حازم حسين

قمّتان ورؤية مصرية لم تتغير.. الحل فى غزة من القاهرة 2023 إلى شرم الشيخ 2025

الإثنين، 13 أكتوبر 2025 02:00 م


اليوم يُمكن القول بقدرٍ من الثقة إنَّ الحرب على غزة قد وضعت أوزارها، وصار نَقضُ اتفاق شرم الشيخ أو الانقلاب عليه أصعب من تحدِّيات تطبيق بقية البنود فى خطة ترامب.

وحتى لو أراد نتنياهو أن يعود من منتصف الطريق؛ فسيجد الإشارة حمراء. ولو ناكفت حماس فى الوفاء بالالتزامات المطلوبة؛ فلا طاقة لديها للانفلات من الترتيبات الناظمة للتسوية مرحليًّا وعلى المدى الطويل.

تلتقى الإرادات فى قمة السلام التى تحضنها مصر؛ على ألَّا تعود دائرة نيران الطوفان وتداعياته لسابق عهدها مُجدّدًا.
والجَزم السابق؛ على ما فيه من مخاطرة تتصل عضويًّا بطبيعة الأُصوليّة الهائجة احتلالاً ومُقاومة، لا ينبع من ثقةٍ فى ارتداع حكومة الاحتلال المُتطرّفة بأية درجة من الموضوعية والتعقُّل. ولا من افتراض أن الفصائل أفاقت من الغيبوبة الطويلة؛ لتقرأ وقائع الأرض بصورتها الحقيقة المُجرّدة، وتعرف فداحة ما تسبَّبت فيه ولم يَعُد مُمكنًا أن يستمر أو تُغامر بإحيائه ثانية.

لكنه اليقين فى أن ورشة الحل أطلقت مسارًا لا تسهل العودة عنه، وأنه مَحمىٌّ بمحاذير وضمانات تتخطّى فائض الطيش والمكابرة لدى الطرفين المتحاربين.
كلُّ الاحتمالات واردةٌ طبعًا، وبذات النسبة التى يتعرَّض فيها رياضىٌّ مفتولُ العضلات للموت دَهسًا تحت عجلات سيارة طائشة، بينما يعبرُ الطريق إلى صالة الألعاب.

إذ بقدر ما يُحقِّق وَقفُ الحرب باقةً من أهداف نتنياهو؛ فإنه يُهدِّد خططَه الشخصية ويضعُ مسيرته السياسية على المحكّ، كما أن إنقاذ الحماسيين من دوَّامة النار والمطاردة، يحمل معه نزولاً اضطراريًّا عن عرش الحُكم والمنافع التنظيمية، وقد أدمنوا تلك الحال لنحو عقدين تحكَّموا خلالهما فى البلاد والعباد دون رقيب أو حسيب.

إنما يبدو؛ راهنًا على الأقل، أن مخاطر دهس الاتفاق تحت عجلات الفريقين شِبه مُحيَّدة بنسبة كبيرة؛ عبر الأُطر والضوابط المرورية التى تشتمل عليها الصفقة المُبرَمَة مُؤخّرًا.

وليس أدلَّ على ذلك من تضييق الخناق على الشهوات فى المرَّة الأخيرة؛ بخلاف كلِّ الجولات السابقة. وأنَّ الملامح العريضة انتُزِعَت من أيدى المفاوضين على الجانبين، وبدا المشهدُ أقربَ لوضعهما تحت الوصاية المباشرة؛ وإن بقَدرٍ أيسر من الانحياز الأمريكى للدولة العبرية.

ومُفاد الرسالة أنَّ الحرب ستتوقَّف من دون إفناء حماس، والأسرى سيُعادون قبل الجلاء عن القطاع، ولا تهجير أو احتلال أو عودة لما كان قبل «طوفان السنوار».

فكأنّ كلَّ طرف يأخُذ الحدَّ الأدنى من طموحاته العالية، وعلى قدر التوازنات التى خلقتها مُستجدَّات الفترة الماضية، محمولة على الصلابة المصرية بشأن المفصليات الكُبرى، وما تولّد عنها من مواقف إقليمية ودولية، تشكَّلت واكتمل نضجُها تحت النار، وفى ضوء التصوّر الأوَّل الذى استبقت به القاهرة جميع الأطراف منذ الرصاصة الافتتاحية.

كان خيال الحركة أنها ستُكرِّر تجربة شاليط فى 2011 بمُعاملٍ حسابىٍّ ومفاتيح تبادُل أكبر، أو تضع المنطقة بكاملها فوق فوهة البركان؛ لتستدرج الراغب والزاهد إلى ميدان القتال. وتشهد الآن على أنها ما بيّضت السجون، ولا ورّطت إلا نفسها وشركاءها المُمانعين.

واغتنم زعيم الليكود فُرصتَه المثالية لتطويح شراكته الضمنية الطويلة مع الفصيل الأُصولىِّ على طول ذراعه، والنفاذ إلى معادلة المُمانَعة وتشبيك ساحاتها قبل أن يحكُم ويستبد فى كامل شؤون الإقليم. ويُراقب فى أمتاره الختامية ضياع إرثه الطويل، وعدم تمكّنه من إنجاز أسطورة «الملك اليهودى» التى عاش يتمنّاها.
لقد أتَمّ كلُّ فريقٍ جانبًا مِمّا أراد؛ وإن كانت نجاحات الصهاينة أكبر بالطبع. لكنّ محور الاعتدال الذى لم يُحسَب حسابه فى الصيغتين، استقرأ المآلات من بشائرها الغضّة، وتوقَّع ما يرمى إليه الأيديولوجيون على جانبَى الخط الحارق بين النهر والبحر؛ وقد اضطلعت مصر برَسم خطوطها الحمراء مُبكّرًا، وعلى هَديها سارت بقيّةُ العائلة العاقلة، وتكثَّفت جهودها الجماعية شرقًا وغربًا؛ وحُيِّد المتذبذبون منهم بقوّة الدفع الكاسحة من الراسخين.

كانت الإدارة المصرية سبّاقةً فى ترسيم الملعب، عندما عقدت قمة القاهرة للسلام بعد أسبوعين فقط من اندلاع المواجهات، وفيما كان الجميع يختصمون حصرًا فى المسألة الإنسانية؛ على أهميّتها وتركيز المصريين عليها، كان الخطاب الرسمىُّ هُنا يتحدث عن الرفض الكامل والمُطلَق للتهجير على أية صورة، ويستعيد «حل الدولتين» من الأدراج ليضعه على الطاولة، بجانب الضغوط السياسية والدبلوماسية لإنفاذ المساعدات بالتزامن مع الحدث، ومن يومها لا يقول المهتمون بالقضية والمتألِّمون لأهلها فى أرجاء الأرض غير ما قِيْل على ضِفّة النيل.

لا تكاد تُوجَد دولة لم تتبدَّل مواقفها طوال العامين، من اللين إلى الشدَّة والعكس، أو من خُفوت الدعم إلى عُلوّه واتّضاح نبرته؛ لكنَّ الصوتَ المصرىَّ ظلَّ على جرأته وإيقاعه الجاد المُتّزن، يحمل المظلمةَ العادلة من منطق قوَّةٍ وإخلاص، ويكسب أرضًا للقضية وخيار الاعتدال يومًا بعد آخر.
وقد لا تجد فارقًا عميقًا بين قمة القاهرة للسلام قبل سنتين تقريبًا، وقمة شرم الشيخ المُنعقدة اليوم؛ باستثناء قائمة الحضور، وتذويب الخلافات التى منعت صدورَ بيان رسمى عن السابقة؛ لكنها أفضت فى الحالية إلى الالتقاء على ورقة حَلٍّ واضحة المعالم، وحلول ترامب على منصَّة قيادتها المُشتركة مع السيسى، فيما كان يبدو مستحيلاً تمامًا إلى وقت قريب.

وما جرى التوصُّل إليه لا يقطع بانتصار طرفٍ على آخر؛ بل بنُصرة الغزِّيين على الاحتلال وحماس معًا.
وحتى قبل ساعات من الانعقاد، لا معلومة مُؤكَّدة بشأن حضور رئيس الحكومة الإسرائيلية، فيما صرَّحت مصادر رسمية من الحركة بأنها لن تكون بين المجتمعين فى القمة.

وبعيدًا من الأسباب وراء ذلك؛ فالدلالة أهمّ وأكثر تعبيرًا عن طبيعة المرحلة. إذ ينُمّ غياب نتنياهو المُحتَمَل عن استشعارٍ لمرارة الهزيمة الاستراتيجية أمام العُزّل وحاضنتهم الواعية، أو رُؤيةٍ لكونه لم يَعُد طرفًا مُباشرًا فى ترتيبات الحقبة المُقبلة.

أمَّا الحماسيون؛ فإنهم مُصنّفون فصيلاً إرهابيًّا لدى الولايات المُتّحدة وكثيرٍ من دول القادة الحضور؛ لكن ما فوق ذلك أنهم لن يكونوا شريكًا فى اليوم التالى، بل ليسوا «عُقدة اتّفاقٍ» لدى أغلبية القوى الفاعلة إقليميًّا ودوليًّا، وحتى داخل القطاع.

وغاية ما فى أيديهم أن يستعرضوا بقايا وصايتهم على البيئة المنكوبة؛ قبل أن يُتِمَّ التدرُّج دورتَه الكاملة؛ فيُنحّيهم عن مواقع السلطة ولعبة الاستئساد على الغزِّيين بالتطُّهر واحتكار الوصاية تحت ظلّ السلاح.

كان أوّل ما فعلته العناصر النظامية من حماس بعد تفعيل وقف إطلاق النار، أنها أخرجت بنادقها من الخنادق لتُطوِّع بها عواقل القطاع. وقعت اشتباكاتٌ مع 4 عائلات كبرى بزَعم العمالة والتنسيق من الاحتلال، ثم تلتها عملية تعبئة لنحو 7 آلاف مقاتل، وتعيين خمسة محافظين من خلفية قسّامية، بحسب تقرير نشرته BBC قبل يومين.

حدث الاستدعاء عبر رسائل نصّية، لا يمكن ألّا يتوقَّف المُتابعُ أمام صيغتها القائلة: «نُعلن التعبئة العامة استجابة لنداء الواجب الوطنى والدينى، لتطهير غزة من الخارجين عن القانون والمتعاونين مع إسرائيل».

كأنّ الحركة لا يقنعها الموت المُتسيّد فى أرجاء القطاع، والمُسَيّج بتمركُزات صهيونية ما تزال تسيطر على أكثر من نصف المساحة الضئيلة أصلاً.
وبقدر ما فى الكلام من إشارة إلى الإنكار والرغبة فى تصفية الحسابات؛ فإنه يُعبِّر بالدرجة الأكبر عن «حلاوة الروح»، ويعتصمُ بالغباء الأُصولىّ حتى الرمق الأخير، بدلاً من تهيئة المجال لبصيص أملٍ فى المُكاشفة وتغليب التسامح على الاستبداد والثأر.

وبدلاً أيضًا من ترك هامش؛ ولو ضيِّقًا، للطيِّبين أن يُحسِنوا الظنّ فى جلّاديهم القدامى، ويفترضوا أنهم ما قامروا بهم إلَّا لأجل القضية الصافية، ولأجلها سيتخلّون راضين عن أوهام القوّة والسيادة التى سُحِقَت أصلاً مع رُكام البلد تحت مُجنزرات العدو وقذائفه الغَبيّة.

عادت لعبة توزيع الأدوار بين الحماسيين للبروز مُجدَّدًا بالمنطق القديم، بين مُفاوضين يقولون إنهم يُرحّبون بإخلاء مواقعهم المدنيّة لإدارة تكنوقراطية غير فصائلية، مع ما يترتَّب على ذلك من بقيّة مُقرَّرات خطّة ترامب، وآخرين يُدفَع بهم إلى الشاشات ليُكرِّروا الحديث المَمجوج عن قُدسيّة السلاح ومَنعته على النزع أو التجميد.

وهذا فيما تتحرَّك الدنيا من حولهم فى اتجاهٍ مُغاير تمامًا؛ أقل احتمالاته سوءًا أن تصطدم الحركة مع الإدارة الانتقالية المحمولة على كتف توافقاتٍ عربية إسلامية دولية، وأسوأها أن يُختَزَل الاتفاق من رتبته السياسية الشاملة هُدنة أمنيّة مشمولة بالطعام والشراب، وأن يتعطَّل مسارُ التعافى وإعادة الإعمار بما يُلقيه من أعباء على كاهل الضحايا، ويزيد يأسهم وتكفيرهم بالقضية والوطن، وبإمكانية الإصلاح والاستقامة من الداخل؛ ولوجه فلسطين دون غيرها من منافع خاصة وحسابات محاور وائتلافات فوق وطنية. وهو ما لن يسمح به رُعاة الاتفاق وضامنوه بالتأكيد.

واضعو الخطّة كانوا يتوقّعون محاولات المُناورة والالتفاف من دون شَكٍّ، والوسطاء يعرفون الفصائل مثل كفوف أياديهم، واختبروا معهم طويلاً ما جَنوه على القضية العادلة، ويعرفون أنه لا سبيل للخروج من الدوامة الأبدية قبل إعادة هيكلة البيئة الفلسطينية وإغناء مشروعها السياسى.

اتّفاق شرم الشيخ خطوة نحو الإنقاذ؛ لكن استكمال بقيّة حلقاته المنصوص عليها فى خطّة ترامب ضرورة لا رفاهية؛ ذلك أنها الخيار الوحيد المُتاح حاليًا، فضلاً على أنها تُوفّر أرضيّةً للاستدراك على الطوفان وإعادة تهيئة الجناح الثانى/ الغزّى للدولة المأمولة.

والأهمّ أنه يُمكن البناء عليها لإبطاء الاستيطان وإبعاد شبح ضَمّ الضفة الغربية، ما يسمحُ بالاستثمار فى «إعلان نيويورك» ومُواصلة الاشتغال على تفعيل الجبهة الدولية الواسعة وراء الفكرة، والحاضرة بأبرز عواصمها فى قمّة شرم الشيخ؛ لضمان وَصْل المُنقطع بين ضِفَّتَى الجغرافيا السليبة، بعد عقدين من الانقسام ومُراكمة الهدايا المجانية للعدو.

ولا يعنى ذلك أنَّ الدولة الفلسطينية صارت فى المتناول؛ بل العكس للأسف. وربما لم تكُن بعيدةً من أُفق التسويات الاحتمالية أكثر ممَّا هى عليه اليوم.
ولكن ما تُقدّمه المقاربة الحالية أنها تنتشلها من مجرى الطوفان الهادر، وتُرجئ مُخطّطات وَأدها لأمدٍ أبعد نسبيًّا، بما يُتيح فسحةً للتعافى وتمكين السلطة الوطنية من خوض امتحانها السياسى، بعيدًا من نزق الفصائل المُسلَّحة وتركتها الثقيلة، ومن تطوُّعها الدائم بالذرائع للمُحتلّ، أكان فى ادِّعائه بغياب الشريك سابقًا، أم بتفجير الأوضاع لاحقًا، وتعريض كُتلة الشرعيّة الهشَّة أصلاً لمخاطر التفكيك أو الإلغاء.

والحلحلة المطلوبة لا تتماشَى مع أى نَزرٍ من تمسّك حماس بإرثها الساقط، ولا بَحثها عن الظهور بين مُفردات المرحلة الانتقالية بما يزيد عثراتها أو يُصَعّب فرص الانتقال من الأساس.

ذلك أنَّ تل أبيب فى صيغتها الحالية لن تتوقَّف عن الابتزاز والتشغيب، وإلى أن يُزاح نتنياهو عن موقعه فى انتخابات مُبكِّرة أو اعتيادية؛ سيظل مطلوبًا من مجموع المُكوّنات الفلسطينية أن تنتظم فى إطار الرؤية الأمريكية، وتحتمى بالضمانات التى عملت القاهرة على تأمينها فى قمة شرم الشيخ، وألا تُغامر بلعب أى ورقة خاطئة وغير محسوبة؛ مهما بدت تافهة أو استبدت فتنة الشعبوية والشعارات باللاعبين.

انتشال غزّة من وَهدتها دون أية تركيبة مُنظَّمة مرحليًّا؛ حتى من السلطة ومنظّمة التحرير، أَولى وأهمّ من البحث عن بطولاتٍ وَهميّة تُصرَف فى عمليات غسل السمعة والأدمغة وتغييب القواعد، وترتدّ كُلفتها الباهظة على مسار التقويم والإنشاء، وإرساء ركائز صالحة لتجديد المقاومة على صيغةٍ أكثر نُضجًا وفاعليّة واستيعابًا للهزائم الخفيفة ودروسها الثِّقال.

والمَقامُ لا يتَّسع لأفعال الصغار حقًّا؛ ذلك أنَّ الفِّخاخ ما تزال تملأ الطريق إلى استنقاذ الأرض وما عليها، ولا يتوقَّف الآخرون عن حَفر المزيد. شيطان نتنياهو والصهاينة عمومًا يَكمُن فى التفاصيل، وخطّة ترامب وضعت ملامح عمومية وتركت فراغاتٍ واسعة من دون شروح أو تفاسير، ومنها قد تنفُذ الثعابين والحيَّات.
قائد القيادة المركزية الأمريكية «سنتكوم» كان فى غزّة السبت، وعاد منها لإسرائيل ثانيةً، ومهمّته مُتابعة تهيئة مركز تنسيقٍ مدنىٍّ عسكرى للرقابة والإشراف على تنفيذ الاتفاق بطاقة 200 جندى، وما قاله الأدميرال براد كوبر أنَّ الولايات المتحدة لن تضع فردًا واحدًا على الأرض فى القطاع.

كما لو أن الإرادة تتّجه إلى تلزيم المهمّة لقوّة عربية إقليمية، ووضعها فى مواجهة الفصائل، أو بين شِقَّى رَحَى الاحتلال والمقاومة. وهو ما كان الرئيس السيسى واضحًا فى تقديم التصوُّر البديل عنه سريعًا، بالدعوة خلال اتّصاله مع نظيره القبرصى إلى نشر قوات دولية، وإكساب العملية شرعيّةً قانونية من خلال مجلس الأمن الدولى.

أجمل وأنبل ما يمكن أن تفعله حماس ألّا تكون خنجرًا فى خاصرة المُسعفين؛ لأنَّ العملية كلها لا تنطلق من سياق طبيعىٍّ أصلاً، وهامش الدلال واهتبال الثغرات والمنغصات يكاد يكون معدومًا، ويُهدّد بمخاطر قد لا يسهل احتواؤها لو تبدلت الموجة الأمريكية بوسوسة نتنياهو، أو دخلت مزاجية الرئيس ترامب على خط الأحداث.

ولا أريد القول إن مصر وغيرها من قوى المنطقة تعرف مصلحة فلسطين أكثر من بعض فصائلها؛ لكنها على الأقل، ومعها بعض العواصم الشريكة، يعرفون طبيعة التوازنات الحالية وأقصى ما يمكن أن تجود به، وعلى المُخلصين الحقيقيين للقضية من الداخل أن يسمعوا ويستوعبوا، وأن يسيروا إثر البلد الأكبر فى المنطقة، الذى فرض رؤيته منذ اللحظة الأُولى برغم الإغراءات والمُهدِّدات، وما خذل الفلسطينيين جميعًا فى أىِّ مَحكٍّ أو اختبار.

ليس عابرًا أن يمكث ترامب ثلاث ساعات أو أزيد قليلا فى تل أبيب، ثم يطير إلى شرم الشيخ لرئاسة القمة. وربما ما حط فى إسرائيل أصلا إلا ليحرم نتنياهو من تجيير إيجابيات الاتفاق لصالحه، ويقيم عليه الحجة أمام الكنيست والشارع العبرى بالتبعية.

والدليل أنه لن يعقد أية لقاءات ثنائية معه أو مع غيره؛ بحسب أوثق التفاصيل عن برنامج الزيارة وأنا أكتب صباح الأحد، مع عدم إغفال الرمزية الضرورية فى عدم تفويت الدولة الحليفة للمرة الثانية، بعد جولته الخليجية التى لم يُلحقها بعاصمة الاحتلال كما فعل فى ولايته الأولى. وليس القصد هنا التلميح بتردى علاقته بإسرائيل وحكومتها؛ إنما أنه يفرض عليهم رؤية لم يكونوا يرحبون بها، ويُمرر الصفقة من أمام أنوفهم، ولا يريد لائتلاف الحكم أن يتربح منها حتى على مستوى امتصاص الغضب الشعبى وترميم حاضنته الانتخابية.

بات مفروغا تماما من بعض النقاط الأساسية؛ وأهمها أنه لا سبيل للتعافى وإعادة الإعمار ووضع القضية على مسارها الصحيح من دون تغيير تركيبة الحكم. الشق المعجّل يخص حماس فى القطاع، ويجب ألا تتأخر عملية إصلاح وهيكلة السلطة فى رام الله. والقاهرة ستضطلع بدور توفيقى فى تلك النقطة؛ إنما مع الوعى بأن هامش الأزمة لا يحتمل عشرات اللقاءات بألاعيبها المتبدلة كما يحدث منذ الانقلاب فى العام 2007.

المنظمة فى احتياج ماس لتجديد شرعيتها الوطنية، واحتواء النافرين عن خيمتها، وموجة الاعترافات الدولية التى يروغ من زحامها معتنقو الطوفان محمولة على إعلان نيويورك، وهو بدوره يُعلق الحل على تنحية حماس ونزع سلاحها، فكأن كل الطرق تقود إلى نقطة واحدة: جسم سياسى روافعه السلطة، وتذوب فيه حماس وشقيقاتها الأصوليات أو لا تذوب؛ إنما لا مجال للاعتراض والمناكفة والتهرب من الدواء المر.

والمؤكد أن الاتفاق يحتاج للتحصين كما قال الرئيس السيسى، بقوات دولية وشرعية من مجلس الأمن، وبالتوازى مع ذلك عبر توقيعه فى نصوص واضحة ومتدرجة، وفق خطوات محددة بآجال زمنية، وآليات للرقابة والمساءلة عن الإبطاء أو الانتهاكات.

والأهم من جهة الفصائل وداعميها أن يتوقفوا عن اختراع الكذبة وتصديقها، وادعاء نصر لا يراه سواهم، ثم تأسيس تفكير رغائبى عليه يصوّر لهم إمكانية الإفلات من الاستحقاقات؛ لا سيما أنهم بعد خسران ورقة الأسرى لن يعود لديهم ما يتلطّون وراءه، وستكون كل مراوغة أقرب إلى التصويب على الذات.

ليس هيّنا أن تُعيد واشنطن صياغة رؤيتها للمسألة من الجذور، ويحل ترامب فى شرم الشيخ على منصة مع الرئيس السيسى، ليقول تصريحا أو بالإقرار إنه مجال للتهجير وتصفية القضية، وفى ملأ دولى أحسنت مصر تجميعه بالتوافق مع الفريق الأمريكى، ليضم باقة من أبرز القوى العربية والإسلامية بما فيها رعاة حماس المباشرين، وعدد من أوثق حلفاء إسرائيل الذين تبدلت مواقفهم أو ما زالوا على دعمها التوثيق.

ليكون الاتفاق تعبيرا عن تلاقى إرادات تلك القوى كلها، ومشمولا بضمانتهم التى يتعذر كسرها لاحقا، لا فى ملف غزة حصرا، بل على صعيد فكرة كل الدولتين التى ألمحت لها خطة ترامب، ويحل داعموها المباشرون بين شهود التوقيع على مرحلتها الأولى فى اتفاق شرم الشيخ.

إنّ ما انتُزع بالصلابة المصرية ودبلوماسيَّتها النشطة لم يَكُن مُتَخيَّلاً قبل شهور قليلة، وربما وطّد البعض نفوسهم على مآلات أسوأ. واليوم تتوفر فسحة لفلسطين أن تُداوى جراحها، وتعرف العدو من الحبيب، وتعيد إطلاق نضالها الطويل من بين الرماد؛ شريطة ألا يظل فريق منهم على إيمانه بأن الموت مطلوب لذاته، وأن المقاومة لا قيمة لها إن لم تكن غارقة فى الدم أو مطمورة تحت الركام.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب