الهجوم المفاجئ والمباغت على الاحتفالات التى تقام فى مناسبات مولد أولياء الله والقديسين فى مصر لن تمنع اليوم -الخميس- من احتفال حوالى 2 مليون زائر ومحب ومريد من مريدى القطب الصوفى الكبير إبراهيم الدسوقى بيوم مولده فى الليلة الختامية مساء اليوم بمدينة دسوق بمحافظة كفر الشيخ.
لم يمنع أيضا ملايين المحبين والعاشقين والزائرين من الاحتفال بمولد أحمد البدوى فى طنطا الأسبوع قبل الماضى فى عادة مصرية خالصة تمتد لعشرات السنين وبحضور شعبى ورسمى من أبناء الطرق الصوفية ومن الزائرين من داخل مصر وخارجها.
ربما أن بعض الممارسات الغريبة والمتجاوزة أثناء الاحتفالات هى ما أثارت انتقاد وغضب وهجوم بعض الفضائيات وضيوفها على احتفالات الموالد عموما.. وهو انتقاد عام يعبر عن كسل عقلى لمناقشة تلك الظاهرة المصرية بموضوعية وعقلانية بعيدا عن الهوى الثقافى والسياسي.
بصفتى أحد أبناء مدينة دسوق وشاهدت منذ الطفولة مظاهر الاحتفال بمولد سيدى إبراهيم الدسوقي أو أبا العينين كما يحب أهل المدينة والمرودون أن ينادوا به الدسوقى، سواء عن دراية ومعرفة بأصل المسمى أو عن عدم وعى حقيقى، تأثر بالشائعات والأساطير التى يروجها أبناء الطرق الصوفية حول ولى الله.
شاهدت حلقات الذكر والحضرة والباعة من كل أنحاء المدينة ومن خارجها لكافة أصناف البضائع من مأكولات وألعاب وملابس وغيرها. تجولت على تياترو الفن الشعبى للمطربة خضرة محمد خضر وجمالات شيحة وعايدة صابر، وانبهرت بلاعب الأكروبات الإيطالى المصرى بيرللو وامتطائه دراجته البخارية العملاقة للدوران داخل برميله الضخم وسط دهشة وتشجيع الزبائن. وانبهرت بسيرك الحلو مع فاتن الحلو ومدحت كوتة، وبالأراجوز والقرة أم 6 أرجل والفتاة المعجزة التى تتحدث من داخل صندوق وبرأس فقط دون باقى الجسد وبالحاج جمعة الساحر الإيطالي..!! واستمعت للشيخ مصطفى إسماعيل داخل السرادق الضخم فى الميدان الدسوقى فى الليلة الختامية، وتسلطنت مع مووايل وغناء محمد طه وتواشيح الشيخ محمد عبد الهادي. هى ذات التفاصيل التى رسم ملامحها بكلماته صلاح جاهين ولحنها الموسيقار سيد مكاوى فى أوبريت العرائس المتحركة الشهير الليلة الكبيرة، الذى تم إنتاجه عام 1961 وشارك فيه العديد من المطربين والمطربات المعروفين كسيد مكاوي، شفيق جلال، عبده السروجى، محمد رشدى، حورية حسن، إسماعيل شبانة، شافية أحمد، هدى سلطان، وصلاح جاهين نفسه.
عموما الانتقاد وممارسة ثقافة التعالى على احتفالات يحرص عليها ملايين المصريين وتحقق لهم الكثير من الفوائد الاقتصادية والفنية والترفيهية والدينية والنفسية أيضا، لأنه فى الأخير سيوظفه تيار الرفض الوهابى السلفى للاحتفال بأولياء الله والقديسين فى مصر بشعارات دينية رجعية.
لكن يصبح مقبولا أن نقترح عقد مؤتمرات دينية وفنية على هامش هذه الاحتفالات تناقش شخص وأفكار ومؤلفات المحتفى به سواء الدسوقى أو البدوى أو الحسين أو دميانة وتبحث فى إمكانية الحفاظ على تراث الفن الشعبى فى مصر بكافة صوره ومظاهره وتوثيقه مرئيا ومكتوبا.
فالشيخ إبراهيم الدسوقى على سبيل المثال لم يكن مجرد ولى من أولياء الله –أو المجاذيب- بل كان شيخا للإسلام فى عصر الظاهر بيبرس وحارب معه وله العديد من المؤلفات أهمها «كتاب الجوهرة»، ويعتبر المرجع الرئيسى لطريقته، وله نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية، ونسخة مخطوطة بمكتبة الأزهر الشريف، ونسخة مخطوطة بجامعة ليدن بهولندا، وهناك نسخة منشورة متداولة للكتاب يشكك فيها بعض المتصوفة لاشتمالها على كثير من العبارات التى تتناقض مع أفكار الشيخ الدسوقي، وقد طبع هذا الكتاب أكثر من مرة وتمت مراجعتها، فكشف به اختلافات جوهرية. والكتاب المتداول لا يتعدى 300 صفحة. وأشهر نسخة طبعت عام 1998 بالقاهرة، وسميت بالجوهرة المضيئة، وذُكر فيها أنه تم نقلها عن مخطوطة الكتاب بالمتحف البريطانى بلندن. وهناك نسخة أخرى طبعت عام 2007 باسم الجوهرة المضيئة فى سلوك الطالب ونصح البرية.
للدسوقى أيضا كتاب «الرسالة» وفيه قواعد لمن يريد أن يسلك طريق الفقر والزهد، ولم يطبع. وقد أشار إليه الكركى فى لسان التعريف فى عدة مواضع.
وله كتاب آخر اسمه برهان الحقائق يجمع الكتاب بين ذكر حقائق طريقته وحقائق المعارف، ويشير إليه الكركى فى كتابه «لسان التعريف». وأشار إليه البقاعى أيضًا فى طبقاته عند ترجمته للقطب الدسوقى.
وفى كتابها الشيق والممتع موالد الأولياء والقديسين - دراسة فلكلورية فى الشخصية المصرية الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ترى الدكتورة عائشة شكر أنه وبقدر ما تبدو احتفالية المولد ظاهرة فلكلورية شاملة تزخر بكثير من عناصر التراث الشعبى من معتقدات شعبية وعادات وتقاليد وفنون تشكيلية وثقافة مادية، فإنها تبدو مناسبة إنسانية كاشفة يمكن على ضوئها استخلاص بعض ملامح الشخصية المصرية.
فقد تضافرت مجموعة من عوامل التغير الاجتماعى والثقافى والاقتصادى للمجتمع المصرى انعكست نتائجها على العديد من المجالات كما شملت بتأثيرها مظاهر الاحتفال بالموالد.. فقد شهد المجتمع المصرى سلسلة من التغيرات انعكست على المفاهيم السائدة حول الموالد ووظائفها، فقد تنامت الاتجاهات الدينية الأصولية التى ترى فى الأنشطة الفنية والترويجية بالموالد بالوقار الواجب الالتزام به ووصل الامر الى دعوة أصحاب هذا الاتجاه إلى حد المطالبة بإلغاء الموالد، علاوة على تشدد وشراسة أنصار المذهب الوهابى الذين يحرمون الاحتفال بموالد أولياء الله بكل صورها انطلاقا من تحريمهم زيارة القبور أو الطواف حولها وتحريم الصلاة فى مسجد يضم ضريحا.
وقد وجدت بعض أفكار هذا المذهب صدى لها عند بعض المصريين حتى بين الذين لا يعتنقون المبدأ الوهابى أو يعتقدون فى جميع أفكاره ومبادئه.
وعلى الجانب الآخر فإن أنصار التيار السلفى لا يكتفون فقط بالدعوة إلى مقاطعة الموالد وإلغائها بل العمل بالقوة لمنعها وهدم الأضرحة. وتقول الدكتورة عائشة شكر: التحول الاقتصادى أثر بشكل مباشر على مظاهر الاحتفال وساهمت فى تراجع دوره الاقتصادى كسوق لترويج المنتجات المحلية، فمع اتباع سياسة الانفتاح وتراجع الإنتاج المحلى اعتمادا على سياسات الاستيراد، دخلت البضائع والسلع الأجنبية بطرق مشروعة إلى البلاد وغمرت الأسواق ولم يعد المولد فرصة استثنائية كما كان من قبل لعرض وبيع البضائع الأجنبية المهربة . هذا التطور الاقتصادى أدى إلى ظهور عدد من الباعة الاجانب الاسيويين يقومون بعرض بضائعهم فى سرادقات مؤقتة بالقرب من ساحات الموالد على حساب المنتج المحلى الذى اختفى بفعل فاعل.
ومع ذلك، كما تسرد الدكتور عائشة فى كتابها، رغم كل التغييرات التى انعكست على الموالد وأنشطتها ..فمازالت ظاهرة الموالد تحتفظ بقدرتها على الاستمرار برغم تراجع أهميتها ودورها على الصعيد الفنى والاقتصادى وبرغم تزايد اتجاهات المد الدينى المعارضة لها. ذلك الاستمرار يعنى أن ثمة وظائف أخرى ما زالت تقوم بها هذه الاحتفالات تلبى بها احتياجات اجتماعية قائمة، فالآلاف من الأشخاص من فئات وشرائح اجتماعية وعمرية متنوعة ينضوون تحت لواء الطرق الصوفية ظنا أنها تستوعب أحلامهم وطاقاتهم فى عالم أكثر صلاحا ويلبى لديهم الحاجة الوجدانية إلى الشعور بالتحقق الذاتى والانتماء الى الجماعة. كما يتضح أن متغيرا جديدا أصاب الموالد والاحتفالات المصاحبة لها وهو التوظيف السياسى للمولد سواء بالترويج للمرشحين أو بالتبرع من المرشح لبناء أو ترميم المسجد والمآذن.
وترصد بعض الأبحاث أن تزايد الاهتمام بالموالد يرتبط بالظروف السياسية والعسكرية والسياسية للبلاد ومثال ذلك ما حدث من اهتمام مكثف بالموالد وزيادة أعدادها بعد هزيمة 67 وخلال الثمانينات. فعقب الهزيمة كانت الموالد مناسبة لكسر أجواء الحزن والإحباط التى خيمت على أفراد المجتمع كله. وفى الثمانينيات وفى ظل صراع الدولة وصدامها مع تيارات الإسلام السياسى العنيفة تضاعف الاهتمام الرسمى والشعبى بالموالد وتزايد عددها بدعم رسمي.
وترصد عائشة شكر فى كتابها أن موالد أولياء الله أو القديسين فى مصر تتشابه الى حد التطابق فى طقوسها ونصوصها الشعرية وكل ما يتصل بهذه الظاهرة المصرية الأصيلة من فنون تعكس العادات والتقاليد والمعتقدات المصرية عامة. ولا يعرف أحد أن كان هو مولد السيد البدوى أو إبراهيم الدسوقى او عبد الرحيم القنائى أو الحسين والسيدة زينب أم هو مولد مار جرجس أو القديسة دميانة فى بلقاس أو غيرهما من القديسين.
فظاهرة المدائح الغنائية التى يرددها المحتفلون الموالدية لولى من أولياء الله المسلمين أو لأحد القديسين المسيحيين وكيف أن المضمون المدائحى الغنائى واحد عند جمهور المحتفلين، نفس اللغة ونفس الكلمات تقريبا والألحان الموسيقية والوحيد المختلف هو اسم الولى أو اسم القديس. فالجوهر واحد.. هو الجوهر الإنسانى المصرى، الحضارى.
الاحتفالات بالموالد فى مصر بدأت فى العصر الفاطمى وقامت بها الطرق الصوفية التى لعبت دورا كبيرا جدا فى تعريب الموسيقى وتطوير مقاماتها، حيث استخدموا الموسيقى فى الذكر لتنقية المشاعر وللوصول بالذاكرين الى مرتبة الوجد الصوفى . واستفادت ألحان المدائح وربما الموسيقى العربية كلها من الألحان والترانيم الكنسية التى احتوت على التراث الموسيقى الفرعونى .كما أن الكلمات التى تشكلت منها نصوص المدائح تعود فى أمدها البعيد الى فن العدودة أو ما نسميه بالبكائيات وهو فن مصرى أصيل.
دراسات كثيرة تناولت ظاهرة الموالد فى مصر منها دراسة الدكتور سيد عويس أبو الاجتماع المصرى ومؤسس مركز البحوث الاجتماعية والجنائية عن الدلالات الاجتماعية للعلاقة بين الولى ومريديه فى دراسته عن رسائل الى الامام الشافعى التى تحمل أمانى ومظالم المريدين. وفاروق مصطفى فى دراستيه عن ثقافة الموالد وصناعة الولى . وحسين الخولى وسعاد عثمان.
الدكتورة عائشة شكر تشير إلى أن المشاركين فى الموالد السنوية عبارة عن خليط من الشرائح والفئات الاجتماعية من مختلف المستويات والمراحل السنية من الجنسين من الأقباط والمسلمين معا.
عدد الموالد فى محافظة الدقهلية فقط 160 مولد موزعة على مراكز المحافظة.
هل لظاهرة الموالد مستقبل..؟
تجيب الدكتورة عائشة شكر بأن تلك الظاهرة استمدت طاقة الاستمرار الطويل وقدرتها على التعبير عن بعض ملامح الشخصية المصرية من رسوخ المعتقد الشعبى وانتشاره الزمانى والمكانى فى المجتمع المصرى برغم التباين بين التصور الشعبى للاولياء والتصور الدينى الاسلامى الرسمى لهم ولأسلوب التعامل معهم أحياء أو أمواتا.
الأمر الثانى أن تلك الظاهرة استمدت استمرارها من انتشارها الواسع بين مختلف فئات وطبقات المجتمع وهم يتمسكون بها بوصفها واحدة من المناسبات القليلة التى تتيح لهم الشعور الجماعى بالتوحد مع أبناء الموقع الواحد أو الطائفة الدينية الواحدة، كما يبعث الاحتفال الكرنفالى حالة عامة من البهجة والسرور بكل ما يزخر به من عناصر الثقافة المادية والموسيقى والغناء والألعاب الشعبية، وهى بذلك تخفف ضغوط الحياة اليومية عنهم وتمنحهم فرص التعبير عن ذواتهم واظهار ما يتميزون به من صفات مثل التسامح الاجتماعى والدينى وكرم الضيافة وحرصهم على الروابط الاجتماعية والعائلية.
الأمر المهم أن الموالد ما زالت تمثل موردا ماليا للجماعات الصوفية كما تستفيد منها وزارة الأوقاف والاجهزة المحلية من حصصها المقررة من صناديق النذور. كما أن التطور التكنولوجى ساهم فى إنتاج وسائل وأساليب جديدة للترفيه أكثر جاذبية. كما استمرت الوظيفة السياسية للموالد واضحة فى كل مراحلها، خاصة سعى بعض العناصر السياسية من خلالها لكسب القبول الشعبى لأشخاصها أو لأفكارها واتجاهاتها.
الغريب أن بعض المستشرقين كتبوا دفاعا عن الموالد المصرية ضد من وصفوهم بالمتزمتين وأنصار التحديث الذين يترفعون عن كل مظاهر التراث الشعبى، مثل الباحث البريطانى جوزيف مكفرسون فى كتابه الموالد فى مصر.