دعوة أمريكية أطلقها الرئيس دونالد ترامب للعفو عن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تحمل في ظاهرها تعاطفا مع حليف مدلل، ترك له اللجام، فصار يقتل ويهدد ويعربد في إقليم كامل، دون رادع، ولكنها في واقع الأمر قد تكون لها معان أخرى، فالرئيس الأمريكي يجيد استخدام الكلمات، بحيث لا يظهر هدفها الحقيقي، فعندما تحدث عن دعمه إلى إسرائيل في كلمته بالكنيست، لم يخلو حديثه من أمور شخصية، على غرار إيفانكا وديانتها، ليقدم الدليل على الدعم المطلق من قبل إدارته للدولة العبرية، وهو أمر واضح لا جدال فيه، ولكن ربما يكون التساؤل الحالي في عقل الإدارة الأمريكية الحالية حول ما إذا كانت مصلحة الحليف، وهو إسرائيل، تتوافق مع وجود حكومة يمينية متطرفة، قد تطيح بالاتفاق الذي أصبحت واشنطن أحد أهم المسؤولين عنه، بعد حضور سيد البيت الأبيض بنفسه لقمة شرم الشيخ وتوقيعه على وثيقة السلام بصحبة الرئيس السيسي ونظيره التركي وأمير قطر.
والواقع أن بقاء نتنياهو في السلطة مرهون بصورة أو بأخرى باستمرار الصراع، ووضع العراقيل، أمام الاتفاق، حتى يعيد كرة الاعتداءات مجددا، وبالنسبة له فإن مقعد رئيس الوزراء يقدم له حصانات، كبيرة من شأنها حمايته، في مواجهة الدعوات التي تلاحقه، في قضايا فساد تورط بها، والتي قد تنقله مباشرة من حياة القصور الفارهة إلى حياة أخرى حلف القضبان، وبالتالي تصبح دعوة الرئيس ترامب بالعفو عن رئيس الوزراء الإسرائيلي تفتح الباب أمام احتمالات أخرى في عقله، في إطار حماية الاتفاق الذي تم التوصل إليه، والأهم الوعود الذي أطلقها في شرم الشيخ، وعلى رأسها نهاية زمن الحروب في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يتعارض جذريا مع رؤية الحكومة الحالية في تل أبيب.
وبالنظر إلى شخصية الرئيس ترامب، نجد أنه، كما يقول هو عن نفسه دائما، رجل صفقات، يحاول الوصول إلى صيغة من شأنها تحقيق مصلحة أمريكا أولا، ثم ينظر بعد ذلك إلى ما هو دون ذلك، وبالتالي فإن المصلحة الأمريكية، وهي الأهم من نتنياهو وحكومته بكل تأكيد من وجهة نظر الرئيس الأمريكي، تقتضي تحقيق قفزة كبيرة في طريق السلام، حتى يتسنى لها الاحتفاظ بمكانتها، فإذا كانت الإدارة الحالية، ومعها إدارة جو بايدن السابقة، لم يتمكنا من توجيه بوصلة العالم نحو الرؤى الأمريكية، وهو ما بدا جليا في سلسلة الاعترافات الأوروبية بالدولة الفلسطينية، فإن الخيار الوحيد أمام البيت الأبيض، يتجلى في محاولة اللحاق بهم، كخطوة أولى، يمكن من خلالها استعادة زمام القيادة مجددا، وبالتالي فنجاح قمة شرم الشيخ، وخطة السلام التي أقرتها، هي بمثابة نقطة انتقالية هامة، لتحقيق هذا الهدف، في لحظة شديدة الحساسية، تشهد فيها الولايات المتحدة منافسة شرسة من خصومها الدوليين.
الأمر يرتبط كذلك بطموحات الرئيس ترامب الشخصية، فالرجل يسعى بجدية للحصول على جائزة نوبل للسلام، والتي وإن غابت عنه هذا العام، فمازالت الفرص سانحة أمامه، خاصة وأن إنهاء الصراع في الشرق الأوسط سيكون بمثابة إنجاز غير مسبوق يحسب له، لا يقل بأي حال من الأحوال عما حققه الرئيس الأسبق جيمي كارتر، عندما أبرم اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، في كامب ديفيد قبل أكثر من أربعة عقود كاملة، بل وقد يتفوق، حال نجاحه، في ضوء معطيات عدة، أبرزها طول أمد الصراع على الأراضي الفلسطينية، والذي تمتد جذوره إلى أواخر الأربعينات من القرن الماضي، وكذلك الوصول إلى نقطة اللا عودة في العامين الماضيين، بعد أحداث السابع من أكتوبر، ناهيك عن استعصاء الحل عن كافة أطراف المعادلة الدولية، في إنهاء الأزمة، وبالتالي سيكون الأجدر بها دون جدال إذا ما استطاع تحقيق ما فشلت فيه أجيال كاملة من القادة العالميين.
الرئيس ترامب يدرك تماما أن نتنياهو "ورقة محروقة" سياسيا، والرهان عليه خاسر تماما، وهو ما بدا في بعض تفاصيل المشهد، منها على سبيل المثال تحيته لزعيم المعارضة الإسرائيلي داخل الكنيست، بل حاول أن يمنحه فرصة أخيرة بالحضور إلى شرم الشيخ، ربما في اختبار لمدى القبول الإقليمي له، في إطار المرحلة الراهنة، ولكنها لم تنجح، وبالتالي فإن الرئيس الأمريكي ربما أصبح مدركا لحقيقة مفادها أنه ليس رجل المرحلة.
الحديث السابق لا يعني أن ثمة دورا أمريكيا متوقعا في إزاحة نتنياهو، بل أن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى ذلك أساسا، في ضوء الغضب العارم في الداخل جراء سياسات الحكومة الحالية، والتي تتحمل مسؤولية بقاء الرهائن في قبضة الفصائل لعامين كاملين، بالإضافة إلى مقتل بعضهم بسلاح الجيش الإسرائيلي، ولكن تحمل الدعوة الأمريكية في طياتها، محاولة لممارسة ضغوط استباقية على حكومة إسرائيل الحالية، قبل أي محاولة منها لتقويض اتفاق شرم الشيخ، بينما يمثل إشارة ضمنية للداخل الإسرائيلي بأن واشنطن ستدعم إسرائيل سواء في وجود نتنياهو أو غيره، وهو ما بدا في الحديث عن إيفانكا وحبها لإسرائيل، وهو ما يمثل دحضا صريحا لرسائل نتنياهو المتواترة ومحاولاته لشخصنة العلاقة بين واشنطن وتل أبيب، في ضوء علاقته القوية بالرئيس ترامب.
المطالبة بالعفو عن نتنياهو قد يكون "فخا" أمريكيا، على عكس الظاهر، فاستلهام روح كارتر، يتطلب وجود حكومة إسرائيلية أكثر مرونة يمكنها التعاطي مع خيار السلام بصورة أكثر وضوحا ودون مواربة، حتى يمكن الوصول إلى مرحلة التفاوض، وهو ما يعني أنه يمثل محاولة صريحة لحماية الاتفاق من أي عمل متهور من شأنه تقويض صورة أمريكا أمام العالم.
وهنا يمكننا القول بأن دعوة ترامب للعفو عن رئيس وزراء إسرائيل، وإن كانت تمثل في ظاهرها تأكيدا لقوة العلاقة بينهما، إلا أنه من غير المستبعد أن تكون محاولة لتخفيف حالة التمسك بالسلطة لدى نتنياهو، بينما تقدم، إذا ما نظرنا إليها إلى جانب مشاهد أخرى وربما تصريحات سواء في إسرائيل أو شرم الشيخ، رسالة خفية له بأن إسرائيل هي حليف أمريكا وليس هو، وأن مصلحة أمريكا وصورتها أمام العالم بالنسبة له فوق الجميع، وأنه لن يسمح بإفساد طموحه لاعتلاء منصة نوبل.