في صباح العشرين من أكتوبر عام 1798م، دوّى صوت الثورة في أحياء القاهرة القديمة، حين انتفض المصريون بقيادة علماء الأزهر وطلابه ضد ظلم وجبروت جيش نابليون بونابرت، ولم يكن أحد يتوقع أن تشتعل المدينة الهادئة بهذه السرعة، لكن الضغوط الاقتصادية، والانتهاكات الدينية، والإهانات المتكررة دفعت الشعب إلى الانفجار في وجه الاحتلال.
بدأت الأزمة حين فرضت السلطات الفرنسية ضرائب باهظة على التجار والمواطنين، في تناقض واضح مع وعود نابليون عند دخوله مصر بأنه جاء "لتحرير الشعب من ظلم المماليك" إلى جانب الضرائب، لجأ الفرنسيون إلى تفتيش البيوت والدكاكين بحثًا عن الأموال، وهدموا أبواب الحارات لتسهيل ملاحقة المقاومين، بل وصل الأمر إلى هدم المساجد والمباني بحجة “تحصين المدينة”.
في تلك الأجواء المشحونة، توحّدت أصوات الغضب في الأزهر الشريف، حيث قرر العلماء والطلاب قيادة انتفاضة شعبية ضد المحتل، لتندلع شرارة الثورة التي فاجأت نابليون وجيشه، وحين اشتعلت الثورة في أحياء القاهرة، لم يدرك الحاكم الفرنسي الجنرال ديبوي خطورة الموقف، فواجه المتظاهرين بالعنف، لكن الثوار باغتوه وقتلوه في المعركة، وهو ما أشعل غضب نابليون الذي أسرع بتعيين الجنرال بون بديلًا له.
اتسعت رقعة الثورة لتشمل معظم أحياء القاهرة، باستثناء مصر القديمة وبولاق لقربهما من المعسكرات الفرنسية، وتحول الجامع الأزهر إلى قلب المقاومة، حيث تحصّن داخله العلماء والطلاب والعامة، وأقاموا المتاريس في الشوارع المؤدية إليه، قدّر المؤرخون عدد المشاركين في الانتفاضة بأكثر من خمسين ألف ثائر، في مشهد غير مسبوق من الوحدة الشعبية.
لكن رد نابليون كان قاسيًا؛ إذ قصفت المدافع الفرنسية البيوت والحارات والأزهر الشريف نفسه حتى أوشك أن ينهار، وسالت الدماء في الأزقة الضيقة بين الغورية والصنادقية والنحاسين، وفي واحدة من أبشع صور الانتهاك، اقتحم الجنود الفرنسيون الجامع الأزهر بخيولهم، ودنسوا المصاحف، في مشهد ترك أثرًا غائرًا في الذاكرة الوطنية والدينية المصرية.
بعد ثلاثة أيام من القتال العنيف، تمكن الفرنسيون من إخماد الثورة بالحديد والنار، يصف المؤرخ عبدالرحمن الرافعي تلك اللحظات قائلًا: “تغلبت قوة الحديد والنار على مقاومة شعب أعزل لا سلاح معه، واستهدف سكان القاهرة بعد إخماد الثورة لأشد ضروب الانتقام.”
ويذكر الكولونيل ديتروا في مذكراته أن عدد القتلى من الأهالي بلغ نحو 700 إلى 800 شخص، لكن الرافعي يؤكد أن الرقم الحقيقي تجاوز 2500 قتيل، وربما وصل إلى 4000 بحسب تقديرات أخرى، أما الخسائر الفرنسية، فقد بلغت نحو 20 جنديًا وضابطًا فقط، وفق ما جاء في تقارير نابليون الرسمية.
عقب إخماد الثورة، أصدر نابليون أوامره بإعدام عدد من شيوخ الأزهر الذين اعتُبروا من زعماء التمرد، تم اقتيادهم إلى قلعة صلاح الدين، وضُربت أعناق ستة منهم، أبرزهم: الشيخ إسماعيل البراوي، الشيخ يوسف المصيلحي، الشيخ عبدالوهاب الشبراوي، الشيخ سليمان الجوسقي (شيخ طائفة المكفوفين)، الشيخ أحمد الشرقاوي.
وكان هؤلاء من أبرز علماء الأزهر الذين حرّكوا الجماهير ضد الاحتلال، أدرك نابليون أن الأزهر الشريف لم يكن مجرد مسجد، بل عقل الأمة وروحها.فحين طلب شيوخ الأزهر إخراج الجنود من المسجد بعد تدنيسه، رفض في البداية، ثم استجاب لتوسّل الشيخ محمد الجوهري الذي دخل عليه بنفسه وقال: "ما قابلت حاكمًا عادلًا أو ظالمًا، والآن جئت متوسلًا إليك أن تأمر بإخراج العسكر من الجامع الأزهر"، فاستجاب نابليون أخيرًا وأمر بخروج الجنود، لكنه أبقى سبعين جنديًا لحراسة الحي، ليبقى الأزهر تحت رقابة عسكرية مشددة.
على الرغم من فشل الثورة في تحقيق استقلال فعلي، فإنها مثّلت بداية الوعي الوطني المصري الحديث، وأكدت أن الشعب قادر على مقاومة القوة الأجنبية مهما بلغت جبروتها، كما كانت إنذارًا مبكرًا لنابليون بأن حكم مصر لن يكون سهلًا، وأن الأزهر سيظل منارةً للثورة والعلم والهوية.
كتب نابليون في مذكراته أثناء منفاه في “سانت هيلينا”: “إن رجال الشرطة قبضوا على ثمانين من أعضاء لجنة الثورة وسجنوهم بالقلعة، وإن نحو أربعة آلاف من سكان العاصمة هاجروا منها قبل شروق الشمس... وقد أُعدم هؤلاء الثمانون سرًا بعد ثبوت إدانتهم.” لكن الرافعي يؤكد أن هذه الإعدامات تمت دون محاكمة عادلة، وأن العديد من العلماء قُتلوا ظلمًا أو ماتوا تحت التعذيب.