انتهيت من قراءة ديوان "أشجعين" للشاعر أحمد جمال، الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وهو الديوان الذي يبحث في أعماق كل منَّا عن معنى للشجاعة، بوصفها منظومة قيم لا صفة منفردة، فهي كما تقدمها القصائد "وعي عام" يسير بالإنسان ويقوده، وفي الوقت نفسه "ممارسة يومية" منذ أن يفتح الإنسان عينيه ويواجه العالم، وهي أيضاً "أسلوب حياة ووجهة نظر" يمكن لمن يتبناها أن يعيش بها ولا يقبل غيرها، من هنا يظهر الديوان كدفتر سيرة للشجاعة بأوجهها المتعددة (شجاعة المحبة، وشجاعة المعرفة، وشجاعة الاعتراف بالضعف، وشجاعة الصبر فى جراح الجماعة، وشجاعة الوقوف فى وجه الموت والظلم).
احذر..
واتمنى قلب يشوف بحرية
قل ربي زدني الصدق ف النيّة
ولو شئنا أن نتوقف عند بعض القيم التي قدمها الديوان وكيف صور ذلك ووضحه بطريقة فنية، سنجد مثلا: "الشجاعة بوصفها تمييزا أخلاقيا"، فهي في الديوان ليست مجرد اقتحام، بل قدرة على تمييز ما ينبغي الخوف منه وما لا ينبغي، وما يجب الدفاع عنه وما يجوز السكوت عليه، لذلك نجد في بداية الديوان، قبل الشعر، يقدم الشاعر مقولات فلسفية ودينية وأدبية.
الدنيا قامت ع اللي قال.. ما قتلش
قامت على تضحية..
وحده اللي قال "ما كرهش".. أشجعنا
وسنجد أيضا الشجاعة بوصفها روح الجماعة، حيث ينظر الشاعر إلى الشجاعة على أساس كونها حقًا للروح وحقًا للجماعة، لهذا يشرع الشاعر نافذة على "الوجع العام" فلسطين عبر "ليلى" المستلهمة من سردية غسان كنفاني، حيث تتحول عبارة "من هنا ممشيش" إلى فعل مقاومة، إنها شجاعة ترفض محو الاسم والأرض، وتحرر البطولي من صوره الجاهزة ليصير "إصرارا أخلاقيًّا" على عدم التنازل.
عن اللي كان جمبيها بيلومها.. عشان قالت:
أنا ممشيش..
…
"ليلى" اللي قالت.. من هنا ممشيش..
كانت ف حب الأرض تجمعنا..
زينة بنات الحي.. أشجعنا
ويتتبع الديوان شجاعة ناعمة لا تُرى كثيرًا، وهي أن تظل "طيبًا" في عالم صعب، وأن تغلب العفو على القصاص، وأن تقول "بقيت خايف" بلا خجل، هنا يجرد الشاعر الاعتراف من وصمة الضعف، ويعيد تعريفه كقوة وجودية تحرر الإنسان من كذبة التماسك الدائم.
صدق اللي عنده من الشجاعة يقول..
"بقيت خايف"
أما عن طريقة التعبير عن الشجاعة، فالديوان يشتغل على مجموعة أدوات جمالية والتي تحمل أثرًا واضحًا، ومن ذلك "التناص الفلسفي والتاريخي"، ففي الديوان يحضر ابن رشد وهيباتيا وسقراط بوصفهم "امتحانات للشجاعة" ابن رشد في محنة الحرق والمنفى وشجاعة الفكرة، وهيباتيا التي واجهت جهل عصرها بكرامة المعرفة، وسقراط الذي لم يهرب حين واجه الموت. هذه الاستدعاءات ليست زينة ثقافية، بل محكا يقيس به الشاعر لحظاتنا الراهنة.
أول ما قالوا الموت وجب.. ما هربش..
يا اللي عماركم بالجمال ما خربش..
وقد أجاد أحمد جمال في الاعتماد على المشهدية بشكل واضح بقصد تقريب المعنى وخلق صورة تظل راسخة في العقل، ومن ذلك كل القصائد المتعلقة بالطفولة والأسر ومواجهة الوحدة، كما يعتمد الديوان على تكرار مدروس يصنع لازمة أخلاقية (قل: ربي زدني الصدق في النية / ما هربش / ممشيش)، فتغدو القصيدة قابلة للإنشاد الجماعي، كأنها تنزل من صفحة الكتاب إلى ساحة الحياة.
في نصوص عديدة يرتفع الاعتراف بالخوف إلى مقام الشجاعة؛ "بقيت خايف" لا يقال لتأبين الذات، بل لتطهيرها من ادعاء الصلابة، وهنا ينجح الشاعر في نقل الشجاعة من فكرة المثالية إلى الحياة، ولم يجعلها مقصورة على الملاحم الكبرى.
دلوقتي بضحك مش عشان فرحان..
لكن عشان شايف..
صدق اللي عنده من الشجاعة يقول:
"بقيت خايف"
في الديوان أيضا يحضر الجسد ليقدم تعريفًا عمليا للشجاعة، فمعنى أن تدار الحياة بكرسي متحرك، وأن تواصل الكتابة والعمل والحب، هو في ذاته فعل مقاومة يومية، وبهذا يمثل "أشجعين" سيرة لقيمة مهمة في الحياة، قيمة كاشفة عن روح أحمد جمال، الشاعر الشجاع الذي يحمل تفسيرا للعالم، ويملك من الشجاعة على كل المستويات، ويقول لنا إن أجمل دعاء تبدأ به يومك هو: "ربي زدني الصدق في النية".