منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم، بدت ملامح مدرسة سياسية مختلفة في الإدارة المصرية، تجمع بين العمق التاريخي والبصيرة الواقعية. فهو، كما قال عن نفسه، أمضى نصف قرن يدرس معنى الدولة، فخرج من رحم التجربة المصرية ذاتها، متجاوزًا قوالب أسلافه من عبد الناصر إلى مبارك، ليؤسس نهجًا متفرّدًا في إدارة الدولة وموقعها من العالم.
رجل دولة يتقن قراءة التاريخ واستيعاب دروسه، لا يستورد نماذج من الخارج ولا يخضع لاصطفافات الأقطاب، بل يوازن بعناية بين الشرق والغرب، منطلقًا من قاعدة واحدة: مصلحة مصر أولاً.
هذا النهج المتزن مكّن القاهرة من إدارة ملفات شديدة التعقيد، من حرب غزة إلى أزمة سد النهضة، مرورًا بتشابكات القرن الإفريقي وتحولات الشرق الأوسط، دون أن تفقد بوصلتها أو هويتها السياسية. فبينما سعت قوى كبرى لفرض خرائط جديدة بعد حرب غزة 2023، حاولت إسرائيل استثمار اللحظة بضم الضفة الغربية، إلا أن الرفض الدولي، مدعومًا بالموقف المصري الثابت، أفشل تلك المحاولات. حتى واشنطن، عبر تصريحات نائب الرئيس الأمريكي "جيه دي فانس"، أبدت امتعاضها من التصرف الإسرائيلي المفاجئ، مؤكدًا أن "الضم" لا يلقى قبولًا داخل الإدارة الأمريكية نفسها.
في المقابل، حملت القاهرة على عاتقها مهمة توحيد الصف الفلسطيني، وهو ملف كان من أشد الملفات تعقيدًا وتشابكًا، لكنها استطاعت عبر جهاز مخابراتها ووساطتها المتواصلة أن تجمع الفصائل المتناحرة على أرضها. وجاءت اجتماعات القاهرة الأخيرة لتؤكد نجاح هذه الجهود، حيث اتفقت الفصائل على تثبيت وقف إطلاق النار، ورفع الحصار عن غزة، وتسليم إدارتها إلى لجنة مستقلة، في خطوة غير مسبوقة أعادت لمصر مكانتها كضامن للسلام ومركز للتوازن في الإقليم.
أما في الجنوب، فقد واجهت مصر التحدي الإثيوبي ببرود أعصاب واحتراف هندسي وسياسي لافت. ورغم أن إثيوبيا خزنت كميات ضخمة من مياه الفيضان، فإن الاستعدادات المصرية المسبقة حالت دون وقوع أي أزمة، بفضل إدارة علمية متقنة لمفيضات بحيرة ناصر وتوشكى، ما منع استخدام المياه كسلاح سياسي ضدها. ومع أن واشنطن لوّحت أكثر من مرة بورقة السد، فإن مصر تعاملت معها بثبات، مؤكدّة أن أمنها المائي "خط أحمر غير قابل للمساومة".
وفي المقابل، استمرّت محاولات إسرائيل التشويش على القاهرة بادعاءات تتعلق بتهريب أسلحة من سيناء، في وقت كانت فيه مصر تستكمل مشاريع بنية تحتية استراتيجية مثل الأنفاق الستة أسفل قناة السويس وخمسة عشر كوبري، لتأمين سرعة الانتقال بين ضفتي القناة. وهي مشروعات غيرت قواعد الانتشار اللوجيستي للقوات المسلحة، وأعادت تعريف القدرات الدفاعية المصرية على الأرض، ولا يزال غرضها الأساسي تأمين مشروعات قومية لتعمير سيناء.
لكن التحدي الأكبر لم يكن أمنيًا فقط، بل اقتصاديًا وماليًا. فبعد رفض مصر القاطع لمشروعات التهجير الجماعي للفلسطينيين، واجهت ضغوطًا اقتصادية متصاعدة، شملت خسائر تجاوزت تسعة مليارات دولار في إيرادات قناة السويس بسبب اضطراب الملاحة بالبحر الأحمر، وتأجيلات متكررة من صندوق النقد الدولي لإفراج القروض. ومع ذلك، رفضت القاهرة كل عروض "المقايضة السياسية"، وأكدت أن سيادتها ليست للبيع.
ورغم هذا الحصار، واصلت مصر فرض حضورها في الملفات الإقليمية. فبينما كانت أوروبا غارقة في أزماتها الداخلية بين موسكو وواشنطن، أعادت القاهرة صياغة معادلتها مع القارة العجوز، لتتحول من "دولة جار" إلى شريك استراتيجي.
قمة بروكسل الأوروبية المصرية الأخيرة كانت إعلانًا صريحًا عن هذا التحول، حيث خصص الاتحاد الأوروبي حزمة تمويلية تتجاوز 7.4 مليار يورو لدعم برنامج الإصلاح المصري، بجانب 14 مليار يورو استثمارات جديدة في الطاقة والتعليم والتنمية المستدامة. هذه الخطوات لم تكن منحًا، بل اعترافًا أوروبيًا بمكانة مصر كمركز إقليمي للطاقة، وبوابة كبرى للأسواق الإفريقية والعربية.
في الوقت ذاته، أعلنت الصين عن دراسة إعفاء الصادرات المصرية من الجمارك ضمن اتفاقيات "الشراكة من أجل التنمية"، وهو ما يعكس ثقة بكين المتزايدة في الاقتصاد المصري، خاصة في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس التي تضم أكثر من 200 شركة صينية باستثمارات تفوق 3 مليارات دولار.
مصر اليوم تتوسط شبكة توازنات معقّدة: أوروبا تحتاجها للطاقة والاستقرار، والصين تراها بوابتها للأسواق الإفريقية، والولايات المتحدة تدرك أن تجاوزها مستحيل. وهنا تتجلى عبقرية الدبلوماسية المصرية في إدارة "اللعبة الكبرى" دون ضجيج، لكنها بخطوات ثابتة ترسم حدود الدور الإقليمي الجديد.
الاقتصاد المصري بدوره يسير في مسار إصلاحي واضح، مدعومًا بتراجع التضخم وتحسن التصنيف الائتماني الدولي، وهو ما جعل من منطقة شرق بورسعيد وجهة مفضلة للاستثمارات الأوروبية. تلك المنطقة لم تعد مجرد ميناء، بل عقدة استراتيجية في شبكة التجارة العالمية الجديدة التي تربط أوروبا بإفريقيا عبر مصر.
ورؤية القاهرة لا تتوقف عند حدود البحر المتوسط؛ فالرئيس السيسي يقود مشروعًا طموحًا لربط مصر كهربائيًا وسككيًا بإفريقيا وأوروبا، بما يجعلها محورًا للطاقة والنقل في القارتين. ومع تصاعد التحولات العالمية نحو الاقتصاد الأخضر والطاقة النظيفة، تبدو مصر مؤهلة لتصبح نقطة الارتكاز الجديدة في خريطة الاقتصاد الدولي.
وهكذا، وسط صراعات الأقطاب وأصوات الحروب الباردة الجديدة، تواصل مصر رسم مسارها المستقل، تصنع توازنها الخاص دون ارتهان، وتفرض احترامها على الجميع. إنها معادلة نادرة تجمع بين الصلابة السياسية والمرونة الدبلوماسية، بين حماية الأمن القومي وبناء التنمية المستدامة، بين الواقعية والمبادئ. وبين كل تلك الخطوط المتشابكة، تظل مصر—بقيادتها، ومؤسساتها، وشعبها—نقطة الارتكاز في معادلة الشرق الأوسط، وقلب التوازن في عالمٍ مضطرب، وشريكًا لا غنى عنه في صناعة المستقبل.