محمود عبدالراضى

"الأب".. أعظم رواية لم تكتب

السبت، 04 يناير 2025 09:54 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

قد نظلم الأب حين نحاول الحديث عنه بالكلمات، فهو أكبر من أن تحيط به المصطلحات، وأعمق من أن تصفه الجمل البديعية، الأب ليس مجرد شخص، بل هو حكاية، بطولة يومية تُروى بصمت، ودفء أمان يتسلل إلى حياتنا دون أن نشعر.

نقف أمام مقام الأب عاجزين، نحاول صياغة الكلمات ثم نمسحها مرة بعد مرة، وكأن اللغة ذاتها تخجل من أن تقصر في التعبير عنه.

ماذا أكتب عن الأب؟ هل أقول إنه عمود المنزل؟ أم أنه الأمان المعلق فوق رؤوسنا؟ أم الطمأنينة التي تعانقنا حتى في أحلك لحظاتنا؟

الأب هو الشخص الوحيد في العالم الذي يتمنى من أعماق قلبه أن تكون أفضل منه، جسده يأكله التعب وتنهشه الأيام، فقط ليمنحنا حياة كريمة، ليضعنا على أعتاب مستقبل أفضل.

الأب لا يطلب شيئًا لنفسه، بل تكمن سعادته في رؤيتنا نكبر أمام عينيه، حين نحقق نجاحًا صغيرًا، تلمع في عينيه فرحة تتجاوز كل تعبير، وبينما نخطو خطواتنا الأولى نحو الحياة، يكون هو هناك، يسندنا إن تعثرنا، ويباركنا بدعواته.


لا أنسى أبدًا والدي، ذاك الرجل البسيط في الصعيد، كنت أراه شامخًا كالنخيل في أرضنا، ثابتًا رغم العواصف، كان صبورًا وعنيدًا، يقاوم المرض بشراسة وكبرياء، حتى فكرة الذهاب إلى الطبيب كان يعتبرها "دلالًا"، لا يليق به، رأيته مرات عديدة يتغلب على المرض، يقف وسط المصلين في صلاة التراويح، وقد تجاوز عمره المائة وست سنوات.

لم يكن يقبل أن يصلي وهو جالس، كان يقول بفخر: "أتكسف من ربنا"، لقد كان قلبه معلقًا بالمساجد، وروحه أنقى من أن توصف.

رحل كما عاش، في هدوء تام، أول فجر في رمضان، بعد الأذان مباشرة. وكأنه كان ينتظر لحظة الطهارة هذه، ليغادر الدنيا في سلام.

أبي كان نموذجًا للرجل البسيط، الطيب القلب، المسالم، عاش حياته هادئًا، ورحل في هدوء، لكنه ترك أثرًا لا يمحى، رغم أنه لم يتلق أي قسط من التعليم، فقد أفنى حياته ليعلمنا، ليمنحنا فرصًا لم يحظ بها.

إن كنت ممن لا يزال والده على قيد الحياة، فاقضِ معه أكبر وقت ممكن، استمتع بوجوده، وأنعم بدعواته، كل لحظة معه كنز، وكل كلمة يقولها حكمة لا تُقدّر بثمن، وإن كنت مثلي، ممن رحل آباؤهم، فلا تنسَهم بالدعاء والتصدق على أرواحهم.

الأب هو ذاك الضوء الخفي الذي لا ندرك قيمته إلا بعد أن يخبو.
، هو الجدار الذي يحميك من عواصف الحياة، واليد التي تمتد لتسندك في أصعب الأوقات.

قد نظن أن الزمن كفيل بتعويض غياب الأب، لكن الحقيقة أن مكانه يظل فارغًا، يتردد صدى صوته في قلوبنا إلى الأبد.

بروا آباءكم، وامنحوهم من وقتكم قبل أن تندموا على لحظات ضاعت في الانشغال عنهم.

الأب هو أعمق أشكال الحب، وأكثرها نقاءً، فاستمتعوا بظلهم، وكونوا لأرواحهم أوفياء حتى بعد الرحيل.


 










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة