انشغلت، منذ حوالي ربع القرن، بقراءة سرد الجرائم المنشور في الصحف، ليس على سبيل معرفة ما يجري بقطاع من المجتمعات فحسب، وإنما أيضا، وهو الأهم بالنسبة لي، على سبل تأمل الكيفيات التي يسرد بها المحررون الصحفيون الجرائم التي ينشرون أخبارهم وتغطياتهم عنها، وأحيانا تحليلاتهم أو "قصصهم" لها.. وظل عندي مشروع مؤجل لكتابة دراسة أتناول فيها هذا السرد.. ولسنوات طويلة، ظللت أشتري الجرائد "صغيرة الحجم" المتخصصة في "الحوادث"، بجانب قراءة الصفحات المخصصة للجريمة في الجرائد الأخرى.. والآن أصبحت أتابع "أونلاين" أبواب الحوادث في بعض الجرائد، ومن أهمها، وأكثرها حيوية، فيما أتصور، الباب اليومي في "اليوم السابع". .. وبوجه عام، كنت ولا زلت أتصور أن الجرائم تنطوى على كثير من الملامح التي تستحق التأمل في أسبابها وملابساتها وأدواتها وكيفيات حدوثها، وأن سرد الجرائم يستحق التوقف عنده.
بدأ الاهتمام، في ذلك الزمن البعيد، بملاحظة بعض العبارات والتعبيرات التي تتكرر مع كثيرين من المحررين الصحفيين آنذاك؛ فوصف كثير من الجرائم كان يبدأ عادة بعبارة مثل: "كانت عقارب الساعة تشير إلى كذا.."، وسبب العديد من الجرائم هو أن المجرم "كان يمرّ بضائقة مالية"، وقد كانت هذه العبارة الأخيرة مجالا لحوار ساخر مطول بين الكاتب الروائي والقصصي الراحل محمد البساطي وبيني..
خلال مرور السنوات الطويلة تغيرت، إلى حدّ، طرائق سرد الجرائم، وأصبحت هناك عبارات متكررة جديدة، وبعض هذه العبارات يتلاقى، بنوع من "خفة الدم"، مع عناوين أفلام شائعة، فكل شخص يقوم بتزوير الأوراق الرسمية هو "ابن قنصل"، وكل "بوّاب" يشارك في جريمة هو "البيه البواب".. ويضاف إلى هذا اشتقاقات وتنويعات كثيرة جدا على كلمة "مستريح" أو "مستريحة" التي باتت بديلا عن كل التعبيرات عن الاحتيال المرتبطة بمن يجمعون نقودا، من أفراد كثيرين، بحجة "توظيفها" ثم يتضح فيما بعد أنهم محتالون.. وما أكثر المستريحين والمستريحات، في مجالات عديدة للاحتيال، خلال السنوات الأخيرة !
ومن الملاحظات على التعبيرات المتكررة الشائعة في السنوات الأخيرة ما يرتبط بمحكمة الأسرة، حيث يكرر أغلب الأزواج والزوجات الذين واللائي يطلبون ويطلبن الطلاق عبارات اتهام، مثل: "دمّر (أو: دمرت) حياتي"، أو: "لأعيش في جحيم".. وكأن هناك استعادة لذلك المشهد السينمائي القديم: كاتب يجلس مع منضدة أمام المحكمة ليصوغ "بمعرفته" شكاوى هؤلاء الأزواج والزوجات!
سرد الجرائم لا يفصح فحسب عما يدور في غرف سرية مظلمة من بعض النفوس البشرية، وعما يجري في بعض قطاعات المجتمع، وإنما يشير أحيانا إلى درجات من المواهب السردية، وأحيانا يعبر عن أشكال من "خفة الظل" عند بعض محرري هذه الجرائم.. وفي أحايين كثيرة يشير إلى إمكانات تعدد الرؤى ووجهات النظر للجريمة الواحدة، خصوصا تلك التي يتم النشر عنها في أكثر من جريدة، ولأكثر من محرر، وبأكثر من منظور.. وفي هذا المنحي يمكن التساؤل عن مدى حرية المحرر الصحفي في صياغة الجرائم التي يرصدها، وعن مدى الاختلاف بين سرد محرري الجرائم في الصحف وسرد بعض الكتّاب الروائيين الذين اتخذوا من بعض الجرائم أو بعض "المجرمين" مادة خاما في بعض أعمالهم الروائية..
لعل من أشهر هؤلاء الكتاب الروسي فيودور ديستويفسكي، في روايته الشهيرة (الجريمة والعقاب) ونجيب محفوظ في روايته الشهيرة أيضا (اللص والكلاب).. كلاهما استند في روايته إلى بذرة تنتمي إلى أصل واقعي.. ولكن كل منهما ذهب بعيدا جدا في تأمل الأبعاد الممكنة لهذا الأصل، وفي إعادة "تخييله"، بحيث تباعدت روايته، الثمرة الأخيرة لتلك البذرة الواقعية، عن ذلك الأصل تماما، وتعددت في هذه الرواية أبعاد الجريمة وتكوين المجرم وإمكانات تأويلهما على مستويات اجتماعية وفلسفية متنوعة، ولم تعد مجرد سرد لجريمة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة