محمود الجلاد

دولة التلاوة.. تاريخ ينطق بالقرآن

الثلاثاء، 14 أكتوبر 2025 12:15 ص


في زمنٍ تتبدَّل فيه الموازين، وتتعاقب فيه الدول والحدود؛ تبقى هناك دولةٌ لا تُحد بحدودٍ ولا تُقاس بجغرافيا، لكنها تمتدّ في القلوب، وتُظلّل الأرواح حول مائدة النور، هي.. دَوْلَةُ التِّلَاوَةِ المصرية، دولةٌ لكل قارئٍ مَقام وصوتٌ يتصل بالسماء، تسير فيها الأجيال في موكبٍ من النور جيلًا بعد جيل ممن حملوا رسالة الصوت القرآني المصري فصاروا ملوكًا في مملكةٍ لا تعرف الزوال، وتُرفع راياتها حين يُرتَّل كلام الله بخشوعٍ يُبكي الحجر، حين يخرج الحرف من فم القارئ مطهَّرًا بنور الإيمان على مائدةٍ واحدةٍ عنوانها: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾.

ليست دَوْلَةُ التِّلَاوَةِ المصرية كأيِّ دولةٍ على وجه الأرض، فحدودها لا تُرْسَم على الخرائط؛ بل في القلوب والأرواح والوجدان، وسُكّانُها لا يحملون جوازاتٍ، بل يحملون في صدورهم نورًا من كتاب الله، هي دولةٌ نَشَأَتْ على ضفاف النيل، من أرضٍ طيِّبةٍ باركها الله في كتابه، وجعلها منارةً وحِصنًا للقرآن وأهله.

في دَوْلَةِ التِّلَاوَةِ المصرية.. تَكَوَّنَتْ ملامحُ الصوت القرآنيّ، وتأسَّست قواعد الأداء، وصيغت صور المقامات وهيئات الترتيل؛ فمصرُ لم تكن يومًا مجرَّد وطنٍ يتلى فيه القرآن، بل كانت مَهْدَ التِّلَاوَةِ ومَعْقِلَ الصَّوتِ القرآنيّ، ومَصْدَرَ المدرسة التي عَلَّمت الدنيا كيف يكون الترتيل والأداء القرآني علمًا وفنًّا وذوقًا وخشوعًا في آنٍ واحد، وروحًا تُبكي القلوب وتملأها سكينةً ونورًا.

في دَوْلَةِ التِّلَاوَةِ المصرية.. تخَرَّج جيلٌ من القراء العمالقة أسَّسوا للدنيا فنَّ التلاوة؛ فوضعوا قواعد الأداء القرآني، ورسموا ملامح المقامات، وصاغوا صور الهيئات الصوتية التي لا تزال إلى اليوم تُدرَّس وتُقلَّد في مشارق الأرض ومغاربها، فصارت التلاوة على أيديهم عِلمًا له أصوله وقواعده، وفنًّا له مدارسه.

فمن بين جنبات محافظات مصر خرجت أصواتٌ هي تاجٌ على جبين الأمة: فمن القاهرة خرج الشيخ محمد رفعت صاحب الصوتُ الخاشع الذي افتتحت به الإذاعة المصرية عهدها، فكان أولُ مَنْ جعل الأثيرَ يُسبِّح بالقرآن، بصوتٍ رقيقٍ يحمل جلالَ المعنى وبكاءَ الخشية.

ومن قرية ميت غزال بمحافظة الغربية بزغ الشيخ مصطفى إسماعيل الذي جمع بين علم التلاوة وفن المقامات، فصار عبقريًّا في النغمة والمعنى، يُجيد تطويع الصوت لخدمة الآية حتى يخيل للسامع أن المعنى يُتَرْجَم نغمًا بما يجعل الحروف تتراقص في أنغامٍ بديعةٍ تحفظ وقار القرآن وجلاله، ومن مدينة قنا في صعيد مصر خرج الشيخ عبد الباسط عبد الصمد الذي حمل صوت مصر بصوته الملائكي الذي عبر الحدود، فصار سفيرًا للقرآن في العالم كله بروحٍ مصريةٍ خالصة، ومن محافظة سوهاج بزغ الشيخ محمد صديق المنشاوي بصوته الذي يقطر خشوعًا، وكأن كل آيةٍ تخرج من قلبٍ مبلولٍ بالدموع، ومن طنطا بمحافظة الغربية برز الشيخ محمود خليل الحصري إمامُ علم التجويد وضابطُ الأداء، الذي وضع قواعد التلاوة المقروءة والمسموعة، وجعل للتجويد علمًا منهجيًّا يدرَّس، ومن الفيوم جاء الشيخ أبو العينين شعيشع، ومن الإسكندرية الشيخ كامل يوسف البهتيمي، ومن الدقهلية الشيخ راغب مصطفى غلوش، حتى تَكَوَّنَت من هؤلاء جميعًا مملكةٌ صوتيةٌ بديعةٌ أسست دَوْلَة التِّلَاوَةِ.

إن عمالقة دَوْلَةِ التِّلَاوَةِ المصرية لم يكونوا مجرد قراءٍ، بل كانوا مهندسي الصوت الإيماني، وبُنَاةَ دولةٍ روحيةٍ جعلت من مصر منارةً خالدةً في عالم التلاوة، فما من قارئٍ في العالم الإسلامي إلا وتعلَّم من مصريٍّ أو تأثر به، وما من مَسْجِدٍ في شرق الأرض أو غربها إلا وتردَّد فيه صدى أصواتهم.

ولقد صارت مصر عاصمة دولة التلاوة، وميدانها الممتدّ من المآذن إلى الأثير، ومن المدارس القرآنية إلى قلوب الملايين، ولئن تفخر الأمم بصناعتها وزراعتها، فإن مصر تفخر بأنها  أسست دولة التلاوة وأقامت دعائمها، فصنعت للأمة صوتَ القرآن، وأهدت للعالم مدرسةً كاملةً وفنًا في الأداء والروح والتجويد، ومن على مآذنها وعبر أثير إذاعاتها انطلقت دولةٌ لا تعرف زوالًا، شعارها: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾، وعنوانها: مصر... مهد التلاوة ومملكة الصوت القرآني الخالد




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب