وُلِد على غير مثالٍ، وكان مُعجزةً فى زمنه، وما تلاه من أزمنةٍ حتى اليوم، وإلى أن يَرِثَ الله الأرضَ وما عليها. كان الميلادُ فى مِذوَد بقرٍ، ومن دون أعراسٍ واحتفالات؛ لكنه صار فيما بعد مناسبةً بهيجةً، وفرحةً تغمرُ الزمانَ والمكان، ويتقاسمُها ملايينُ الناس على اختلاف ألوانهم وعقائدهم. المسيحُ ابن مريم، أطلَّ بنورِه من بيت لحم؛ فملأ الدنيا كلها بالضىِّ والأُلفة.
احتفل ملايينُ الأرثوذكس وإخوتهم من الكنيسة الإنجيلية والأقباط الكاثوليك وبعض الطوائف الشرقية مساء الثلاثاء، فى ليلة السابع من يناير؛ على ما استقرّ الأمر منذ قرونٍ بعيدة. وكالعادة؛ كان المشهد فى كاتدرائية «ميلاد المسيح» بالعاصمة الإدارية مُختلفًا كسابق السنوات، وله طابعٌ تمتزج فيه المُواطَنة بالروحانيَّة، والاجتماعىُّ بالدينىِّ، وتُعبِّر الهُويّة المصريَّة عن مخزونِها الحضارىِّ ومجدِها التليد.
تركيبةٌ محليَّة شديدةُ الخصوصية، أبقَتْ شيئًا من كلِّ مُعتَقَدٍ ومرحلةٍ تاريخية، فصارت الجُغرافيا لوحةً ثقافيّة عريضة، وتعايشت الأديانُ جميعًا، وباتت الوطنيةُ نفسُها دِينًا يُصالح العقائدَ ومُعتنقِيها على بعضهم. تتجاورُ الطقوسُ والمناسبات، ولا يُعرَفُ على وجه التحديد الحاسم أيّها نبعَتْ من معابد مصر القديمة، وأيّها وفَدَتْ من الخارج، أو أحدثَتْها القلوبُ فى تحوِّلاتها الإيمانيّة المُتلاحقة.
الثقافةُ التى مَزَجَتْ كثيرًا من أمور الديانة المصرية بالمسيحية والإسلام، وأبقت سلسالاً من العادات يتنقَّلُ بين كاهنٍ وقدِّيس وشيخ. ومثلما كان البلدُ فريدًا فى عصرِه، من جهة السَّبْق والتحضُّر وامتلاك مجامع العلم والإبداع؛ فقد صارت لديه كنيستُه الحصينة بتُراثِها الزاهى، وتقاليد آبائها البارزين، وسَمْتِها الخاص جدًّا فى اللاهوت والإدارة، وما أهدَتْه للعالم من قِيَم الرهبنة وطاقتها الروحية العالية.
وبالمِثل؛ أنتج المصريِّون نُسختَهم من الإسلام، فَهمًا وَسَطيًّا واعتدالاً فى القول والفعل، ومُواءمةً بين رسائل الصحراء وحقائق المَدنيَّة والتمَدُّن، انطلاقًا من أنه لا يبدأ من فراغٍ هُنا؛ بل يَبنِى على عُمُدٍ راسخة.
مصر التى فتحَتْ أبوابَها مُبكِّرًا للمسيح ووالدته العذراء، فى مسيرة الهروب من بطش الوثنيَّة الرومانيَّة وقتَها، أَجَلَّت الزيارةَ المُقدَّسة وحَفَظَتْ عهدَها، وحافظَتْ على رباطٍ وثيقٍ مع رسالة المحبَّة التى بشَّر بها لاحقًا. وليس تفصيلاً عابرًا أنَّ أغلب محطَّات رحلته الطويلة ما زالت على حالها، وأنَّ زوَّار الموالد المسيحيَّة من المُسلمين لا يقلّون شغفًا عن أهلها، وينظرون بإجلالٍ للكنيسة كما للجامع.
تطلَّع المصريِّون نحو السماء وقتما كان العالم مَحنيًّا على طين الأرض، وتعدَّدت وَصَفَاتُهم فى الْتِمَاس الطريق إليها. وظلَّوا يتشفَّعون بالعذراء وابنِها مثلما يفعلون مع آل البيت والأولياء الصالحين. وكانوا يتحصَّلون على بَرَكَتِهم من الأديرة والمقامات على حدٍّ سواء.
عبرَتْ عليهم فِتَنٌ وإثارات، تعثَّروا فيها حينًا، وتخطَّوها فى أغلب الأحيان، وبَقِيَت الذاكرةُ مَيّالةً إلى الأُخوَّة والتعايُش، بأكثر مِمَّا تنشغلُ بفَرز الناس وفق الدين والطائفة.. وما تَداخُلُ الخيوط فى نسيجٍ اجتماعىٍّ واحد، لا ينعزلُ فيه لونٌ عن لون، ولا يستأثرُ فريقٌ بمكانٍ دون الآخرين؛ إلَّا دليلاً على أنَّ وطنيَّةَ الناس غَلَبَتْ مُعتقداتِهم، وأنهم رأوا أديانَهم على صورتها الحقيقية، لجهةِ أنها طاقةُ خيرٍ وسلام، ودعوةٌ للوِفاق لا الشِّقاق.
قبل سبعٍ وخمسين سنة تقريبًا، وقفَ الرئيسُ جمال عبد الناصر إلى جوار صديقه البابا كيرلّس السادس، ومعهما الامبراطورُ الإثيوبىُّ هيلاسلاسى، يُدشِّنون المَقرَّ الجديد للكاتدرائية المُرقسيَّة فى العباسية. وقتَها تلقَّت الدولةُ رغبة البطريركية وشعب الكنيسة، ووجَّهت شركة «المقاولون العرب» للاضطلاع بمهمَّة البناء.
والمشهدُ ذاتُه تكرَّر بعد نصف القرن، عندما تحرَّكت القاهرةُ شرقًا، وكان أوَّلَ ما فكَّرت فيه القيادةُ السياسيَّةُ أنْ تُرسِى دعائم العاصمة الجديدة على عناقِ البُرج والمأذنة، فكانت الكاتدرائية ومسجد الفتاح العليم، وتبرَّع لهما الرئيسُ السيسى بقيمةٍ واحدة.
العلاقةُ الوطيدة بين الرئاسة والبطركيَّة فى الستينيَّات، تتحقَّقُ اليومَ بحذافيرها، مع فارق الزمن. كان الرباطُ وثيقًا بين عبد الناصر وكيرلس، ولعلَّه أوثقُ حاليًا فيما يخصُّ حالَ التقدير المُتبادَل بين السيسى وتواضروس الثانى. لعبَ البابا دورًا حيويًّا فى مرحلةٍ دقيقة، وكان طرفًا أصيلاً فى معركة الدفاع عن هُويَّة مصر، وما زال واحدًا من الأعمدة الصُّلبة للوطنيَّة المصريّة فى صيغتها الجامعة.
صارت زياراتُ الرئيس السيسى للكنيسة تقليدًا سنويًّا دائمًا. افتتحَها فى عيد الميلاد بالعام 2015، ولم تَكُن مرَّت على رئاسته أكثر من سِتَّة أشهر، ومِن يَومِها لم ينقطِع عن مُشاركة الأقباط الأرثوذكس فرحتَهم الاعتياديَّة، حضورًا ينسحبُ على بقيَّة الطوائف المسيحيَّة بطبيعة الحال، بمنطق أن العنوان واحدٌ، والكُتلةَ الكبر تنوبُ عن المجموع.
مرّة واحدة اكتفى بالتهنئة عبر الفيديو، اتّصالاً بمُقتضيات الإغلاق والتدابير الصحيَّة فى زمن جائحة كورونا، وقد بلغَت الحصيلةُ حتى أمسِ عشرَ زياراتٍ كاملة، فضلاً على اثنتين لكاتدرائية العباسيَّة فى مَوقِفَى عزاء.
والاهتمامُ الرئاسىُّ يُعبِّرُ قطعًا عن قناعةٍ شخصيَّة؛ لكنه يَنبعُ بالأساس من التزامٍ سياسىٍّ. الدولة مُحايدةٌ أمامَ الأديان، وعليها واجبُ المساواة بينها، واحتضان أتباعها بتكافؤٍ كامل.
المسيحيِّون عَانَوا فى فترة الفوضى كغيرِهم من المصريين؛ لكنهم دفعوا كُلفةً أكبر، لا لشىءٍ إلَّا أنَّ المعركةَ كانت مع طرفٍ مع أجنحة الرجعيَّة الإسلامويَّة، وأنهم نظروا لشُركاء الوطن من زاويةِ الأقليَّة، ولم يَروْهم إلَّا تحت لافتة الذِّمِّيّة، مُعتبرِين أنه لا حَقَّ لهم فى تقرير مصيرهم أو الاشتراك فى موضوعات الشأن العام.
وإنصافُهم الآنَ يَرُدُّ لهم حقوقًا أُرِيدَ تَضييعُها؛ لكنه يُثبِّت أيضًا حقيقةً لا جدال فيها، خُلاصتُها أنَّ الميثاقيَّة المُبرمَة بيننا تنبعُ من الأرض والتاريخ المُشتَرَك، وتحتكمُ لإخلاص الوجه لمصر وحدها، ولا فضلَ لأحدٍ فيها على غيره بما يَدينُ أو يعتنقُ من أفكار.
مُناسبةُ الميلاد بسياقِها الكامل، وأَهَمُّه حال الاحتفاء والتشارُكيَّة الكاملة من أعلى مستويات الدولة لأدناها، تضعُ حِصَّةً عظيمةً من أبناء الوطن فى مَوقعِهم الطبيعىِّ، وتقتصُّ بأثرٍ رَجعىٍّ دائمٍ من دُعاةِ الفِتنة حديثًا وفى كُلِّ العصور الغابرة.
والمسيحُ أَصلٌ ثمينٌ للبشريَّة كُلِّها، ولدى المصريِّين على وجهٍ خاص؛ لأنهم وفَّروا الملجأ الآمن للعائلة المُقدَّسة فى وقتِ مِحنتِها، وكانوا حاضنةً أصيلةً للعقيدة فى بداية انتشارها، وقد صارت كنيستُهم الكُبرى عمودًا ركينًا فى معمار المسيحيَّة على امتداد تاريخِها.
لنا فيهم من يَسوع الطفل، ومن مُرقس الرسول وهو أحد المُكَرِّزين الكبار، ولنا أيضًا من الرهبنة وعصر الشهداء، وأَلفَى سنةٍ من الفِكر والتقاليد المنقولة جيلاً عن جيل. ولَهُم فينا العِرقُ والدَّمُ واللون الواحد، وكلانا لنا فى مصر ولها فينا بالتساوى.
فى قصةِ الميلاد عِبَرٌ جَمّة، ومَواعظُ لا تَنفدُ طاقتُها الإيمانيَّة والدلالية. وُلِد الطفلُ ولادةً إعجازيَّةً من فتاةٍ عذراء، وفى مكانٍ مُقفرٍ بعدما عَزّت عليهم الأمكنة المؤنسةُ الوثيرة.. أضاءت السماء بالبشرى، وحضر المجوسُ الثلاثة، وتجسَّد الملائكة للرُّعاة. كان ميلادًا سَماويًّا بكلِّ المعانى؛ لكنَّه لم يُجنِّبهم كَيدَ هيرودس ولم يَعصِمُهم من الخطر.
تجرى المقادير كيفما أُريد لها من فوق سبع سموات، وتسرى على العادى والمُعجِز، ولا يُغنيك تأييد الله عن الاجتهاد فى إغناء نفسك، وعن السعى فى كل الدروب لتحصيل النجاة والمفازات؛ ولو بالهروب.
أوَّلُ الرسائل أنَّ القيمةَ فى الإنسان لا المكان، ولا فى الهيئة العائليّة وما تُوفّره الحياةُ من عطايا مجّانيةٍ لبعض البشر. ويُمكِنُ أن يكون الذهب مطمورًا فى معلف الماشية ولا يَراه محدودو النظر، وما يُقدِّره الربُّ يسرى على عباده؛ مهما استبدّت بهم النوازعُ وطوّقتهم المُؤامرات.
يُمثّلُ الحدثُ ذكرى الميلاد الجسدىِّ؛ لكنَّه لا يقومُ بمُفرَدِه أساسًا للاعتقاد، بالنظر إلى طبيعة يسوع الخاصة فى الفهم المسيحىِّ. تجسَّدت الإرادةُ الإلهيَّةُ لأجل خلاص البشر، وهو ما اكتمل بالفداء؛ لذا اقتصرت الاحتفالاتُ لعِدَّة قُرونٍ على عيد القيامة المجيد.
يتَّخذُ عيدُ الميلاد طابعًا سياسيًّا منذ بدايته. وقد انشغلَ الناس عمَّا فيه من فرحةٍ عظيمة، بالتركيز على ما فى القيامة من دلالاتٍ روحية واكتمالٍ لبِنيَة العقيدة.
ولأنَّ المسيحيَّة عاشَتْ شطرَ عُمرِها الأوَّل مُطارَدَةً فى كثيرٍ من البيئات؛ فلم تتيسَّر العودة لذكرى الليلة الشتويَّة القاسية فى بيت لحم، إلَّا بعدما اعترَفَتْ الدولة الرومانية بالدِّين الجديد وتحوَّلت إليه، فبدأ الاحتفالُ فى الرُّبع الأول من القرن الرابع، ووُضِعَتْ ملامحُه ومَواقيتُه باتِّفاقٍ الكنائس فى مَجمعِ نيقية.
لا تحديدَ دقيقًا لمَوعد الصرخة الأُولَى، وتختلفُ التقديرات بشأن سَنَة الولادة ويَومِها وساعتِها. إنما ما يُتَّفقُ فيه تمامًا أنها كانت مُغلَّفةً بالوحدة والإنكار، وتحت سقف الخطورة الداهمة.
الوَصْم من جهة مُجتمعٍ يهودىٍّ تشوَّهت روحُه بأثر الانحرافات العميقة، والسُّلطة الوثنيّة التى تُهدِّدها بشارةُ المُخلِّص الموعود، وخراف بنى إسرائيل الضالّة وقد أدمنت التقليد، وسلَّمت قِيادَها لأراذل الحاخامات.
بالترتيب الطبيعىِّ؛ تتأسَّسُ السنة الليتورجيّة المسيحيَّة على حادثة الميلاد، ولو كانت أقلَّ مَركزيَّة فى البِنيَة الاعتقاديّة، فيما يتَّصل باكتمال رمزية الفداء.. طقوسُها تتأخَّر فى الحيِّز والمكانة عن وقائع أُخرى، القيامةِ مثلاً؛ لكنّها تُمثِّل المُرتَكَز الذى بُنِيَتْ عليه السرديّةُ الإعجازية كُلّها. وتتلاقى فيها مُناسبتان إضافيَّتان: الختان والغطاس؛ ليكتمِلَ رباطُ المسيح مع بيئته الأُولَى، مصداقًا لقولِه لاحقًا: «ما جئتُ لأنقُضَ؛ بل لأُكمِل».
قال فريقٌ إن الميلاد فى نوفمبر، وآخرون عَدّوه مع الاعتدال الربيعى، واستخلص يوحنا ذهبىّ الفم من بعض الإشارات أنه فى ديسمبر، وعليه اتفق المجتمعون فى نيقية.
الاختلافُ قديمٌ فى المَوعد؛ لكنَّه تعمَّق فى القرن السادس عشر، مع ابتداء التقويم الجريجورىِّ وحَذف عشرة أيَّامٍ؛ لتصحيح الخطأ الحسابىِّ فى التقدير الدقيق لدوران الأرض حول الشمس، بإحدى عشرة دقيقة أقلّ مِمَّا كان معمولاً به. بَقِيَت الكنائسُ الغربيَّة فى ديسمبر، وانتقل الشرقيّون إلى يناير، وظلَّت البهجةُ واحدةً، والقَداسَةُ من دون اختلافٍ أو نقصانٍ.
اتَّخذ المسيحُ هيئةً بشريَّة؛ لكنه كان أكبرَ كثيرًا من اللحم والدم. أرادت السماءُ أن يكون أُمثولةً لها كيانٌ مادىٌّ ورمزيّة لا تحدُّها حدود، وأن يكون مِلكيَّة إنسانيّةً تتجاوز تمايزات الأعراق واختلافات الأديان؛ وقد صار عنوانًا صافيًا للمحبّة فى أنقى معانيها وأكثرها جلالاً.
وردَتْ القصَّة فى إنجيلى متَّى ولوقا؛ إنما من زاويتين مُختلفتين ومُستقلَّتين عن بعضهما. جاء الملاكُ لمريم البتول مُبشِّرًا بأُمومةٍ دون نكاح، وولادةٍ بقوّة الروح القُدس، وانتقل منها إلى خطيبها يوسف النجار، ناقلاً البُشرى فيما يُشبه الوصيّة، لكأنَّه كان مُكلَّفًا بتأمين الحماية الرفيقة، وتحصين المُعجزة بالحبيب القريب من مطاعن الكارهين الأغراب.
لمسةٌ حانيةٌ من قَلب المَحزنة، تُربِّتُ على أرواح المظلومين وانكسار قلوبهم. المسيحُ المُنتسب للناصرة والمعروف بها يُولَد غريبًا فى بيت لحم، مُؤيَّدًا من السماء إنما على قَشٍّ خشن فى مَعلفِ البقر، وسيُنكَرُ بين أهله ابتداءً، ومن تلميذِه لاحقًا؛ لكنه سيصيرُ عنوانًا ذائعًا بامتداد الأرض، وإلى الأبد.
أوَّل المُتردِّدين عليه رُعاةٌ فُقراء ومجوسٌ مُحمَّلون بالهدايا؛ والمعنى أنه ينتمى للبشر فى قُماشتهم العريضة وتنوُّعهم الثرىِّ، وفى كلِّ صِفاتهم أينما حَلّوا أو ارتحلوا. لا تَعنيه الأرضُ إلَّا بمقدار ما يسعى لتغييرها، ولا تخصُّه البلاد إلا لناحية أنه يتنفَّسُ هواءها وتحملُ إخوته وأبناءه على وجهه الوسيع؛ لكنه عابرٌ دائمٌ من دون إقامةٍ، ومُقيمٌ أزلىٌّ لا يُخالِطُه غيابٌ أو رحيل.
يعبرُ المسافات مَهمَا اتّسَعت، ويُقيمُ فى الأزمنة مهما استطالت وتباعدت. يُوطِّد رباطَه مع عيال الله جميعًا على اختلاف ألوانهم، وفيه حَقٌّ أصيل للغنى والفقير، الضالِّ والمُهتدى، المُؤمن والمُنكِر، ومحبَّتُه وافرةٌ وضِفافُه تتَّسع للجميع؛ المهمُّ ألَّا يغرق مُسافرٌ أو يَعطش مُقيم.
كَسَر الاعتيادَ بأشدِّ الصُّوَر صخَبًا، وترفَّق بقلوب الناس على أحسن ما يكون. يَصدِمُ المُتجبِّرَ لأجل إفاقته، ويتحنَّن على الضعيف لأنهما من طينةٍ واحدة.
كان اليهود فى انتظار «المسيا» ليكون مَلكًا عليهم، يُولَد من سُلالةٍ ساميةٍ على حريرٍ وذهب، ويُمسكُ بصولجان الجبروتِ وسُلطة الهيكل؛ لكنه أشرقَ عليهم من خيالٍ أرضىٍّ خَشِن، بإطلالةٍ مُتواضِعَةٍ وأثر طاغٍ، وأخيرًا تأكّدت غُربَتُه بالهروب الاضطرارىِّ، فصَدَقَ فى جُملته البليغة «مملكتى ليست من هذا العالم».
اليومَ، تَضىء سرديَّته التى لم تنطفئ قطّ، بينما تنطفئ مدينتُه الأُولى وتتكالبُ عليها المواجَعُ والأحزان. للسنة الثانية لا يَبتهجُ «البيت لحميّون» بيَسوعِهم فى مَولدِه، ولا تتوقَّف نوافيرُ الدم بطول فلسطين وعَرضها. يتبدَّد الاحتفال؛ لكنَّ المُناسبة تتجسَّد عمليًّا من جديد.
لكأنّ الحاكم الرومانىِّ الوثنى يُحاصرُ البلدةَ من أطرافها، وقيافا ومشيخة السنهدرين يُخطِّطون لإسقاط المسيح عن عرشه الراسخ فى قلوب تابعيه.
يستعيرُ نتنياهو روائحَ أجداده ووحشيَّةَ أرواحهم؛ لو تخطّينا تلفيقة الصهيونيَّة واعتبرناه مُنتميًا للأرض لا دخيلاً عليها. يقتل بالبارود ما كان مَنذورًا للبَلطة والسيف قديمًا، يترصَّدُ المواليد كما فعل هيرودس، ويُردِّدُ مع اليهود القُدامى إزاء بيلاطس «دمه علينا وعلى أولادنا»، ويُجهِزُ على مسيح الناصرة وبيت لحم فى صورة كلِّ طفلٍ من ضحاياه، فى غزّة أو غربىِّ نهر الأردن.
نحتفلُ مع إخوتنا هُنا، ونُهنِّئهم، ونتقاسَمُ العيدَ استحقاقًا أصيلاً؛ لا لمجرَّد الشراكة العاطفية وأُخوّة الوطن فحسب. إنه مَسيحُنا جميعًا، ونحن مُكلَّفون فى الدين بإجلاله والإيمان به شخصًا ورسالة، ومُجبَرون بالإنسانية على احتضان سيرته وأماثيله وما يُجسِّده من معانٍ سامية، تحقَّقت بولادته وفى مَحياه، وما زالت قادرةً على البقاء والتجدُّد رغم كلِّ ما يُحوِّطها من شُرور البشر.
فرحة أرضيّة بالميلاد السماوى، ووصفةٌ مصريّة صافية لا تشوبها شائبة. تتنفَّس الذكرى تحت سماء مصر؛ مثلما تنفَّس صاحبها لأكثر من ثلاث سنوات فى أنحائها، شرقا وغربا ومن الشمال إلى الجنوب.
تُعوِّض أضواء العاصمة الإدارية وربوع وادى النيل ما ينطفئ من أنوار بيت لحم؛ وكلاهما وطنٌ أصيل للمسيح، واتِّصال وثيق برسالته جسدًا وروحًا، فخالص التهنئة للمصريِّين جميعًا، وإنْ اختصصنا المسيحيِّين بحظٍّ أوفر من التهانى والمُباركات، وعيد ميلاد مجيد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة