خالد صلاح

السيجار والنبيذ والسياسة.. هل يستطيع ترامب إنقاذ نتنياهو من تهم الفساد؟

الثلاثاء، 14 أكتوبر 2025 10:00 ص


حين استمعت إلى خطاب الرئيس الامريكي دونالد ترامب في الكنيست الإسرائيلي شعرت أن الرجل لا يتحدث إلى برلمان سياسي يمثل دولة ديمقراطية ، بل إلى مسرح كبير يريد أن يعيد فيه كتابة الفصل الأخير في حياة بنيامين نتنياهو،  فالرئيس الأمريكي كعادته كانت نبرته عالية وحادة وثقته مفرطة في نفسه ، وفيمن يتحدث إليهم ، كأنه صاحب بيت يتحدث إلى بقية أفراد العائلة مطالبا بالعفو عن نيتانياهو بكلمات ساخرة حين قال ببساطة ( من يهتم بالنبيذ والسيجار ؟! )

هذه الجملة ما هي إلا إشارة لواحدة من الإتهامات المتعددة التى تواجه نيتانياهو بالحصول على رشاوى عبارة عن علب سيجار وزجاجات نبيذ فاخرة ، ولم يتردد الرئيس ترامب في أن يطلب علنا من الرئيس الإسرائيلي بالعفو عن نيتانياهو في الإتهامات الموجهة إليه ، وكأنه يخشى أن تكون نهاية الحرب هي نهاية ( للصديق العزيز نيتانياهو ) بأن يدخل إلى السجن لسنوات طويلة .

أنت تعلم طبعا أن نيتنياهو كان يطيل أمد الحرب ، ويرفض التوقف حتى لا تبدأ المحكمة في استدعائه في الإتهامات الموجهة إليه ، فالرجل هو أول رئيس وزراء إسرائيلي يحاكم بكل هذه الجدية  وهو في منصبه بثلاث قضايا فساد كبرى، معروفة بالأرقام لا بالأسماء، لأنها تحولت إلى رموز سياسية أكثر من كونها ملفات قانونية، هي القضية 1000، والقضية 2000، والقضية 4000، وكل منها تمثل طبقة مختلفة من عالم المصالح الذي أحاط برئيس الوزراء الإسرائيلي

في القضية 1000 التي أشار إليها ترامب ، تعرف أيضا باسم قضية الهدايا والسيجار والنبيذ، و يواجه نتنياهو في هذه القضية  اتهامات بتلقي هدايا فاخرة من رجال أعمال أثرياء، أبرزهم الملياردير الأسترالي جيمس باكر والمنتج الهوليوودي أرنون ميلشان، تشمل سيجارا فاخرا وزجاجات نبيذ باهظة ومجوهرات لزوجته سارة، مقابل خدمات حكومية أو تسهيلات في المعاملات الرسمية، وقد قدرت قيمة هذه الهدايا بحوالي 200 ألف دولار ، وهي قضية تمس مفهوم خيانة الأمانة أكثر مما تتعلق بالرشوة المباشرة، ولهذا حين قال ترامب عبارته الشهيرة من يهتم بالنبيذ والسيجار كان في الواقع يطعن في جوهر هذه القضية معتبرا أنها لا تستحق محاكمة قيادة كبيرة مثل ( الصديق نيتانياهو )


أما القضية الثانية فتحمل رقم  2000 وهي أكثر تعقيدا من الأولى، إذ تكشف الوجه الخفي للعلاقة بين الإعلام والسياسة في إسرائيل، ففي تسجيلات تم تسريبها  إلى الصحافة ظهر نتنياهو وهو يتفاوض مع ناشر صحيفة (يديعوت أحرونوت) أرنون موزيس لتمرير قانون يحد من توزيع صحيفة (إسرائيل هيوم) المنافسة له ، مقابل حصوله على تغطية إعلامية إيجابية خلال الانتخابات وطوال فترة حكمه ، أي صفقة ضمنية بين السلطة الرابعة وصاحب السلطة الأولى، ورغم أن الاتفاق لم ينفذ فعليا ، إلا أن مجرد الاتفاق على التفاصيل تم اعتباره دليلا لإدانة نيتانياهو .

ثم تأتي القضية 4000 التي تعد الأخطر والأكثر حساسية لأنها تتضمن تهمة الرشوة صراحة، فخلال تولي نتنياهو رئاسة الحكومة ووزارة الاتصالات في الوقت نفسه، اتهم بأنه منح تسهيلات تنظيمية ضخمة لشركة الاتصالات (بيزك) مقابل تغطية إعلامية إيجابية في موقع (والا)الإخباري المملوك لرجل الأعمال شاؤول إيلوفيتش، وتشير التحقيقات إلى أن نتنياهو تدخل شخصيا في اختيار الأخبار والصور والعناوين المنشورة عنه، في سابقة خطيرة تربط مباشرة بين قرارات الدولة ومصالح شخصية

ولعلك تعرف أن هذه القضايا الثلاث تشكل معا ملفا واحدا  في وعي الشارع الإسرائيلي، وينظر إليه كاختبار حقيقي لاستقلال القضاء في مواجهة الزعامة السياسية ، والنفوذ السياسي ، وقد بدأت المحاكمة رسميا في مايو 2020 وما تزال مستمرة حتى اليوم، مع تأجيلات متكررة تحت ذرائع أمنية وسياسية، بينما يتعامل نتنياهو مع القضايا كجزء من مؤامرة لإسقاطه، ويرى فيها أن خصومه يستخدمون القضاء لإقصائه بعدما فشلوا في صناديق الاقتراع .

