محمد فرج أبو العلا

المتحف المصرى الكبير.. جسر يربط الماضى بالحاضر والمستقبل

الجمعة، 31 أكتوبر 2025 10:00 م


في لحظة فارقة من عمر الوطن، وفي مشهد سيظل محفورًا في الذاكرة الإنسانية، تتجه أنظار العالم إلى مصر، حيث يقف شامخًا عند أعتاب الأهرامات صرحٌ جديد يليق بعظمة التاريخ المصري وخلوده، إنه المتحف المصري الكبير، الحلم الذي تحول إلى واقع، والرمز الذي يجسد عبقرية المصريين في صون ماضيهم وصياغة مستقبلهم بثقة واقتدار.

لقد طال انتظار هذا اليوم، الذي لا يُعد مجرد افتتاح لمتحف، بل ولادة لمرحلة جديدة في علاقة مصر بتاريخها، ورسالة فخر تبعث بها إلى العالم أجمع بأن الحضارة التي صنعت التاريخ لا تزال قادرة على إبهار الحاضر وصناعة المستقبل.

منذ أن وُلدت فكرة إنشاء المتحف المصري الكبير قبل أكثر من عقدين، كانت الرؤية واضحة: أن تبني مصر متحفًا هو الأكبر من نوعه في العالم، لا ليكون مجرد مخزن للآثار، بل نافذة حضارية كبرى تطل منها الإنسانية كلها على أعظم حضارة عرفها التاريخ.

واليوم، بعد سنوات من العمل المتواصل، يكتمل الحلم على أرض الجيزة، على مساحة تتجاوز نصف مليون متر مربع، في موقع هو بحد ذاته لوحة فنية تمتزج فيها عبقرية المكان بعظمة الزمان، حيث تمتد أنظار الزائر من جدران المتحف الحديثة إلى الأهرامات الخالدة في مشهد بصري لا يتكرر في أي مكان آخر من العالم.

وما إن تطأ قدم الزائر بهو المتحف حتى يشعر بأنه دخل إلى زمن آخر، زمن يلتقي فيه الماضي بالحاضر في انسجام بديع، يقف في استقباله تمثال الملك رمسيس الثاني، شامخًا كما لو أنه عاد من عمق التاريخ ليحيي أبناءه ويستقبل ضيوف بلاده، ومن حوله مئات القطع الأثرية التي تحكي قصة الإنسان المصري منذ فجر الحضارة.. إن كل زاوية في هذا الصرح تشهد بأن المصريين لم يكونوا يومًا مجرد بناة للأهرامات والمعابد، بل بناة للإنسانية نفسها.

ولعل أعظم ما يميز المتحف المصري الكبير هو عرضه لمجموعة الملك توت عنخ آمون الكاملة، تلك المجموعة التي أسرَت خيال العالم منذ لحظة اكتشافها قبل أكثر من قرن، والتي تُعرض اليوم في مكان واحد للمرة الأولى.

أكثر من خمسة آلاف قطعة أثرية تتحدث بلغة الفن والدهشة، تُروى حكاياتها بأسلوب علمي حديث يجمع بين الأصالة والتكنولوجيا، في عرض تفاعلي يجعل التاريخ ينبض بالحياة أمام أعين الزائرين.

لم يعد توت عنخ آمون مجرد اسم في كتب التاريخ، بل أصبح جزءًا من تجربة إنسانية يعيشها كل من يزور المتحف، يسمع فيها صوت الزمن ويشعر بنبض مصر القديمة في كل تفصيلة.

لكن المتحف المصري الكبير ليس فقط مكانا يجمع الآثار المصرية، بل هو مركز عالمي للمعرفة والثقافة، يجمع بين البحث والتعليم والإبداع، ففي داخله معامل متطورة للترميم، ومراكز علمية لتدريب الأثريين، وقاعات للمؤتمرات، ومكتبة ضخمة تضم كنوز المعرفة الأثرية من مختلف أنحاء العالم. إنه ليس مجرد متحف، بل جامعة حضارية مفتوحة، تواصل من خلالها مصر رسالتها التاريخية كمنارة للعلم والثقافة والفكر الإنسانى.

وما بين جدران المتحف، يشعر المرء أن مصر لا تقدم للعالم مجرد تاريخها، بل تقدم نفسها من جديد في صورة أبهى وأعظم. فالمتحف ليس مشروعًا أثريًا فحسب، بل هو إعلان عن عودة مصر إلى موقعها الطبيعي في قلب الحضارة الإنسانية، إنها لحظة تؤكد أن مصر الحديثة تمضي بخطى واثقة نحو المستقبل، مستندة إلى ماضيها المجيد، ومؤمنة بأن الحضارة لا تُقاس بما كان، بل بما يستمر في الحياة ويؤثر في العالم.

وقد جاء تصميم المتحف ليجسد هذه الفلسفة في أبهى صورها، فالمعماريين الذين صاغوا ملامحه أرادوا أن يكون المبنى نفسه تحفة فنية تنطق بالمعنى قبل أن تشرح، استخدموا الحجر الرملي المصري الذي استُخدم في بناء المعابد القديمة، ليمنح الواجهة روح الأصالة، بينما جاءت الأسطح الزجاجية لتفتح المتحف على الضوء والسماء، في تفاعلٍ بين الماضي والحداثة يختصر روح مصر في مشهد بصري واحد.

إن الضوء الذي يتسلل عبر جدران المتحف يشبه الضوء الذي عرفته المعابد القديمة حين كان الفراعنة يجعلون الشمس جزءًا من عمارتهم المقدسة، وكأن التاريخ يعيد نفسه هنا في ثوب عصري جديد.

أما على الصعيد الوطني، فإن المتحف المصري الكبير هو قصة نجاح مصرية بامتياز. شارك في إنشائه آلاف الأيدي والعقول من أبناء هذا الوطن، من مهندسين وعمال وخبراء ترميم وعلماء آثار وفنانين، عملوا جميعًا بروح الفريق الواحد ليصنعوا شيئًا يليق باسم مصر.. إنه ثمرة جهدٍ وطني مشترك، يجسد وحدة المصريين حين يتعلق الأمر بمجد بلادهم وكرامة تاريخهم، ومن هنا، فهو ليس مجرد متحف للدولة، بل هو ملك لكل مصري يشعر بالفخر حين يرى هذا الصرح واقفًا على أرض وطنه، يحكي للعالم قصة بلاده كما يجب أن تُروى.

وللمتحف أيضًا بُعد اقتصادي وسياحي لا يقل أهمية، إذ من المنتظر أن يكون قبلة لملايين الزوار سنويًا، ما سيعيد رسم خريطة السياحة الثقافية في مصر، ويفتح آفاقًا جديدة للاستثمار في مجالات الضيافة والخدمات والتسويق الثقافي، غير أن القيمة الأهم تبقى في البعد الرمزي والروحي، في الرسالة التي يوجهها المتحف إلى العالم أجمع، أن هذه الأرض كانت ولا تزال مهد الحضارة ومنبع الجمال ومصدر الإلهام، ليصبح بمثابة جسر يربط الماضى بالحاضر والمستقبل.

لقد اعتادت مصر أن تبهر العالم في كل عصر، وها هي اليوم تفعلها من جديد، لا بالحجارة التي تراكمت عبر القرون، بل بالعقل المصري الذي استطاع أن يجمع بين التراث والحداثة، وأن يقدم للعالم نموذجًا فريدًا في كيفية الحفاظ على الماضي بروح المستقبل.

المتحف المصري الكبير ليس نهاية طريق، بل بداية عهد جديد من الوعي الثقافي والاعتزاز بالهوية، هو مرآة تعكس وجه مصر الحقيقي، ذلك الوجه الذي يجمع بين العراقة والعصرية، بين الإبداع والخلود، بين الجذور الراسخة والأجنحة التي تحلّق نحو الغد.

وحين يفتح المتحف أبوابه أمام العالم، ستكون مصر قد كتبت فصلًا جديدًا في كتابها الذي لا ينتهي، ستقف الأهرامات خلفه كأنها حارسة لسر الخلود، وسيمتد أمامه الأفق نحو المستقبل، في مشهد يجسد جوهر الحكاية المصرية منذ الأزل: أمة تعرف كيف تحفظ ماضيها، وتبني حاضرها، وتؤمن أن التاريخ لا يعيش في المتاحف فقط، بل في القلوب التي تعرف قيمته.

إن المتحف المصري الكبير ليس مجرد مبنى عظيم، بل هو فكرة مصرية خالدة تقول للعالم إن الحضارة ليست ذكرى، بل مسؤولية، فهو بمثابة وعدٌ جديد بأن تظل مصر حارسة التاريخ وراعية الجمال، وأن تبقى، كما كانت دائمًا، قلب العالم النابض بالحياة، وصوت الحضارة الذي لا يخبو مهما تعاقبت العصور، فحين يقف الزائر أمام هذا الصرح المهيب، سيُدرك أن مصر لا تزال تُعلم العالم كيف يُصنع الخلود، وأنها بحق أم الحضارة، وموطن النور الأول، ومفتاح الوعي الإنساني منذ فجر التاريخ.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب