أكتبُ أمسِ عن حدثٍ نترقَّبه اليومَ. يعودُ نوَّابُ البرلمان اللبنانى إلى ما انقطعوا عنه قبل تسعة عشر شهرًا، عندما يلتقون على مهمَّة انتخاب رئيسٍ جديد للبلاد، بمُوجَب دعوة نبيه برّى قبل ستَّة أسابيع، وقد استجاب فيها لوعدٍ سابقٍ بإنجاز الاستحقاق المُؤجَّل بمُجرَّد وقف إطلاق النار مع إسرائيل.
تعودُ الأزمةُ لأكثر من عامين سابقين. انتهت ولايةُ الرئيس ميشال عون فى آخر أكتوبر 2022، وأخفقت القوى السياسية فى إحلال بديلٍ عنه بمُقتضى المُهلة الدستوريَّة البادئة من الشهر السابق على رحيله، وتعقَّد الأمرُ بأنْ كان آخر قرارات ساكن قصر بعبدا السابق إقالة حكومة نجيب ميقاتى، وتحوُّلها من يومِها إلى سُلطةٍ مُؤقَّتة لتصريف الأعمال.
الرئاسةُ من حظِّ الموارنة، والقرار فى أيدى الشيعة؛ وليست تجربةَ لبنان الأُولى مع الشغور على أيَّة حال. جاء ميشال سليمان فى 2008 على أنقاض سنةٍ فارغة، سبقها التمديدُ لإميل لحود ثلاثَ سنوات، وتلاه تسليمُ العُهدة لـ»عون» بعد سنتين كاملتين من غير رئيس. كانت الوصايةُ السوريَّةُ تُحدِّدُ جدولَ الرئاسة العتيدة، ومنذ اغتيال رفيق الحريرى انتقل القرارُ إلى حسن نصر الله فى ضاحية بيروت الجنوبية.
استهلك حزبُ الله الجلسات الافتتاحيّة هذه المرَّة فى التصويت بالورقة البيضاء، ثمَّ تطيير النِّصاب.. لم يَكُن المَوارنةُ مُتَّفقين فيما بينهم، وإلى الآن؛ لكنَّ الشيعةَ لم يُقدّموا بديلاً مُقنعًا، وأرجأوا الإعلان عن سليمان فرنجيَّة مُرشَّحًا من جانبهم لوقتٍ طويل. وحتى ما قبل اندلاع المُواجهة الأخيرة مع الصهاينة، حافَظوا على سرديّةٍ واحدة لا تتبدَّل: نريدُ رئيسًا لا يطعنُ المُقاومةَ فى الظهر.
يقفُ لبنانُ اليومَ على أنقاض جنوبه وضاحية عاصمته، والمُقاومة لا ظهرَ له لتُطعَنَ منه، ولا بطنَ لتُضرَب عليها. لم يُسَجِّل سلاحُ الحزب بطولةً حقيقية فى الميدان، وسقطت دعاياتُ حماية البلد بعدما أوردَه مواردَ التهلكة، ولم تَعُد ثلاثيَّةُ «جيش شعب مقاومة» صالحةً للاستهلاك فى الشارع أو بين النُّخبة السياسية.
أدار الرئيس برّى اثنتى عشرة جلسةً فى أقل من عشرة أشهر، وصَمَتَ لقُرابة ضعف المُدَّة. الرجل الذى كان يحكمُ البيئة الشيعيَّةَ قبل أربعة عقود، صار رهينةً لدى سماحة السيد فى مخبئه العميق، وما بين وطنيته الصافية وتبعيَّة شريكه المُتغَلِّب للجمهورية الإسلامية، انقسمت العائلةُ الواحدة، وتبدَّدت فيها الخياراتُ وفُرَصُ التوافق.
كان مُؤسِفًا أن تعود رمزيَّةُ قائد حركة أمل جزئيًّا على أشلاءٍ ودم. تلقّى الحزبُ ضرباتٍ قاسيةً فى مُغامرته غير المحسوبة على إيقاع «طوفان الأقصى»، تضرَّرت مرافقُه وطارت رؤوسُ قياداته التاريخية، واضطُرَّ الوريثُ المأزوم نعيم قاسم لأن يُفوِّض الأخ الأكبر فى المفاوضة والقرار، وأن يضعَ فى يده عَهدَ الطائفة بعدما تأكَّد له أنها ضيَّعَتْ نفسَها، وضُيِّعَتْ من الحليف الإيرانىِّ أيضًا.
لم يَستقِلّ الحزبُ تمامًا عن الحَوزة المُقدَّسة، وما يزال يتطلَّع لطهران بأكثر مِمَّا تعنيه بيروت؛ لكنه مُضطرّ إلى النزول عن الشجرة طَمعًا فى النجاة الظرفيّة، وسعيًا إلى سرقة الوقت على أمل التعافى وامتلاك زمام الأمور لاحقًا. وهكذا أثمرت الحربُ توحيدًا ظاهريًّا للقيادة، وأبقت الانقسامات العميقةَ مَطمورةً تحت الأنقاض، وفيما وراء الإملاءات «الخامنئيَّة» الظاهرة والخفيّة.
الجلسةُ البرلمانية الثالثة عشرة مشمولةٌ بوعدٍ رئاسىٍّ قاطع، تعهَّد فيه «برّى» بألَّا يفضّها قبل أن يتصاعد الدخانُ الأبيض فى سماء ساحة النجمة، ويتوصَّل الأصدقاءُ والفرقاء، بالرضا أو الغَصب، إلى رئيس يُحمّلونه المسؤولية؛ لأنه لا بديلَ عن وجوده الآن، ولا أمل فى التعافى إن لم يُعقَد اللواءُ لوافدٍ جديدٍ على مقرّ الحُكم.
لهذا؛ ربما استعجلَ مَوعِدَها بمجرَّد إبرام اتفاق التهدئة مع تل أبيب، واختار لها أن تستبِقَ دخول ترامب إلى البيت الأبيض بنحو عشرة أيام، وانتهاء الهُدنة المُؤقَّتة فى جنوبىِّ الليطانى بأقل من ثلاثة أسابيع، ودعا إليها طائفةً عريضة من السفراء والمُوفَدين الدوليِّين؛ كأنه يُبرِّئ ذِمّته من عبء التعطيل سابقًا، ويُقيِمُ حجّة الإحراج والتَّعرِية على شركاء القاعة فى الجولة الحالية.
وعلى أهمية إنجاز الاستحقاق، وتعميد الرئيس الجديد انصياعًا لمُقتضيات المرحلة وشروطها الضاغطة؛ فلعلَّها للأسف ليست الخطوةَ الحاسمة فى إنهاء حال الانقسام القائمة، أو ترميم التصدُّعات السياسية التى لوّثت نهرَ العلاقة بين الطوائف اللبنانية، وعبثت بالطائف وميثاقيَّة العَيش المُشترك، وأعادت تركيب الدولة على صورةٍ مُختلّة بالكامل، ولا تُعبِّر عن التوازنات الحرجة داخليًّا، كما لا تُشبِه أىَّ شىءٍ من فلسفة الدُّوَل أصلاً.
لدى لبنان تاريخٌ من تطويع الرؤساء غَصبًا أو بالتراضى. اغتيل بشير الجميّل ورينيه معوض لأسبابٍ شتَّى، ما ينطبقُ على ثلاثةِ رؤساء حكوماتٍ من رياض الصلح فى 1951 حتى رفيق الحريرى فى 2005. ومن واقع التجربة؛ غُيِّبَتْ الديمقراطيَّةُ لصالح اتفاقات الغُرَف المُغلقة، واقتنع الجميعُ مع المُمارسة بأنّه لا سبيل لإنتاج «رئيس تَحَدٍّ» لأحدٍ، كما أنه لا مجالَ للمصالح الوطنية إنْ تعارَضَتْ مع حسابات الطوائف.
ومع اختلال التوازنات البَينيَّة؛ اتَّخذ التحدِّى معنىً واحدًا لا شريكً له، كان يدورُ فى فلك دمشق قديمًا، وصار أسيرًا لهَوَى الحزب لاحقًا. وإذا كانت النجاةُ الأبديّةُ محصورةً بالضرورة فى مَأسَسة العملية السياسية، وتخليصها من حسابات المحاور والأحلاف؛ فإنَّ الوصول لتلك المُعادلة كان صعبًا فى الماضى، ويبدو أنه سيكون مُستحيلاً فيما هو آتٍ.
يتعذَّرُ إكراه المَوَارنة على تمثيلٍ لا ينبع من داخلهم، وهم مُنقسمون على ذاوتِهم. وبالمثل؛ فالحزبُ الذى كان شرسًا فى زمن القوَّة، سيصير أكثرَ شراسةً فى أزمنة الضعف؛ سَعيًا لإنكار ما أَلَمّ به من خسائر فادحة، وتمرُّدًا على الإقرار بهزيمته فى ميدان الحرب، وخطأ خياراته فى ساحة السياسة. والرئيس برّى؛ مُقتنعًا أو مُتحايلاً، يحاولُ تمريرَ الطبيعىّ من قناة الاستثناء، وعليه التزامٌ بإرضاء ثلاثة أطرافٍ مُتعارضةٍ، فى مسألةٍ لم تَعرف هذا المستوى التوافُقىِّ من قبل، وفى أشدِّ حالات البلد هُدوءًا؛ فماذا عن أزمنة الفوضى وأيّامِها الحارقة؟!
الولايةُ المُقبلة ستكون انتقاليَّةً فى الغالب؛ لا على معنى أنَّ لبنان سيَخرجُ من طائفيَّتِه مرَّةً وإلى الأبد، ولكن من مُنطَلق أنها تُدارُ وفقَ توازناتٍ ما عادت قائمةً، ولا سبيلَ لإنتاجها مُجدَّدًا فى أيّة لحظةٍ مُقبلة. الأطرافُ الوازنةُ عاجزون عن التوافق أو الحَسْم، واللمسةُ الخارجية تُرجِّح تصوُّرًا على آخر، والرئيسُ الجديد لن يكون مُحمَّلاً بديونٍ لأىِّ طرف.
لعَقدين سابقين؛ كان المشهدُ على صورةٍ جامدة: رئيس مارونى بعمامةٍ شِيعيَّة. صحيحٌ أنَّ تلك الهيئة لم تَعُد مقبولةً فى المستقبل القريب؛ لكنَّ البديل المُراد من بعض الأطياف لا حظَّ له أيضًا، وهو أن يكون العهدُ خصيمًا للحزب بالكُليّة، وأنْ يُواصِلَ مهمَّةَ إلصاق ظهرِه بالجدار، وترجمة ما أنتجه القتالُ فيما يُقَدَّر أن تستهلِكَه السياسة.
من المُستحيل على عاقلٍ مُنصفٍ إنكار أنَّ حزبَ الله سببُ النكبات اللبنانية المُتتالية، على الأقل منذ استيلائه الفردىِّ على رصيد الانسحاب الإسرائيلى من طرفٍ واحد فى العام 2000، ثمَّ افتتاحه لحربِ يوليو 2006 بمُغامرةٍ لا تخلو من النَّزق والغباوة، وصَرْف ما تولَّدَ عنها من فائضِ قوّةٍ تجاه الداخل، أكان بتضييع دم الحريرى، أم باقتحام العاصمة وفَرْض الثُّلث المُعَطِّل، وتحويل لبنان من دولةٍ كاملة الأهلية، إلى رَديفٍ للميليشيا، وتابعٍ يستظلُّ برَايتِها المصبوغة بألوانٍ «فوق وطنية».
يصحُّ التوقُّف طويلاً أمام ما جناه على البلد بالغطرسة والاحتيال، وأمام استئساده على الغَضبة الشعبية فى 2019، وبَصمته غير الخَفيّة فى انفجار المرفأ فى العام التالى، ومسار الفشل الذى أفضى إلى الانقطاع عن الوفاء بالتزاماتِ الديون، وتآكل الناتج وأموال الناس، وتعليق كثير من أدوار الحكومة لصالح سُلطةٍ تُقرِّرُ ولا تُسأَل. هذا وأكثر منه فى قائمة المآخذ قطعًا؛ لكنَّ الحزبَ ما يزال شريكًا فاعلاً، وتَصعُب إزاحته. وإنْ كَسرَته إسرائيل؛ فليس فى مَقدور مُنافسيه المحَلِّيِّين أن يُلَملِموا شظاياه، ولا أنْ يَبرأوا من دائه المُتوطِّن فى القريب العاجل.
الانتخابُ التزامٌ لم يَعُد يَقبلُ الإرجاء؛ إنما يتوجَّبُ أن تسبِقَه أو تتزامنَ معه مُكاشفةٌ كاملة من كلِّ التيَّارات، واتّفاقٌ جديد على قواعد مُعلَنَة لإدارة المجال العام، وخروجٌ مُتدرّج من ميراث الماضى الثقيل، دون أن يُصطنَع بصِداميَّةٍ، ولا أن يحمِلَ لأحدِ الفُرقاء إشارةً على النفى والاستبعاد، أو التلمُّظ استعدادًا لمَضغِ حضوره، وابتلاع ما كان له من نصيبٍ على الطاولة.
حتى ساعاتٍ قبل الجلسة، تمدَّدت قائمةُ المُرشَّحين، وما زالت: سليمان فرنجية لم يُحذَف بقرارٍ صريح، وإلى جواره قائدُ الجيش العماد جوزيف عون، ومُرشَّح الجولة الماضية جهاد أزعور، ثمَّ إلياس البيسرى وإبراهيم كنعان وجورج خورى وسمير عساف ونعمة أفرام وفريد الخازن وزياد بارود، والحَبلُ على الجرَّار؛ بل يُطرَح قائدُ حزب القوات سمير جعجع، ولولا العقبات والعقوبات لصَدَّر جبران باسيل نفسَه فى زحام الأسماء.
يختلفُ الحزب مع أغلب القوى المارونية، وفى مُقدَّمها حُلفاؤه السابقون فى التيَّار الوطنى الحُرِّ؛ لكنهم يتّفقون على تضييع الخيارات التوافُقيَّة، ومُكاسرة الآخرين بالعناوين التى لا تُحقِّقُ مصلحةَ طرفٍ، بقَدر ما تغيظ الآخر. وفى مناخٍ كهذا؛ فلن يكون الوصولُ إلى البطاقة الرابحة نهايةً لمشوار المُناكفة والتشغيب؛ إذ تتبقَّى فُرَصٌ عديدة لتعطيل المسيرة، عبر البرلمان أو بالاستقواء عليه خارج الدستور والقانون.
يحتاجُ الرئيس الجديد للحماية قبل أن يطأ القصر، وقبل أن تُعرَف هُويّته أصلاً. لا أحدَ يدخل الجلسةَ بمرشّح اقتناع، وسيكون التصويت بمنطق أهون الأضرار. والفائزُ بهذا لن يجد حمايةً من أحد، وليس لديه ظهيرٌ سياسىٌّ يُغطّيه ويُعزّز صلابتَه المطلوبة لمهمَّة الإنقاذ. ثمَّة ميزةٌ فى أنه لن يكون تابعًا؛ لكنَّ العيب كلّه فى أنه سيظل عاريًا، ولا بواكى عليه تقريبًا.
اللجنةُ الخُماسيَّة تُقارب الملفَّ منذ افتتاح المُنازعة، ولم تُبدِ انحيازًا لطرفٍ على الآخر. ربما تغيّرت الصورةُ جُزئيًّا فى الأمتار الأخيرة، مع إبداء الولايات المتحدة مَيلاً نسبيًّا ناحية قائد الجيش، وارتياح فرنسا والسعودية للخيار، بينما تُرجِّج قطر ورقةَ اللواء البيسرى، وتُحافظ مصر وحدَها على حيادِها؛ تغليبًا للتوافُق على ما عداه من بدائل كُلّها مزعجة.
على وعد رئيس البرلمان؛ فلن تنفَضَّ الجولةُ من دون رئيس. ستكون جلسةً من دوراتٍ مُتتالية، وإمَّا أنْ يتلاقى الجميعُ على مُرشَّحٍ أو يفوز صاحب الأغلبية. لكنَّ المُشكلةَ أنَّ المُراوغةَ لا حدود لها أو أسقُف، وما يَعزُّ على المُختلفين فى القاعة قد ينتقلُ إلى الشارع. الدولة ما تزال مُغيّبةً، والسلاح صاخبٌ ولو بدا منه العكس، والرئيسُ سيكون الأضعفَ تقريبًا بين الجميع.
يُوضَعُ الرئيس الجديد؛ أيا كانت هُويّته، أمام امتحانٍ شديد الصعوبة. أوّلاً بأنه يُولَدُ غَصبًا من فوق رؤوس الجميع، ثم يُسلّمونه تركةً خَرِبة، ويطلبون منه المُستحيلَ تقريبًا. سيُعلِّقُ عليه العونيِّون أعباء فشلهم السياسى، ويُحمّلُه الحزبُ فاتورة مُغامراته الحربيَّة غير المحسوبة، ويتطلَّعُ إليه عامَّةُ اللبنانيِّين؛ راجين إخراجَهم من حال التيه والضياع المفروضة عليهم بإملاءاتٍ نخبوية غاشمة، عنوانها الزبائنيَّة والاستتباع والتنفيعات الشخصية.
والحال؛ أنَّ الاعتراضات المُزجاة من كلِّ طرفٍ بحقِّ الآخر وليدةُ انفعالٍ لَحظِىٍّ، لا مواقفَ مبدئيَّةً راسخة، كما أنَّ اعتراضاتهم جميعًا على قائمة المرشحين تفوح بالهوى والحسابات الضيِّقة. التيَّار الوطنى يدورُ فى فلك الحزب منذ اتفاق مار مخايل، والقوَّات على مِودّةٍ مع الكُتلة الشيعية من جهة الرئيس برّى؛ ولو تراشَقوا بالتصريحات أحيانًا، وكلاهما مَرَّر خيارات عديدة لنصر الله فى السابق، بالرضا أو الصمت، والقَيد الدستورىُّ على قائد الجيش كُسِرَ لفائدة ميشال سليمان عندما تلاقَتْ المصالح.
لا أحدَ من القوى الفاعلة يقول كلامًا منطقيًّا، أو ينشغل بصورته أمام حاضنته والجمهور العريض. فإمَّا أنه يَطمئنُّ للمُوالاة على مبدأ السمع والطاعة كما فى حالة الحزب، أو يُضحّى بنوابه ويُفتِّتُ كُتلتَه بيَدَيه مثلما فعل «جبران» فى التيَّار. وإزاء تشويه العملية السياسية؛ بحيث تُعَرَّف مُمارساتُها اليومية الاعتيادية بالنصر والهزيمة الدائمين؛ فإنَّ البعضَ لا يستنكفون المُكابرةً طمعًا فى انتصار زائف، ولو انهزَمَ لبنانُ، أو جرحَتْه السكاكينُ المُصطرعة فى أحشاء زُمرته الحاكمة.
نُزِعَتْ وثيقةُ الطائف من وظيفتها الأصليَّة؛ لتلعبَ دورًا لم تُكتَبْ له. وبقَدر ما يتعذَّرُ تطبيقُها على الوجه السليم، ليس مُمكنًا أيضًا أن تُفتَح مُجدَّدًا للنظر والتعديل. والحقَّ أنها ليست العُقدةَ أصلاً؛ بل النُّخبة التى تضع الظَّرفَ فوق النص، ولا فرقَ فيها بين مَنْ يَحتمى بمُكتسبات المُحاصَصة بديلاً عن المَشروعيَّة الشعبيَّة والصِّفَة التمثيليّة الواسعة، ومَنْ يتسلَّط عليها بالبنادق، أو يُجدِّد الحديث بين وقتٍ وآخر عن «العَدّ والحصر»، وإعادة النظر فى الأوزان بمُوجَب التغيُّرات الديموغرافية التى أنتجتها معارك التهجير والأرحام المُتفجّرة.
الرئيسُ مسألةٌ هامشيَّةٌ للغاية، مع كامل التقدير لكلِّ مَنْ يرون خلافَ ما أقول. والقَصدُ ليس أنه يُمكِنُ التعويض عنه بالفراغ؛ إنما أنّه رُتبةٌ مُتدنّيةٌ فى سلَّم الصلاحيات، ولو منحوه المقعد الأعلى ونصّبوه على رأس الطاولة. العماد لحود ما منعَ حرب تموز، ولا أىَّ وجهٍ فى بعبدا كان سيمنع لعبة «الإسناد والمشاغلة» بعد الطوفان، وقرار التأجيج والتهدئة ما يزال حتى اللحظة بين إسرائيل والحزب. وأهمُّ من انتزاع بطاقة الرئاسة من الأخير، أن يُؤخَذَ عليه تَعهّدٌ بأنْ يعودَ جزءًا من الكُلّ، لا نتوءًا سرطانيًّا فى جسم الدولة، ومُهيمِنًا عليها أيضًا.
رئيسٌ مع حكومة مُعطَّلةٍ بالتنازُع والتواقيع المتضاربة، كأنه والعدم سواء. والرئيس من دون جيش قادر، أو تحت رحمة ميليشيا أقدر منه، يصير مُوظَّفًا رفيعًا يُنتَدَب حصرًا لمهمَّة الخطابة والمُقابلات الرسميّة، ويتطلَّعُ فى قرارته صوبَ الضاحية وغيرها من المعاقل، أو يستقلُّ فيها كيفما يشاء، ثمَّ يُلقيها بيدِه فى سلَّة المهملات.
وعلى هذا المعنى؛ فالانتخابات فى حقيقتها خارج قاعة البرلمان، بل خارج الدستور والقانون ووثيقة الطائف نفسها. ولا يعنى هذا إبقاء القصر شاغرًا، أو إرجاء الوصول إلى الرئيس العتيد لوقتٍ أطول؛ إنما أن يَعرِفَ السائرون فى أىِّ خيارٍ أنَّه لا حلَّ من دون أن يتراجعوا عن سابق مواقفهم؛ ولعلَّ هذا ما يجعلُ أُولَى مهامّ الفائز وأَوْلَاها، الدعوة إلى حوارٍ وطنىٍّ مُوسَّعٍ يُعيدُ ضبطَ الأُطر وترسيم الحدود، ويُلزمُ كلَّ تيَّارٍ طائرَه فى عُنقه، ويُحدِّد له نطاقَ الحركة بما يُحقِّقُ التوازن المفقود، ويحترمُ الشرعية، ولا يجور على الدولة أوَّلاً وأخيرًا.
ينظرُ الحزب مثلاً لاتفاق وقف الحرب مع إسرائيل على أنه محصورٌ فى الجنوب، ولا ولايةَ للجيش على سلاحه فى الشمال، ويتحدَّث عن «الاستراتيجية الدفاعية» بنكهةِ الثلاثيَّة الشهيرة الممجوجة، وبما يعنى تثبيته بين باقة الأدوات الرسمية، أو شرعنته بغطاء الدولة، والآخرون جميعا يرون العكس تمامًا، ولا هامش للاتفاق بينهما أو تقريب الرُّؤى.
وإذ تستقوى الضاحيةُ بإيران؛ ولو تقطَّعت خطوطُ الربط معها مُؤقّتًا بعد سقوط النظام السورى؛ فإنَّ خُصومَه يُواجهون مُعضلةً مُعقَّدةً وشديدة التركيب، بين أن يتصدّوا له بصدورهم العارية وشُبهات قادتهم، وأن يَستقووا عليه بخارجٍ بديل، وهو ما سيُستَثمَرُ دَعائيًّا على عادة محور المُمانَعة، ويُطيلُ الأزمةَ بدلاً من إنهائها. ولا يعنى هذا أنَّ الحلولَ غائبةٌ تمامًا، ولا أنَّ النفقَ مَسدودٌ؛ لو صَحَّت الرغبةُ فى الخروج.
نشأ الحزبُ من رَحم الاحتلال والحرب الأهلية، ويستمدُّ طاقتَه من مُنازعات الداخل كما من إسرائيل. يُقدِّمُ نفسَه على صِفَة الطرف النزيه، وربما أعانه مُناوئوه بما طالهم من انحرافٍ ومُؤخَذَات. على القوى السياسية أن تتوافق معًا، ولو من دونه؛ ليكون البديلُ عنه كاملاً وإجماعيًّا، وعليهم تنقية أثوابهم لإظهار أوساخه، كما عليهم إعادة إنتاج أنفسِهم تحت سقف الدولة والطائف والقَبول الشعبى؛ ليدفعوه إلى التبدُّل اضطرارًا، أو إخراج نفسِه من اللعبة اختيارًا.
كان «نصر الله» سيِّئًا فى أدائه السياسى والوطنى؛ لكنَّ جبران باسيل ليس ملاكًا بجناحين، وما يَصدُق عليهما يصحُّ فى حقِّ الباقين أو أغلبهم. لبنان ليس صورةً مثاليَّةً بالتأصيل والتجربة العَمليّة؛ لكنه قادرٌ على أن يكون أفضل مِمَّا هو عليه، والطائفُ إنجيلُ الدولة الذى لا بديلَ عنه؛ إنما لا يَدَ له أو قدم، بل ينطقُ به المُتشاركون فيه والقائمون على إنفاذه.
على الأرجح، لن تُفضِى الجلسةُ البرلمانية اليومَ إلى نتيجةٍ مُبكِّرة، وقد تتمدَّدُ لدوراتٍ كثيرة وعلى أيّامٍ عِدّة. حظوظُ قائد الجيش أعلى من الباقين؛ لكنَّ الفوز لو كان مُمكنًا بـ65 صوتًا؛ فإنَّ تعديل الدستور يحتاج لأغلبية الثلثين، وهو ما يَصعُب تأمينه من دون الحزب. وما يزال احتمال التعطيل قائمًا كما كان فى كلِّ الدورات السابقة.
لا يُعرَفُ بوضوحٍ على أىِّ وجهٍ تلقَّى اللبنانيون الرسائلَ الأمريكية. إدارةُ بايدن تبدو راغبةً فى حَسْم السباق قبل الرحيل؛ لكنَّ مسعد بولس، مستشار ترامب للشؤون العربية والشرق أوسطية، قال إنَّ مَن صبروا كلَّ الشهور الماضية، بإمكانهم أن يُطيلوا الاصطبارَ عِدَّة أسابيع، ليأخذ الحوارُ مداه إلى التوافق، والقَصدُ دون مُوارَبةٍ أن يكون الرئيسُ بنكهةٍ جمهورية لا ديمقراطية، وقد يُحفّزُ ذلك بعضَ الراغبين فى التعطيل على التمادى فى مواقفهم، وإبقاء الجولة مُعلَّقةً من دون حسم.
مَبعوثَا واشنطن وباريس، آموس هوكشتين وجان إيف لودريان، حاضران معًا فى واحدة من مرَّات التزامُن النادرة. ومَسؤولا الملفّ اللبنانى بالسعودية وقطر كانا فى بيروتٍ قبل قليل، والجميع يُديرون تروسَهم بحماوةٍ تفوق المُعتاد، وربما يَرون فى الرئاسةِ بوّابة لإطالة التهدئة والحيلولة دون تجدّد الحرب.
أميلُ شخصيًّا إلى اقتراب الحَسْم، وأرى أنَّ الظروف كلها مُتوافرةٌ ومواتيةٌ بخلاف ما كان سابقًا، ولدى الرئيس برّى رغبةٌ فى فتح أبواب القصر، ومعه تفويضٌ حزبىّ لن يُسحَب منه فى القريب. لكنّنى أنظرُ للانتخاب على أنه مُبتدأ لا ختام، وإمَّا أن يكون بدايةً لورشةٍ إصلاحيَّة حقيقيّة وشاملة، أو شرارةً تُهدِّد بتهيئة المناخ لِمَا تحتاجه الحربُ الأهلية للاندلاع مُجدَّدًا. لبنان جميل بأبنائه؛ بل وأجمل منهم جميعًا؛ لكنّه بحاجةٍ ماسّة إلى أن يُحبّوه بقَدر ما يُحبّهم، وهذا ما يُمكن أن تراه فى الشارع، ويغيبُ بالكُليّة للأسف عن المعاقل الحصينة ورُؤوسها المُتضخِّمة دون تبريرٍ أو جدارة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة