موقف غزة، وإعلاء شأن المصلحة العليا للشعب الفلسطينى فوق المصالح الشخصية الضيقة، والقضاء على حالة الانقسام والتشرذم، فى ظل عدو مفترس يوظف ويستثمر فى حالة الانقسام بين المكون الفلسطينى بكل قدرة وبراعة محققا مكاسب طوال عقود، كان لا يمكن أن يحققها لولا حالة الانقسام الكارثية.
مصر اليوم، تضع أمام الفصائل الفلسطينية الفرصة الأخيرة لعودة اللُحمة، وضرورة اغتنامها، فمنذ إعلان تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، ظل السؤال عن الفرص الضائعة لتأسيس دولة فلسطينية يعصف بالعقول، وعدم استغلال فرصة القرار الأممى عام 1947، الخاص بتقسيم فلسطين إلى دولتين، يهودية وعربية، وكانت الفرصة الذهبية للحفاظ على الحقوق الفلسطينية، وفق اعتراف دولى صريح بوجود كيان فلسطينى، لكن الرفض من أجل الرفض، والشعارات الحنجورية تسببت فى ضياع كل الفرص.
أمس الأول وقبل اليوم، لا بد من إعلاء فقه الضرورة بإنهاء الانقسام وتوحيد الصف، وعدم تكرار فشل المحاولات والتى بدأت منذ عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر عام 1970، والذى بذل جهودا مضنية لتوحيد الفصائل تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، بهدف أن تصير المنظمة الممثل الشرعى الوحيد للشعب الفلسطينى، لكن سرعان ما عادت الانقسامات تنهش الصف الفلسطينى، وظهرت فصائل متعددة وصلت إلى 18 فصيلا تتنازع فيما بينها وترى فى نفسها أنها المالكة الحصرية للتحدث باسم القضية الفلسطينية.
الفرصة الأكبر والأهم التى أضاعتها الفصائل الفلسطينية، عندما رفضت الدور الذى لعبه الرئيس الراحل أنور السادات فى اتفاقية السلام عام 1979، والتى تضمنت انتزاع اعتراف بحكم ذاتى للفلسطينيين فى الضفة وغزة، إلا أن الفصائل تعنتت ورفضت وأهدرت فرصة ذهبية أخرى.
ومن مؤتمر مدريد 1991 واتفاق أوسلو 1993، انتزعت مصر وبمساعدة دولية اعترافا بفلسطين، على أن تعترف فى المقابل، منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل مع الاتفاق على انسحاب تدريجى وإنشاء سلطة حكم ذاتى، وضاعت الفرصة أيضا نتيجة الانقسام الفلسطينى، ورفض حماس وفصائل أخرى.
اليوم، هناك فرصة تاريخية سانحة يمكن لها أن تحقق مكاسب مهمة، تبدأ بتوحيد الصف، وتوظيف الاعتراف بإقامة دولة فلسطينية، واستثمار مبادرة ترامب لتكون منصة انطلاقة حقيقية نحو مستقبل مغاير، تتحقق فيه أبسط آمال الشعب الفلسطينى فى العيش على ما تبقى من دولته بأمن وسلام، إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا.
وجود الفصائل الفلسطينية فى شرم الشيخ، يؤكد أن مصر الوحيدة القادرة والجديرة بكتابة مشاهد النهاية للأحداث العاصفة.