"هل لديك أقوال أخرى؟" سؤال تقليدي يُختتم به التحقيق مع المتهمين، كما لو كان أمرًا روتينيًا يُلقى في آخر التحقيقات القانونية، ويُختتم بجواب واحد متوقع: "لا".
لكن ، على مدار سنوات من العمل الصحفي في مجال الحوادث، وجدتُ أن هذا السؤال يحمل وراءه الكثير مما لا يُقال، وربما كان الجواب "لا" هو مجرد حجاب يخفى وراءه عوالم لم نلتقِ بها بعد عن شخصية هؤلاء المتهمين وتاريخهم بعيدا عن ماهية القضية.
على مدار 17 عامًا في صحافة الحوادث، كنت أقف في خضم تلك اللحظات المفعمة بالألم والتوتر، حيث أحاور المتهمين، أو ربما كانوا هم من يحدثوني أكثر مما أحدثهم، كنت أتسابق في توثيق قصصهم بعيدًا عن المتن القانوني، لأغوص في الأعماق النفسية للعقل البشري الذي أودعته الجريمة في زاوية مظلمة.
تلك الزاوية التي تبرز في النهاية ليس فقط كرغبة في الانتقام أو الهروب، بل كمزيج من الظروف والتجارب التي صنعتهم كما هم اليوم، حينما كان المتهمون يعودون بظهورهم إلى الوراء، كان كل شيء يتغير في عيونهم، كأنهم يعبرون عبر الزمن، يستعرضون ماضٍ لا يمكن مسحه، ولا العودة عنه.
كنت أسمع حكاياتهم وأدقق في التفاصيل، أبحث عن الدوافع، وأسأل: هل كانت الجريمة حقًا هي الحل؟ أم أن السنين والشهور التي مرت كفيلة بأن تعلمهم أن ما أخذوه بالقوة لا يمكن أن يُسترد بالندم؟ ولم يكن الندم دائمًا مجرد كلمة، بل كان دمعة تضيء العين وتكشف عن ضعفٍ غير متوقع.
كانت تتلاشى تلك الصورة القوية التي رسمها لهم المجتمع، وتظهر صورة إنسان خائف، ربما لا يرى الحياة بعد الآن إلا من خلف قضبان الزمن.
هناك، خلف الأسوار، تبدأ الدروس الكبرى. حيث يتضح لهم أن الجريمة لم تمنحهم شيئًا سوى السراب، وأن الحياة هناك في الداخل تكبر صغرًا، وكأنهم يكتشفون متأخرًا أن الدنيا لا تساوي شيئًا.
كنت أرى في عيونهم حديثًا صامتًا، تتحدث فيه ملامح الندم التي لا تُترجمها الكلمات، كانوا يتمنون لو عاد بهم الزمن، لو أن الحياة كانت مسارًا آخر، لو أنهم لم يتخذوا تلك الخطوة، التي بدت في البداية بريقًا من الأمل، لتتحول إلى ثقلٍ يُحطم الروح.
وفي تلك اللحظات، كان لسان حالهم يقول: "ليتني لم أفعل كذا، ليتني كنت نسيا منسيًا"، لا شيء يضيف سوى الوحدة، ولا شيء ينقض سوى الوقت الذي لا يعود، لكنهم أيضًا في خضم هذه الندم، كانوا يتعلمون دروسًا أخرى: أن الخير، مهما تأخر، سيظل ينتصر في النهاية على الشر، وأن العدل هو الذي يظل يُزهر مهما سادت الظلال.
وهكذا، كان في قلب كل متهم أقوالٌ أخرى غير التي يعلنها في التحقيقات، أقوال قد لا تُقال أبدًا، لكن يبقى لها مكان في أعماقنا، تنبض بالحقيقة، وتحتفظ بالندم الذي لا يغادر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة