النهج التوافقي الذي تبنته الدولة المصرية، خلال إدارة أزمة غزة، يبدو متواصلا في المراحل اللاحقة، باعتباره جزءًا لا يتجزأ من أدوات الدبلوماسية المصرية، خلال السنوات الأخيرة، واستطاعت من خلاله خلق شراكات واسعة النطاق، سواء داخل الإقليم أو خارجه، مما منحها قدرا كبيرا من الثقة الدولية، حيث تعد الرؤية التي تتبناها الدولة في مسألة إعادة إعمار القطاع أحد أبرز القضايا التي نجحت القاهرة في خلق توافقات كبيرة حولها، عبر حشد المجتمع الدولي خلف الثوابت المرتبطة بالقضية الفلسطينية، وبالتالي دحض الدعوات الإسرائيلية القائمة على تهجير السكان، في سبيل تصفيتها، لتكون المحصلة النهائية هي النجاح المنقطع النظير لقمة شرم الشيخ للسلام، والتي تعد شاهدا على ما حظت به تلك الرؤية من شرعية، من شأنها توسيع دائرة الاعترافات بالدولة الفلسطينية، أو بالأحرى الانتقال بها من النطاق الإجرائي في صورته الدبلوماسية، عبر تدشين السفارات، وإطلاق البيانات، نحو الاعتراف الجغرافي، بحدود الدولة المنشودة.
ولكن بعيدا عن جهود الدولة المصرية في حشد التوافقات، سواء خلال أزمة غزة أو بعدها في إطار خطة إعادة الإعمار، نجد أن ثمة أبعاد أخرى تعمل عليها الدولة، لا تقل أهمية عن المسارين سالفي الذكر، أهمها الداخل الفلسطيني نفسه، في ضوء حالة من الانقسام مهيمنة على المشهد، منذ ما يقرب من عقدين من الزمان، ساهمت بصورة كبيرة في فقدان القضية لما تحظى به من زخم دولي، بل وإقليمي، خاصة مع تواتر الأزمات، في غضون سنوات، بين صراعات أهلية سادت المنطقة خلال ما يسمى بـ"الربيع العربي" ثم انتقال دائرة الصراع نحو نطاق دولي أوسع، مع بزوغ الصراع في أوكرانيا.
والواقع أن الجهود المصرية في لم الشمل الفلسطيني، تعكس إدراكا عميقا بالخسائر الكبيرة التي لاحقت القضية جراء الانقسام، والتي حقق بها الاحتلال مكاسب عديدة، ربما أهمها خسارة أي تعاطف عالمي، وهو الأمر الذي عاد نسبيا مع انكشاف الانتهاكات التي يمارسها الاحتلال بحق الفلسطينيين خلال السنتين الماضيتين، وبالتالي فالفرصة سانحة، للعودة إلى مركز الأحداث العالمية، شريطة استغلالها، والخطوة الأولى لتحقيق ذلك تتجلى في المصالحة.
وبالنظر إلى مسألة المصالحة، وإنهاء الانقسام، في الداخل الفلسطيني، نجد أنها الامتداد الطبيعي لما حدث في الأسابيع الماضية، من اعترافات دبلوماسية بالدولة المنشودة، وما تلاها من اعتراف جغرافي ضمني، في إطار إعادة الإعمار، خاصة وأن الأخير يرتبط بالأرض، التي تمثل ركنا أساسيا من أركان الدولة، والذي يشترط أن يكون وحدة جغرافية متصلة، تحت إدارة سلطة موحدة.
ولعل قضية الأرض لم تكن بعيدة عن العقلية الإسرائيلية الحاكمة خلال مراحل عديدة، أحدثها خلال العدوان، عندما خرجت أصوات اليمين المتطرف بالدولة العبرية بدعوات صريحة لفصل القطاع جغرافيا عن الضفة الغربية، وهو ما يجرد الدولة الفلسطينية من شرط الوحدة المتصلة المشار إليه، وهو ما تزامن مع دعوات التهجير والتي تعني حرمانها من مواطنيها، بينما يبقى تجريد فلسطين من السلطة الحاكمة متحققا بيد الفلسطينيين أنفسهم جراء انقسامهم، بين سلطتين أحدهما تحكم في الضفة والأخرى تسيطر على القطاع.
الموقف المصري من مسألة الانقسام، كان واضحا منذ الوهلة الأولى، حيث ارتكزت مصر في سياستها طيلة السنوات الماضية على القيام بدور بارز في إنهاء تلك الحالة، إدراكا منها بخطورة استمرارها على مستقبل القضية ككل، وهو ما بدا في موقفها تجاه مختلف أطراف المعادلة السياسية في فلسطين، والذي اتسم بقدر كبير من النزاهة، فعلى الرغم إيمانها بشرعية السلطة الحاكمة في رام الله، لكنها لم تبخس الفصائل الأخرى حقها في الوجود، باعتبارها مكون رئيسي من الحياة السياسية في فلسطين، وهو ما بدا في الاجتماعات المتواترة التي عقدت على أراضيها وتحت رعايتها، سواء بحضور مسؤولين مصريين أو في غيابهم، بهدف الوصول إلى صيغ توافقية من شأنها إنهاء الانقسام.
عبقرية الدور المصري فيما يتعلق بالملف الفلسطيني الداخلي، تتجلى في عدم التدخل المباشر، بل تساهم في مساعدة الفرقاء على الجلوس سويا، وهو ما بدا في اجتماع عقد في العلمين الجديدة، بحضور الرئيس محمود عباس، قبل العدوان على غزة بحوالي شهرين فقط، دون وجود مسؤول مصري، وبالتالي تسعى فقط إلى تهيئة البيئة للحوار بين الفلسطينيين، والعمل على تعزيزه لضمان الوصول إلى نتائج توافقية من شأنها تعزيز صلابة الموقف الجمعي في الداخل، وما يترتب على ذلك من إيجابيات على مستقبل القضية، وهو ما ترتكز عليه كافة جهود الوساطة التي تمارسها الدولة المصرية في هذا الإطار.
إلا أن الأمور الآن ليست كما كانت عليه أثناء اجتماع العلمين، فالمصالحة لم تعد خيارا، والخلافات لم تعد متاحة، إذا ما أراد الأطراف الانتصار لقضيتهم، وبالتالي فإن أي مصالح ضيقة يجب تنحيتها فورا، وإلا ستخسر فلسطين كل الزخم الذي حظت به على مدار الأشهر الماضية، فتحقيق حلم الدولة لا يحتاج فقط اعترافات دولية، وإنما تتطلب استقرار سياسي في الداخل، ومواقف موحدة، بينما في الوقت نفسه تحتاج إجماع إقليمي داعم، وهو البعد الذي خسرته القضية خلال مراحل الانقسام، مما يمثل، رغم سلبيته، انعكاسا لمركزية القضية التي قسمت الإقليم بين محورين، عندما انقسم أطرافها الأصليين.
وهنا يمكننا القول بأن الملف الفلسطيني الداخلي لم يعد تفصيلًا في المشهد، بل هو المحور الذي ستُبنى عليه مرحلة ما بعد غزة، بعد سلسلة من المنجزات، التي تحققت بفضل الدور المصري الناجع في التمسك بثوابت القضية، وهو ما يتطلب البناء عليه، على المستوى الدولي، وهو ما تحقق في إطار ما حظت به عملية إعادة الإعمار من شرعية تجلت في رحاب شرم الشيخ، في حين يبقى الداخل الفلسطيني التحدي، أو بالأحرى الاختبار الحقيقي أمام الفلسطينيين أنفسهم، فإما أن تكون لديهم الإرادة السياسية لتحقيق حلم الدولة، أو الانتصار لمصالح شخصية لن تتحقق بأي حال إذا ما فشلت الجهود الرامية لتحقيق العدالة الدولية.