في هذا المناخ الملتبس جاءت لحظة ترامب في الكنيست، إذ بدا كمن يعلن أن الزعماء الذين يخوضون الحروب لا يحاكمون كالمجرمين، وأن نتنياهو الذي واجه حماس في حرب غزة الأخيرة يستحق التكريم لا الإدانة ( من وجهة نظر الرئيس الأمريكي ) ، ولذلك غازل ترامب زعيم المعارضة عدة مرات ، كما توجه بكلمات مباشرة إلى الرئيس الإسرائيلي ليمنح نيتانياهو العفو اللائق .

لكن هل يسمح القانون الإسرائيلي بمثل هذه الإعفاءات من الإتهامات الجنائية ؟ وكيف يمكن أن يتعامل الشارع الإسرائيلي مع قضائه وإعلامه في حال صدر هذا العفو لصالح رئيس الوزراء الذي خاض هذه الحرب الطويلة ؟


فصلاحية العفو ليست بيد ترامب ولا حتى بيد الحكومة، بل هي من اختصاص رئيس الدولة إسحاق هرتسوج وحده، الذي يملك سلطة إصدار العفو في حالات استثنائية وبعد صدور حكم نهائي بالإدانة، وحتى الآن لم يحكم على نتنياهو بعد، مما يجعل العفو المسبق غير ممكن قانونا، بل وربما مثيرا لانقسام داخلي أعمق مما هو قائم

ومع ذلك فإن صوت ترامب لم يكن قانونيا  بل رمزيا، فقد حاول تحويل نتنياهو من متهم إلى بطل، ومن رجل يطارده القضاء إلى زعيم أنقذ الأمة من الحرب، ومن فاسد مزعوم إلى رجل دولة يتعرض للاضطهاد السياسي، وهذه السردية تجد صدى في أوساط اليمين الإسرائيلي الذي يرى أن الحملة القضائية ضد نتنياهو ليست إلا امتدادا لصراع أيديولوجي بين النخب القديمة والجمهور المحافظ

بعد الحرب يحاول نتنياهو استثمار ما يعتبره من وجه نظره أنه انتصار عسكري في غزة ، وفي لبنان وفي إيران لخلق شرعية سياسية جديدة، مستندا إلى الدعم الأمريكي المباشر وإلى صورة الرجل الذي صمد في وجه العواصف الداخلية والخارجية، لكن يظل السؤال مطروحا هل تكفي الحرب لمحو أثر القضايا وهل يمكن أن يكتب التاريخ صفحة جديدة لرئيس متهم بثلاث قضايا فساد وهو لا يزال في الحكم

ترامب قد لا يستطيع إنقاذ نتنياهو قانونا لكنه يمنحه وقتا ومساحة ونفوذا، يوفر له غطاء سياسيا ومعنويا في انتظار أن تهدأ عاصفة المحاكم، وإذا تحقق العفو فعلا فسيكون سابقة تعيد تعريف العلاقة بين السياسة والقضاء في إسرائيل .


وبين السيجار والنبيذ والسياسة يبقى مصير نيتانياهو معلقا في المشهد السياسي الإسرائيلي بين أكاليل الغار و مجد الانتصار المزعوم في الحرب و خطر الإدانة بأنه الزعيم المرتشي خائن الأمانة في وقت  يحاول فيه النجاة باسم الأمن القومي والمصلحة العليا للبلاد .

لكن أيا كان المشهد ، فإن تفاصيل هذه القضايا الثلاث ، ووقائع تهرب نيتانياهو من المحاكمة بحرب طويلة الأمد ، وتدخل الرئيس الأمريكي للعفو عن متهم بالرشوة وخيانة الأمانة تؤكد حقيقة واحدة ، أن الديمقراطية التى يتحدث عنها الغرب سقطت سقوطا مدويا ، وعلى العالم أن يبحث عن فلسفة أخرى للحكم ، لا تتجمل بإسم الديمقراطية بينما تمارس البطش والقتل والفساد علنا ، لم يعد في إمكان أحد أن يكذب اليوم ويؤكد أن دولة المؤسسات هي التى تتحكم في الديمقراطيات الحديثة ، فمن يتحدث هو المصالح ، والعلاقات الشخصية والنفوذ السياسي والمالي فقط .
لم يعد باستطاعتهم الكذب أكثر من ذلك .




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب