عندما بزغ مفهوم الديمقراطية، باعتباره التجربة التي أرادت الولايات المتحدة تصديرها للعالم، بعد صعود نجمها كقوى دولية كبرى، بعد الحرب العالمية الثانية في الأربعينات من القرن الماضي، اعتمد مبدأ تعددية الأحزاب، كأحد الأركان التي يقوم عليها، حيث تبقى حرية تأسيس كيانات سياسية، أحد الشروط الرئيسية التي ارتبطت بالمفهوم، مع تحديد اتجاهاتها وتوجهاتها، بحرية مطلقة، باستثناء بعض ما اعتبره الغرب في تلك الفترة من المحرمات السياسية، على غرار "الموالاة للحقبة النازية"، أو "معاداة السامية"، أو غيرها من المفاهيم، التي بدت غير مقبولة على الإطلاق في أعقاب سنوات من الحرب والدمار، وهو الفكر الذي تمكنت واشنطن من تعميمه، بصورة كبيرة، في دول المعسكر الغربي، ثم بعد ذلك سعت إلى التبشير به عالميا، بعد الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، في أوائل التسعينات.
واعتماد الأحزاب السياسية، كأحد أعمدة الديمقراطية، يبدو مرتبطا بالأساس بمبادئ أخرى، وأبرزها تداول السلطة، بحيث يمكن من خلالها، تخفيف حدة الصراع على كراسي الحكم، والتي قد تصل إلى حد الحروب الأهلية، أو ثوران دعوات انفصالية، إلى المنافسة المحدودة، وهو ما يبدو واضحا في الولايات المتحدة، باعتبارها نموذج للسلطة الأكثر تداولا، جراء محدودية مدة الرئيس بثماني سنوات على أقصى تقدير، مع اقتصار المنافسة على حزبين فقط، دائما ما يتبادلان المقاعد بين الكونجرس والبيت الأبيض، بعد سنوات معدودة، مما يساهم بصورة كبيرة في تحقيق قدر من الاستقرار السياسي، جراء النأي بالبلاد عن أي حالة من حالات الصراع الشرس، والذي اقتصر على مناظرات المرشحين، وهو الأمر الذي كان بمثابة القاعدة، لعقود طويلة في التاريخ المنظور، وذلك إذا ما استثنينا السنوات الثماني الأخيرة، وبضع سنوات في حقبة السبعينات من القرن الماضي.
والحديث عن السنوات الأخيرة، وما شابها من مخاض حقيقي، لتلك الحالة السياسية الرتيبة، تجلت بوضوح في احتجاجات، وحروب تكسير عظام، ساهمت في صعود تيارات كانت بعيدة تماما عن المشهد السياسي، لم تقتصر على الولايات المتحدة، وإن جاءت منها نقطة الانطلاق، في أعقاب صعود دونالد ترامب الأول إلى البيت الأبيض، وهو الرجل الذي دخل السباق ممثلا للحزب الجمهوري، ولكن تبقى أفكاره ورؤاه غير تقليدية، تمثل في بعضها انقلابا على مبادئ الحزب، لتمتد إلى الغرب الأوروبي، والذي شهد موجة صعود كبيرة لتيارات اليمين المتطرف، بينما وجد اليسار طريقه هو الآخر نحو معاقل السلطة، على غرار المشهد الفرنسي في الفترة الماضية، ليصبح مفهوم الديمقراطية في مأزق حقيقي، يتجلى في جزء كبير منه في التحول من حالة التنافس التي أرساها تدريجيا نحو الصراع، الذي بات يشوبه العنف في الكثير من الأحيان.
فلو نظرنا إلى مشهد اقتحام الكونجرس، قبل 4 سنوات بالتمام والكمال، من قبل أنصار الرئيس السابق والقادم دونالد ترامب، في الولايات المتحدة، احتجاجا على إعلان خليفته جو بايدن رئيسا للبلاد، نجد أنه كان بمثابة صدمة، لا ترتبط فقط بانتهاك أحد أهم مقدسات السياسة في بلاد العم السام، وإنما أيضا باعتباره "سنة"، أخذتها دولا أخرى، في معاقل الديمقراطية في العالم، وعلى رأسها دول المعسكر الغربي، سواء في صورة الاحتجاجات ومشاهد العنف في الشوارع، أو عبر التحور إلى صور أخرى، تتماهى في جوهرها مع المفهوم نفسه، وعلى رأسها تصعيد تيارات ربما لا تعتنقه، ناهيك عن مشاهد التغيير المتسارع، والذي يمكن التلامس معه فيما أسميته في مقالات سابقة بـ"رؤساء الحقبة الواحدة"، أو من خلال ظهور أحزاب جديدة، قد لا تحمل أيديولوجيات مختلفة عن القائمة، ولكن قد تحمل خطابا جديدا أو وجوها جديدة.
ولعل فكرة ظهور الأحزاب الجديدة، التي لا تحمل أيديولوجيات مختلفة جذرية عن تلك القائمة، والتي تتبناها أحزاب أكثر عراقة، تبدو بوضوح في النموذج الفرنسي، عندما أسس الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون حزب "الجمهورية إلى الأمام"، والذي جاء ليحمل لواء الوسطية، بينما كان يهدف في الأساس إلى استقطاب اليمين الوسط، والذي يمثلهم بالأساس حزب الجمهوريين، إلا أن الحاجة ظهرت إلى تأسيس حزب جديد، ربما لكسر الجمود الذي شاب السياسة الفرنسية، والذي دفع إلى حالة من عدم الاستقرار في السلطة، منذ نهاية عصر جاك شيراك، والذي تعاقب وراءه 3 رؤساء خلال 3 فترات متتالية، وهم نيكولا ساركوزي ثم فرنسوا أولاند، ثم جاء ماكرون في 2017، ليكسر القاعدة بالحصول على ولايتين متتاليتين، رغم أن حزبه لم يكن قد أكمل عامه الأول عندما وصل إلى الإليزيه في المرة الأولى.
بروز ظاهرة الأحزاب الجديدة، ليست حكرا في واقع الأمر على فرنسا، رغم أنها التجربة الأبرز في ضوء وصول الحزب الوليد إلى السلطة مباشرة بعد تأسيسه بشهور معدودة، ولكنها امتدت إلى دول أخرى، منها في ألمانيا، والتي انشق فيها بعض اليمينيين لتشكيل كيان سياسي جديد، تحت مسمى "العقل والعدالة"، وهي التجربة التي مازالت في طور التطوير، في ضوء كونها لم تحظى بنفس الزخم الذي شهدته الحالة الفرنسية، وكذلك في إيطاليا، فحزب "إخوة إيطاليا" هو حديث العهد نسبيا، حيث تعود نشأته إلى عام 2012، ولكن تمكنت زعيمته جورجا ميلوني من الوصول إلى السلطة.
الحالة الجديدة، ربما لا تنبئ فقط عن حالة الضجر التي شهدتها شوارع الغرب جراء السياسات التي تتبناها الأحزاب التقليدية، وإنما تمثل في الوقت نفسه، تغييرا عميقا في مفهوم الديمقراطية، يقوم في الأساس على تحقيق تحولات جديدة، من حالة المنافسة، إلى ما يمكننا تسميته بـ"الديمقراطية التوافقية"، من خلال بناء كيانات سياسية، لا تحمل فيما بينها اختلافات جذرية، مما يؤهلها إلى خلق حالة من الحوار، مما يضفي مساحة أكبر من الحلول سواء للأزمات القائمة، أو إضفاء قدر من الشرعية على ما يتم اتخاذه من قرارات.
وهنا يمكننا القول بأن الديمقراطية في مفهومها قائمة على المنافسة السياسية، ولكن تبدو الأوضاع السياسية في العالم في حاجة ملحة إلى مزيد من الاستقرار في المرحلة المقبلة، وهو ما يعكس ضرورة تحقيق توافقات في الداخل، في ضوء تأجج الأوضاع العالمية، وهو الأمر الذي يثير الحاجة إلى مزيد من الحوار على أساس توافقي، بعيدا عن المصالح الضيقة، وهنا تبدو الحاكة إلى الإشارة إلى ما سبق وأن اتخذته الدولة المصرية، من خطوات مبكرة، في إطار الدعوة إلى عقد الحوار الوطني، ليشمل كافة أطراف المعادلة السياسية والمجتمعية دون إقصاء، وهو ما يعكس قراءة مبكرة للأحداث الدولية والعالمية، وتداعياتها الكبيرة على الداخل، وهو ما تبدو العديد من الدول الأخرى في حاجة إلى تطبيقه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة