أحمد إبراهيم الشريف

السياسة الأمينة بأخبار من سكن المدينة.. السيرة كما ترويها زينب أبو المجد

السبت، 11 أكتوبر 2025 10:51 ص


"كان الوقت منتصف الشتاء القارص لعام 881 هـ، حينما هزت المدينة الأنباء الصاعقة، سيتم هدم الحجرة الشريفة، وسينكشف من داخلها قبر النبي صلى الله عليه وسلم، بعد ثمان مئة عام كاملة على غلقها المحكم بالجدران الصلدة، التي لم ينفذ منها أحد قط قبل هذا اليوم العصيب".. انتهيت من كتاب "السياسة الأمينة بأخبار من سكن المدينة" للدكتورة زينب أبو المجد، والصادر عن دار المرايا، وكان أول ما انتبهت إليه في الكتاب قدر الجهد الذي بذلته الدكتورة زينب، وكيف تقصت المصادر وبحثت فيها واختارت منها وشكلت من كل ما وجدته لوحة معبرة عن مدينة الرسول الكريم، عليه الصلاة والسلام، بكل ما جرى فيها.

والكتاب لا يتعامل مع المدينة المنورة بوصفها مجرد مكان انطلقت منه الدولة الناشئة التي كبرت حتى صارت إمبراطورية، بل عملت زينب أبو المجد على بث الحياة في هذا المكان بوصفه موطنًا لبشر يعيشون فيه، إنها هنا تعيد سرد سيرة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وتمنح أصحابه من الرجال والنساء مساحة مستحقة نستطيع من خلالها أن نقترب منهم، من بشريتهم ومن أحزانهم وأفراحهم ومن خوفهم وثقتهم، ومن محبتهم للنبي الكريم.
أما المرتكز الأساسي  في الكتاب فهو  منح المرأة مساحة كبيرة، وهي مساحة تستحقها بالفعل،  بما يؤكد أن المرأة في عهد النبي الكريم كانت فاعلة وصاحبة رأي ومشورة  ومتخذة للقرارات وحاسمة ولها دور أساسي في بناء الدولة، يحدث ذلك من بداية الكتاب حيث تقول زينب أبو المجد في مدخله "من خلال العودة لكتب التراث القديمة ودخول رحلة طويلة فيها، يروى هذا الكتاب تاريخ مدينة النبي، ومن سكنها معه من رجال ونساء قاموا ببناء دولة المسلمين الأولى، ويتتبع الكتاب تاريخ المدينة من نقطة البداية لنشأة تلك الدولة، العام الأول للهجرة، وينظر في قصص بيوتها وأحيائها وأهلها، ثم يتتبع مآلاتهم لعقود بعد وفاة رسول الله ﷺ، ويحاول الكتاب إعادة قص التاريخ السياسي للمدينة، عبر مرويات النساء اللاتي اشتهرن أو لم يشتهر شأنهن فيها، من خلال مرويات أم المؤمنين عائشة، وأمهات المؤمنين الأخريات وعدد لا يحصى من سيدات قمن ببناء دولة رسول الله ﷺ معه، أو سعين بلا نجاح لهدمها"، وبالفعل فإن هذه المرويات  تقدم السيرة كاملة وتنقلنا إلى قلب المدينة حيث النبي عليه السلام في مسجده بينما الحجرات تحيط به، وبيوت المؤمنين وغيرهم تمثل دائرة حوله.

جاء الكتاب في 19 فصلًا حافلًا بالروايات الموثقة، منها ما يتعلق بأحداث كبيرة مثل الهجرة الشريفة  والغزوات وفتح مكة وموت النبي عليه السلام، ومنها ما يتعلق بزواج وطلاق ومواقف إنسانية كاشفة عن الحالة التي كانت تجري في  المدينة، وجميع الأحداث تؤكد مستوى التفاعل الذي كانت عليه مدينة رسول الله.
لم يكن دور الدكتورة زينب أبو المجد مقتصرًا على الاختيار من المراجع والمصادر بما يتناسب مع وجهة نظرها وبما يؤكد سرديتها، بل كان لها صوتها الواضح وتعليقاتها المضيئة الكاشفة وقدرتها على منح المساحة للمشاعر الإنسانية كي تظهر، إضافة إلى خط سردي جعل لكل ما يقال سياق، لذا تحولت الشخصيات داخل الكتاب إلى صور مكتملة لها ماضٍ وحاضر ومستقبل، ولها رؤية في كل ما يجري، والأهم لها شعور بالتغيرات التي جرت حولها، إنها شخصيات بشرية تمامًا مدركة لحجم الحدث الذي يحيط بها، وعارفة للدور الواقع عليها، وسوف نواجه شخصيات معروفة لنا مثل الصحابة الكبار وسنتعرف على قصص لأشخاص لا نعرف عنهم سوى القليل مثل زينب ابنة النبي محمد، وسنحيط بشخصيات ربما نعرفها للمرة الأولى مثل  قتيلة بنت قيس وأم قرفة.


يستمر الكتاب في سرديته بعد وفاة النبي الكريم، ويعطي مساحة كبرى لزمن الفتنة، ومقتل الخليفة الثالث سيدنا عثمان بن عفان، وما جري في من أحداث تدفع الدمع لعيوننا، فلا يمكن أبدا أن نتصور ما جرى  لصاحب النبي، وكيف كان مقتله على يد المختلفين معه، وما ترتب عن ذلك من مواقع دامية، ولم تسلم المدينة بعد ذلك فقد حاصرها جيش يزيد بن معاوية ثم استباحها في موقعة "الحرة" وهو حدث دامٍ يدل على أن المدينة المنورة ظلت لسنوات طويلة موقع الأحداث المهمة في التاريخ الإسلامي.


أحداث كثيرة أوردها الكتاب، الذي انتهي من حيث بدأ بإعادة بناء حجرة عائشة وفيها القبور الثلاثة المباركة وإعلاقها للأبد، فلم تر الضوء مرة أخرى منذ قرابة 800 سنة.
إن كتاب السياسة الأمينة بأخبار من سكن المدينة  للدكتورة زينب أبو المجد، قدم خدمة جليلة للكتابة التاريخية، فقد أعاد كتابة السيرة من وجهة نظر حديثة علمية معتمدًا زاوية جديدة هي زاوية المكان، مما يحعله يقدم لنا تراثًا قديمًا في رؤية جديدة، وهكذا يقرأ التراث.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب