نعى ونفهم، وفق ما دونته سجلات التاريخ الحديث والمعاصر، من معايير مزدوجة فاسدة، وضعتها القوى المتحكمة فى العالم، وفق أهداف ومصالح خاصة، فعندما يتحدثون عن حقوق الإنسان، فإن لها أكثر من معيار ممجوج، والكيل بمائة مكيال إزاء القضايا والأحداث المتشابهة حد التطابق، وفقا لمكان وقوع الحدث، فالحدث الذى يقع فى دولة من دول منطقة الشرق الأوسط، خاصة العربية، وأكثر تحديدا لو كانت مؤثرة، وتمثل حجر عثرة أمام المشاريع الدينية الاستعمارية، مهما كان صغيرا وتافها، تجعل منه الدول المتحكمة فى العالم - ومن خلال منظماتها ووسائل إعلامها - حدثا ضخما، وتبدأ فى إصدار البيانات والتقارير المنددة لحكومة هذه الدولة، بينما الحدث ذاته لو وقع فى أمريكا، أو ألمانيا، أو فرنسا، أو إيطاليا، وغيرها من الدول الغربية، فإنها تغض الطرف عنه، وتجعل ودنا من طين، وأخرى من عجين.
هذه المعايير المزدوجة، تطبق فى سوريا الآن، فبينما كانت هذه القوى المتحكمة فى مصير العالم، تهاجم الجيش السورى، الذى يمثل «العسكرية الوطنية» وإلصاق كل أنواع الاتهامات له، ومحاربته، فإنها على النقيض، تبارك الآن «العسكرية الأصولية» والمتمثلة فى «الميليشيات المسلحة، والتى ارتكبت مجازر يندى لها الجبين العالمى، فمن الذى ينسى ما فعلته هذه الميليشيات فى سوريا والعراق، وتحديدا ضد الأقلية الأيزيدية سنة 2014 عندما استعبد تنظيم داعش، آلاف النساء والأطفال، ثم الأكراد؟ ورغم الاستغاثات الصارخة بضرورة التدخل لإنقاذ الطوائف من التصفية والاستعباد، إلا أن الدول المتحكمة فى مصير العالم، لم يرمش لها جفن، أو تذرف لها دمعة.
داعش، وجبهة النصرة - قبل أن تغير اسمها إلى «هيئة تحرير الشام» فى ثوبها الجديد - وتنظيم القاعدة، وبقية رفاقها، ارتكبت مجازر وحشية وتصفية عرقية، وهددت أمن واستقرار الدول، وأشاعت الرعب فى قلوب النساء والأطفال وكبار السن، وسجلت جرائمها صوتا وصورة، وبثتها على الهواء مباشرة على مواقع التواصل الاجتماعى، ورغم ذلك، القوى الكبرى المتحكمة فى مصير العالم، تدعم هذه الميليشيات، وتساندها وتدفع بها للسيطرة على مقاليد الأمور فى الدول المستهدفة! انتهكت أنساب المفاهيم، وقُتلت القيم الأخلاقية، بدم بارد، وفى وضح النهار، فبينما يهاجمون النظام السابق لسوريا، وينعتون جيشه النظامى الوطنى، بأشد وأبشع الأوصاف، وإلصاق كل الاتهامات به، يُشيدون ويدعمون بكل قوة الميليشيات العسكرية أو ما تسمى «العسكرية الأصولية» التى ارتكبت أبشع المجازر فى التاريخ، ليقع الشعب السورى «المُنَوَّم مغناطيسيا» فريسة الوعود الجديدة، دون إدراك أن المسلحين حين ينتصرون لا يفكرون كثيرا فى الشعب، وأن هدفهم الوحيد، تكريس كل الجهود من أجل تنفيذ مشروعهم، ويقع الناس بين فكىّ الرحى، فك التكفير الدينى، وفك التكفير السياسى والإقصاء وعدم الاعتراف بحقوق الأقليات.
واضح جليا أن القوى المتحكمة فى العالم - أو ما يسمى مجلس إدارة العالم والعضو المنتدب - وبما تحمله فى جعبتها من أطماع واضحة، وتعمل من أجل مصلحة مشروع وحيد وهو تمكين إسرائيل من المنطقة، من خلال تنفيذ مشروعها «إسرائيل الكبرى من النيل للفرات» لا تروق لها الجيوش النظامية الوطنية، لما تمثله من عقبة، فى طريق تنفيذ المشروع الوقح، لذلك أسقطت الجيش العراقى القوى، وفككت كل أذرعه الأمنية، ولعبت نفس الدور مع الجيش السورى، والذى تفكك وتفسخ، وهدمت بنيته التحتية، ولم يعد هناك جيش له قدرات، وحلت بديلا عنه ميليشيات أو ما تسمى «العسكرية الأصولية».
وهناك ثلاثة مشاهد واضحة وشارحة لفكرة انتهاك أنساب المفاهيم، وازدواجية المعاير، وسياسة الكيل بمائة مكيال:
المشهد الأول: وقع فى مايو 2015 فى لقاء لـ «أبومحمد الجولانى» سابقا، وأحمد الشرع حاليا، على قناة الجزيرة، منتقبا، قال: «لا يهمنا الغرب وما يقولونه، وما يهمنا هو تطبيق الشريعة الإسلامية»
المشهد الثانى: فى ديسمبر 2024 وفى أول لقاء تليفزيونى على قناة «CNN» الأمريكية، بصفته الحاكم الفعلى والآمر الناهى فى سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، موضحا أن «هيئة تحرير الشام» ليست جماعة إرهابية، وأن سوريا فى عهدها الجديد لا تمثل خطرا على جيرانها، بما فيهم، إسرائيل.
لكن الأبرز فى تصريحات «الجولانى» سابقا، و«الشرع» حاليا لقناة «CNN» أنها مغايرة عن تصريحاته فى 2015 لقناة الجزيرة، وأنه لم يلمح - من قريب أو بعيد - عن تطبيق الشريعة الإسلامية، بل الرجل أراد التجويد، بأنه سيسمح بتعليم المرأة، وبعدم ارتداء الحجاب، وبالتدخين!
المشهد الثالث: عندما زارت وزيرة الخارجية الألمانية، يرافقها وزير الخارجية الفرنسى، لدمشق، وذلك خلال الساعات القليلة الماضية حيث رفض أحمد الشرع ورجاله مصافحة وزيرة الخارجية الألمانية، ورغم ذلك لم نجد حملات شجب ورفض وهجوم على الشرع ورجاله، فى وسائل الإعلام الغربية والأمريكية، واعتبروها أمرا عاديا، يمكن قبوله فى إطار الثقافة الخاصة بالنظام الجديد فى سوريا!
هذه المشاهد الثلاثة، ورغم تصريحات «الجولانى» الوضحة، إلا أن الغرب وأمريكا، لا يريان غضاضة، فى تطبيق فج للمثل القائل «حبيبك يبلع لك الزلط، وعدوك يتمنى لك الغلط»!
الحقيقة نحن فى مصر عانينا - وما زلنا - من هذه الازدواجية، ولكن المكسب الوحيد من خلال الأحداث التى شهدتها مصر منذ 2011 ومرورا بـ«30 يونيو 2013» رفعت من منسوب وعى المصريين، وأفقدتهم الثقة فى مجلس إدارة العالم، ووسائل إعلامه، وأيضا تقارير منظماته المدعية حماية حقوق الإنسان، بالكامل، عندما رأوا بأعينهم، وسمعوا بآذانهم، اختلال ميزان المنطق فى تناول الأحداث، وظهر الانحياز الكامل والأعمى لجماعة الإخوان الإرهابية، وتسابقت معظم المنابر الإعلامية، والمنظمات الحقوقية الدولية، على نشر تقارير تدين الدولة المصرية ومؤسساتها، وتستميت فى الدفاع عن جماعة إرهابية، وشيطنة ثورة 30 يونيو الشعبية!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة