تحل اليوم 19 أكتوبر ذكرى واحدة من أكثر اللحظات حسمًا في التاريخ العسكري الأوروبي، وهي تراجع نابليون بونابرت عن موسكو عام 1812، بعدما فشل في احتلالها بشكل فعلي أو الحفاظ عليها، لتتحول حملته على روسيا إلى كارثة استراتيجية مهدت لنهاية الإمبراطورية النابليونية التي أرعبت أوروبا لسنوات.
في صيف عام 1812، انطلق نابليون بونابرت على رأس جيش ضخم يُعرف باسم “الجيش الكبير”، يضم أكثر من 600 ألف جندي من جنسيات أوروبية مختلفة، بهدف غزو روسيا وإجبارها على الخضوع لسيطرته بعد تمردها على الحصار القاري ضد إنجلترا.
لكن الروس، بقيادة القائد كوتوزوف، لم يواجهوا نابليون في معركة فاصلة، بل لجأوا إلى سياسة الأرض المحروقة، حيث تراجعوا تدريجيًا إلى الداخل، تاركين المدن والمخازن فارغة ومحروقة، حتى لا يستفيد منها العدو الفرنسي.
دخل نابليون موسكو في 14 سبتمبر 1812 معتقدًا أنه انتصر، لكن دخوله كان فخًا روسيًا محكمًا.
ففي الليلة نفسها، اشتعلت النيران في موسكو وظلت مشتعلة لأربعة أيام متتالية، تلتهم الأخضر واليابس بفعل رياح الخريف.
ووفقًا لما ورد في كتاب "الصراع بين البورجوازية والإقطاع 1789–1848م" للمؤرخ محمد فؤاد شكري، فقد دمّرت الحرائق تسعة أعشار المدينة، أي أكثر من سبعة آلاف مبنى، لتتحول موسكو إلى رماد.
قال نابليون بحزن وهو يتجوّل بين الأطلال: “إنهم لبرابرة حقًا... إن حريق موسكو دلالة على ما سينطوي عليه المستقبل من كوارث.”
كانت كلمات نابليون نبوءة صادقة لما سيحدث لاحقًا.
مع قدوم الشتاء الروسي القارس، وجد الجيش الفرنسي نفسه محاصرًا بلا مؤن ولا خطوط إمداد، بعدما قطع الروس الطرق كافة.
وفي 19 أكتوبر 1812، أصدر نابليون أوامره بالانسحاب من موسكو، تاركًا خلفه المدينة المدمرة، وبدأت رحلة العودة المأساوية التي وصفت بأنها “نهاية الجيش الكبير”.
خلال الانسحاب، لاحقت القوات الروسية المنسحبين بضربات متواصلة، بينما أودى البرد والجوع والأمراض بحياة عشرات الآلاف.
وعندما وصل الجيش المنهك إلى نهر بيريزينا في نوفمبر، وجد الروس بانتظاره، فاضطر نابليون إلى إقامة جسور مؤقتة لعبورها ثم تدميرها، مما أدى إلى تقطع السبل بنحو 10 آلاف جندي.
بحلول 8 ديسمبر 1812، كان نابليون قد ترك ما تبقى من جيشه وعاد إلى باريس سرًا.
وبعد ستة أيام فقط، خرجت بقايا جيشه من الأراضي الروسية بعد أن فقد أكثر من 400 ألف رجل في أكبر كارثة عسكرية في تاريخه.
تحول الانسحاب من موسكو إلى نقطة تحول كبرى في تاريخ أوروبا، إذ مهد لسقوط الإمبراطورية الفرنسية في الحروب التالية، وأثبت أن الغرور الإمبراطوري لا يصمد أمام صلابة الإرادة الوطنية والطبيعة القاسية.