حازم حسين

قطار الشرق ومحطة فلسطين.. عن خطة ترامب وتثبيت ما هو أكبر من وقف الحرب

الأربعاء، 22 أكتوبر 2025 02:00 م


لا يُمكن الجزم بما إذا كان نتنياهو قد سلّم بانتهاء الحرب على غزة، أو أن حماس رأت ما وراء الأكمة واستوعبته وطبّعت أحوالها معه؛ لكن مجموع المواقف المُختلطة والمتناقضة على مدار الأيام الماضية، ربما يحمل إشارة إلى أنه لا عودة مُجدّدًا لِمَا كان قبل اتفاق شرم الشيخ، وأسوأ الاحتمالات ستظل أفضل من الأوضاع التى اختبرها الغزّيون طيلة العامين الماضيين.

أُفسِدت جولات حوار سابقة لأسباب أقل كثيرًا ممّا جرى فى رفح قبل أيام، وهُدنة يناير نفسها، التى كانت بتوقيع ترامب ولو قبل تنصيبه رسميًّا، أنهاها رئيس الحكومة الإسرائيلية بعد مرحلتها الأولى من دون سبب تقريبا. ما يُنبئ عمليا عن سلوك مُغاير يُفرَض عليه من الأعلى، ولا سبيل لديه للمراوغة أو الالتفاف على التفاهمات المُعلَنة.

لم تُبدِ الولايات المتحدة حماسةً للدخول على خطّ الأزمة كما هى الآن. وباستثناء فاتحة الطوفان، عندما تدفق على تل أبيب جو بايدن ووزيرا خارجيته ودفاعه، أنتونى بلينكن ولويد أوستن؛ فإن المنطقة لم تشهد نظيرًا للزخم الأمريكى المشهود فى الفترة الأخيرة؛ أكان بالمواكبة اللحظية وعبر خطوط اتصال ساخنة لا تنقطع، أو بالحضور الفيزيقى على فواصل زمنية مُتقاربة للغاية.

كانت ورشة الاتفاق قد انطلقت فى شرم الشيخ فى السادس من أكتوبر، وبعد يومين فقط حلّ على المدينة أبرز رجلين فى كتيبة ترامب: مبعوثه الأقرب ستيف ويتكوف، وصهره وكبير مستشاريه جاريد كوشنر.

زارا مصر وإسرائيل، وتبعهما الرئيس نفسه جامعًا البلدين فى رحلة واحدة، ثم عادا إلى تل أبيب الاثنين، وتلاهما النائب جى دى فانس الثلاثاء. أى أن أرفع أربعة وجوه فى الإدارة الأمريكية حاليا جابوا المنطقة عِدّة مرات فى أقل من أسبوعين.

اجتمع المبعوثان فى عاصمة الاحتلال مع سيد البيت الأبيض؛ ثم فى الأسبوع التالى مباشرة مع نائبه. ولا شىء يدل على الجدية أكثر من هذا، وأن إرادة واشنطن تنصرف بالكُليّة إلى إغلاق الملف وتبريد أجواء غزة، بغضّ النظر عن تفضيلات الطرفين المُشتبكين على أرض القطاع.

ومن جانبها، لا تتوقف محاولات مصر لتثبيت وقف إطلاق النار، ودفع المسار نحو إنهاء المرحلة الأولى من الاتفاق، والانتقال إلى مرحلتيه التاليتين. وقد توجه اللواء حسن رشاد، رئيس المخابرات العامة، أمس، إلى إسرائيل، للقاء مسؤوليها والمبعوث ويتكوف بحسب المُعلَن، وعلى لائحة الموضوعات المطروحة للنقاش ما يخص الانتقال بالتهدئة إلى بقية استحقاقات الفترة الانتقالية، فى ضوء خطة الرئيس الأمريكى.

تعلو مخاوف المُنشغلين بالقضية؛ انطلاقًا من كَون السطر الأول أسهل ما فى ورقة التسوية، وأن المصاعب الحقيقية تتجسّد بوضوح فى السطور اللاحقة؛ إذ الشيطان من طبعه أن يكمُن فى التفاصيل. لكن الحقيقة أن البداية أصعب من استكمال الطريق؛ ذلك أنها تُؤسِّس للطاولة بديلاً عن البندقية، وتُشرك آخرين فى حلحلة الجمود وتفكيك العُقَد، وفى المسؤوليات المُترتبة على ما بعد إطفاء حماوة القتال.

وحتى لا تغلبنا رفاهية الخطابة والافتراضات الرومانسية؛ فالواقع من دون تجميل أن مُقترح الأمريكيين أقرب إلى الانحياز لإسرائيل. وبقدر ما يتصل الموقف بالعلاقة العضوية بين البلدين؛ فإنه غير بعيد من حصيلة المواجهة المباشرة بين الاحتلال والفصائل، وحقيقة أن معارك النار قد تعجز أحيانا عن تظهير المُنتصر من المهزوم؛ لكنها لا تضع الخصمين دومًا على قدم المساواة؛ طالما كانت الفوارق واضحة فى الميادين.

وكى أكون واضحا؛ فلستُ مع القائلين بأن الصهاينة قد خسروا النزال أو ربحه الحماسيّون. والمسألة مُعقّدة على صعيدى الاستراتيجية والتكتيك، وبحسب الزاوية التى يتطلع منها الناظر لوقائع الطوفان وتداعياته.

ولا معنى لمُجاراة الحركة فى اختزال الوطنى تحت عباءة الفصائلى، واستخلاص الإفادة من كونها خاضت الجولة كميليشيا مسلحة، لا حكومة مسؤولة أو أناطت بنفسها سلطة التحكّم فى القطاع ومَن عليه. ليكون التقدير النهائى محمولاً على أنها ما تزال حيّة ولو ببنية مُهشّمة، فيما يعجز غريمها عن تحقيق أهدافه وإنفاذ إرادته فيها، ولم يصدر عنها ما يوحى بالانكسار أو التسليم.

تعرف الدولة العبرية أنها تخوض صراعا مع شعب كامل؛ لا مع أحد أطيافه حصرا. وقبل أن تُولَد حماس منذ أقل من أربعة عقود، كانت القضية قائمة بالأسئلة الوجودية نفسها، وستظلّ سواء بقيت الحركة أو أُعيد تذويبها فى المجال الفلسطينى العريض.

وعليه؛ فالنصر والهزيمة لا يُقاسان بالراية الخضراء وحدها، ولا بنتائج العدّ والحصر للجنود والعتاد؛ إنما بقدرة الحاضنة الشعبية على التعافى بعد الضربات، وإعادة تخليق مسارات بديلة للمقاومة، والإبداع فى الصمود بوصفه انتصارا للحياة الجماعية على الموت الفردى.

وما من شَكٍّ فى أن القضية تعرضت لامتحانها الأقسى بجريرة الطوفان؛ ليس لأنها اختبرت كُلفة باهظة وتكاد تكون الأعلى فى كل حلقات الإبادة والترويع، إنما لأنها سِيقَت إليها دون ضرورة مُعجّلة، وباستخفاف ومجانيّة كاملتين، وفتّحت لعدوّها سككًا لا تُحصى نحو إرباك الاجتماع ماديا ومعنويًّا، واتخاذ غزة قاعدةً لإعادة تركيب المنطقة كلها على وجهٍ ضارٍّ بتوازناتها، وشديد التهديد للوجود الفلسطينى ومشروعه التحرّرى نفسه فى الأمد البعيد.

أتاح الطوفان لنتنياهو ما كان مُستحيلاً عليه بأية طريقة أخرى. أنقذه من أزمته السياسية فى الداخل، وأتاح له الاستدراك على «فك الارتباط» مع القطاع قبل عقدين، ثم الانطلاق إلى فكّ ارتباطه الطويل مع حماس نفسها، وإنهاء الاعتماد المُتبادَل وصيغة التخادُم المُشوّهة بين اليمين على الجانبين. والأخطر أنه توسّع فى الإقليم، وأعاد صياغة معادلاته الجيوسياسية بصورة أعادت المقاومة المُسلّحة عقودا للوراء، وضغطت بقسوة على عصب الاعتدال.

تطوّع السنوار بإرخاء ستارة كثيفة من الغبار، وتغطية تحرّكات زعيم الليكود لاختتام حقبة تاريخية للصراع الطويل، وافتتاح أخرى مُغايرة تماما. تهشّم الحزب فى لبنان، وانكسر الهلال الشيعى وخرجت دمشق من طوق المُمانَعة، وبدا أن أفق السلام الاقتصادى يتقدّم ويكسب مساحات إضافية على حساب السياسة، من مفاعيله أن تُحيّد فلسطين عن كونها قاسمًا ثابتًا فى ترتيبات الأمن وعلاقات دول الإقليم فيما بينها، ومع الخارج القريب والبعيد على السواء.

وينبع الخوف هنا من أن الفصائل الأصولية فى فلسطين قد ربطت نفسها بكُتلتها الأيديولوجية، وانعزلت بإرادتها عن بقية المحيط الواسع.

ما يعنى أنها بجانب خسائرها الذاتية اليوم، تقتسم مع حلفائها أنصبتهم من الهزيمة والانكسار. ما يجعل مهمة اللحظة ليست إيقاف الحرب وإنقاذ المنكوبين فحسب؛ بل عزلها عن الطرف الخاسر، وإعادة إلحاقها بالحاضنة العضوية التى تقود المنطقة فعليا، وستتسع أدوارها فى المستقبل، بما لا يبقيها بعيدة عن أولويات العواصم الفاعلة، ولا يعفى متخذى القرار فيها من واجب النظر إلى الإرث الباقى من زمن الاستعمار، وربط انشغالاته ومصالحه بأولويات الباحثين عن حقوقهم العادلة.

والمفارقة؛ أن خطة ترامب تحقق تلك الغاية، وأنها بالرغم من كل الملاحظات عليها، توفر أفضل فرصة ممكنة لانتشال الفلسطينيين من دوّامتهم البائسة، بين انقسام واستقطاب واستتباع. ليكون بمقدورهم الخروج سالمين من ساحة الحرب؛ ولو بأنف نازف ونفسية محطّمة، وإعادة بناء الإجماع أو معرفة الطريق إليه على الأقل، ثم الالتحاق بالقطار الذى سيواصل رحلته المرسومة فى كل الأحوال، لن ينتظر أحدا ولن يتوقف لأحد، وما من خيار إلا الركوب أو البقاء فى العراء إلى أجل غير مُسمّى.

تتعامل خطة ترامب مع فلسطين كدولةٍ فعلاً؛ ذلك أن نتنياهو اجتهد قدر طاقته لاختزال الصراع فى حماس، فيما تُنحّيها الرؤية الأمريكية جانبًا، وتُدير مرحلة الانتقال من منظور العُنصرين الدولتيين الماثلين فى غزة: الأرض والبشر؛ لتكون الإدارة المدنية ومجلس السلام بمثابة حكومة مرحلية، لا بديل عن أن تعود لمظلّة منظمة التحرير بعد الإصلاح وإعادة التأهيل.

الخطة أقرب إلى مصيدة للطرفين، وبُنيت على طريقة ترصيص أحجار الدومينو؛ بما ينتهى حتما إلى تداعيها جميعا بمجرد إسقاط القطعة الأولى.

صحيح أن كثيرا من التفاصيل غامضة، ومن دون ضبط واضح أو آجال زمنية محددة؛ لكنها ممسوكة من أطرافها بأصابع ترامب. ويبدو من تحركات فريقه أنهم منشغلون حصرا بما يُريده الرئيس، ولا اعتبار لديهم لمواقف الغريمين فى غزة وتل أبيب، فضلا على الاطمئنان إلى المنطق الذى صاغوا به رؤيتهم وصبّوها فى سلسلة حديدية مترابطة، وعليهم ألا يفوتوا حلقتها الأولى؛ ثم تأتيهم بقية الحلقات بقليل من الشدّة، أو بوهن الآخرين أو خوار قواهم.

والمناكفة الحالية مجرد استعراض شكلانى. يسعى نتنياهو لإظهار سيطرته وفاعلية أدواته الخشنة، وتستميت حماس فى إبداء قدرتها على الإمساك بزمام الأمور. كلاهما يسعى طوال الوقت لأن يكون صاحب الرصاصة الأخيرة قبل إسكات البنادق؛ لأنها تعبر عن التسوية من موقع قوة، وتنطوى على إشارة يصح تأويلها بدلالة النصر.

لهذا تتكرر خروقات الاحتلال، وجرت وقائع الصدام بين الطرفين فى رفح، سواء كان السبب تعقب الحماسيين لمجموعة ياسر أبو شباب، أو أن بعض عناصر القسام المعزولين وراء الخط الأصفر يتصرفون من تلقاء أنفسهم، انطلاقا من كونهم لم يأخذوا علما بالتطورات، أو لأنهم برفضونها من الأساس.

كان معلوما منذ البداية أن مسألة تسليم الجثامين فى غضون ثلاثة أيام شبه مستحيلة. قال وفد حماس المفاوض ذلك، وتداول فيه الوسطاء، وأقرّ به ترامب ومبعوثه. سلّمت الحركة الأحياء، ولا حاجة لها بالرفات الذى يتعلق عليه الانتقال لمزيد من الانسحاب، وتشكيل إدارة مدنية بديلة، وبدء مرحلة التعافى وإعادة الإعمار.

ومع طىّ تلك الصفحة؛ لن يعود لدى الفصائل ما تُناكف فيه أو تقايض عليه، ولا لدى نتنياهو ما يتذرّع به أو يبرر العودة إلى الحرب؛ ذلك أن مسألة السلاح مضمونة التحييد فى كل الحالات، أكان بالنزع أم التجميد أم تعليق المسؤولية الأمنية على القوة الدولية المقرر إدخالها للقطاع بضمانة أمريكية، وغالبا بتكليف رسمى عن الأمم المتحدة.

يُمنَح نتنياهو ما يُشبه النصر؛ لقاء أن يُنتَزع منه القطاع. وتُطبّق قواعد الهزيمة على حماس؛ دون استفزازها بالتعابير الفجّة. أما «اليوم التالى» فعليها أن تقبله اختيارًا؛ لأن البديل الأسوأ أن تجد نفسها فى مواجهة مع أطرافٍ أُخرى بعدما دُوِّلَت المسألة، أو أن يُرخَى لها زمام الإرجاء وتقطيع الوقت؛ لتقف إزاء بيئتها، سيّدة على الخراب والغاضبين.

تعلم الحركة يقينًا أنه لا سبيل للإعمار دون التنحّى. فكأنها ضحّت بورقة الأسرى لوقف الحرب، ثم تكون مُلزَمة أمام القضية نفسها بالسلام، لأن أى سلوك خلاف هذا لا يُعيدها إلى حيّز المقاومة فى وجه الاحتلال، بقدر ما يُصوّرها على حال المُماطلة وتعطيل مهمة الإنقاذ وإعادة تطبيع الحياة فى القطاع.

وعليها بالطبع أن تنظر للمشهد فى كُلّيته؛ إذ يحلّ جاريد كوشنر بقوّة بين صُنّاع التسوية الأخيرة، وكان غائبًا عن هُدنة يناير التى نشط فيها ويتكوف. والصهر معروف بأدواره فى إدارة ترامب خلال ولايتها الأولى، وكان عرّاب الاتفاقات الإبراهيمية، وصاحب فكرة «الريفييرا» التى عاد عنها الرئيس أخيرًا.

وبروزه اليوم إنما يتّصل بتصوّر يتجاوز فضاء غزة، ويتطلع إلى لَضم الخيوط ووصل المنقطع على طول المنطقة، وهو ما تبدّى بوضوح فى إشارات عِدّة لسيد البيت الأبيض، مدّ فيه حبل الآمال لدرجة استشراف أن تكون إيران نفسها شريكًا فى توافقات التطبيع.

وسواء رضخت الجمهورية الإسلامية أو تمنّعت؛ فالفكرة نفسها أن إنهاء الحرب مُقدّمة لترتيبات إقليمية واسعة، وليست مُجرّد إنهاء لأزمة مُؤطّرة بنطاقها الجغرافى والديموغرافى المحدود. بل يبدو أنه اقتصاص من «الطوفان» ذاته بأثر رجعى، ما يفرض على الفصائل أن تُعيد التموضع سريعًا، وتربط القضية وشواغلها بالمنطقة الآمنة من محيطها الدافئ.

تقبّلت حماس فى الصفقة الأخيرة ما كانت ترفضه لشهور. يعود الأمر لجهود الوسطاء وقدرتهم على إقناعها؛ كما يعود لاستشعارها حراجة اللحظة، وتلاشى هامش المناورة بعدما تبدّت جدية الرؤية الأمريكية. وإذا كانت الحركة عجزت عن مواجهة نتنياهو؛ فليس فى مقدورها أن تتصادم مع ترامب. والأكيد أنها ستختبر الثغرات ما استطاعت؛ لكنها ستعود من كل طريق تتأكد أنها موصدة.

القاهرة وحدها تُقدّم الفرصة المثالية لإنجاز أفضل صيغة مُمكنة، والحفاظ على التوازن المطلوب بين واجب الإنقاذ، واحتياجات المواكبة وحراسة مراحل الانتقال. إنها الأكثر التزاما إزاء القضية، كما أن فلسطين من دقائق أمنها القومى ومكوّناته العضوية، وقد اضطلعت بالوساطة المُتجرّدة تمامًا، ولم تُخفِ انحيازها للثوابت والحقوق العادلة. ولعلّها الطرف الوحيد الحريص على إنهاء الحرب واستدعاء السياسة؛ بمنطق النضال الدائم والمُتجدد، وليس تجميد الأزمات أو ترحيلها.

زيارة رئيس المُخابرات لإسرائيل خطوة ضمن جهود دؤوبة لتثبيت ما هو أكبر من وقف إطلاق النار؛ أى البقاء على الأرض وإعمارها لأهلها، ومُداواة غزّة كفاتحة لإعادة وَصلها مع الضفة الغربية، وتجسيد المشروع الوطنى مُجددا فى جناحيه الأصيلين؛ لأنه لا حياة لإحداهما دون الأخرى، ولا للفكرة نفسها إلا بديناميكية الحاملين لها، وقدرتهم على الاعتراف بالخسارة دون مُكابرة، والتمرُّد عليها دون صخب عاطفى أو انتحارات مجّانية.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب