جيهان زكـى

يا فؤادى لا تسل أين الهوى.. والهوية ؟

الثلاثاء، 28 يناير 2025 01:14 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

"يا فؤادى لا تسل أين الهوى" بيت من أبيات قصيدة "ليالى القاهرة" التى كتبها العظيم إبراهيم ناجى ولحنها الموسيقار الرائع رياض السنباطى وغنتها سيدة الغناء العربى "أم كلثوم" فى واحدة من أجمل أغانيها "الأطلال" والتى أمتعت بها عام ١٩٦٥ جمهورها الغفير من المصريين، عاشقي الهوى ومتذوقي الطرب الأصيل.

حفلات على مسرح الأوبرا، أمسيات إذاعية ووصلات غنائية أهدت لهذه الأغنية المرتبة الأولى بلا منازع فى سجلات تاريخ الطرب العربى..

ما زلنا نتذكر الصوت الرنان لكوكب الشرق وهى تغنى بصوت يملؤه الشجن:

كان صرحاً من خيال فهوى

كيف ذاك الحب أمسى خبراً

وحديثاً من أحاديث الجوى

مرت عقود طويلة منذ عام ١٩٦٥ إلى اليوم...

تغير الزمن وتغيرت المشاهد من الأبيض والأسود إلى الألوان وأتى الله ببشر غير البشر وغير قلوب وثبت أخرى، وتوأم أرواح ونفر أخرى....

له حكمة فى كل مراد وإنها لسنة الحياة...

فإذا بالكلمات الشاجية لأغنية "الأطلال" تأخذ منحنى الزمن ويصعب على شباب هذا الجيل قراءة كلماتها وتعصى تعابيرها على منالهم، تلك التعابير المنمقة التى لضمها ناجى بحرفية "الجواهرجي" كاللؤلؤ المرصوص فى عقد ثمين لأحد أعظم دواوين الشعر فى عالمنا الحديث، ولكن - وحتى لو تغير ما تغير - فإن ضفيرة المشاعر" وراء هذه الكلمات ما زالت حية تنبض فى قلب كل مصري.

فها هم أهل القاهرة يستحضرون بشجن ونوستالجيا الزمن الذى كتب فى أحمد ناجى "ليالى القاهرة" والزمن الذى كان الخيال فيه مازال حيا وكان الوقت يتسع لمنجاة الحبيب وكان المواطن يعتنق الإنسانية وقوامه النفسى يتحلى بضفيرة المشاعر فكان يعرف معنى الهوى حتى ولو كان صرحاً من خيال، ولكن "ليالى القاهرة لم تعد مثلما كانت.

وهنا نقف وننظر حولنا ونتساءل، كيف ومتى انهال علينا الزمان؟ وكيف لم نر غدره؟ متى غفلنا وحل ضفيرة القيم والهوى والإنسانيات وأصاب الجسد بالمرض وأوهن الروح بالخذلان بل وصيغ الحياة بألوان قائمة طالت عمق المجتمع ومظاهر الخلافات والتعديات والاعتدات البشرية، ما هو سبب هذا الكم من الرعونة وقسوة القلب والعنف غير المسبوق وغير المعتاد فى مجتمع عرف منذ فجر البشرية بالسماحة والكرم وحسن الأخلاق؟

تمر الأيام على منزلقات السنين فى "ليالى القاهرة وتعلو نبرة الاحاديث التى تتقاطع كلماتها وتتباين أسئلتها وتتمحور حول هذا الشعور الغريب الذى يسيطر على الجميع.. شعور بالحزن وإحساس بالفقد والافتقاد.. افتقاد الانسانيات والمشاعر الدافئة بل وأحاديث تعكس خذلان وصدمات من القريب قبل البعيد.
وها هى الأم تنبه ابنتها من أصدقائها وزوجها من زملائه وترى الحسد فى عيون العائلة وتحذر من الاختلاط بالمجتمع وترى التواصل وسيلة تعدى على الخصوصية وخصال كثيرة أصابت الأسر المصرية بكل شرائحها بما اسميه "سرطان مجتمعي".

فى إحدى ليالى القاهرة، لم يكن السؤال كما طرحه ناجى كيف ذاك الحب أمسى خبراً، ولكن "كيف ذاك العنف أضحى واقعاً" وذلك أمام أحد الحوادث التى أفزعت المجتمع بأكمله وأصابته بالذعر، حيث قام أحد المارة فى صعيد مصر بالاحتداد على جاره، والاعتداء عليه بالضرب ثم الإطاحة برأسه من فوق جسده أمام المارة فى ثبات نفسى مذهل ونظرة تحد سوداء!

ذهول ذعر أصاب أهل هذه المنطقة..

المنطقة التى وقعت فيها هذه الحادثة هى منطقة أبو الجود فى مدينة الأقصر التراثية ولمن لا يعرف حى أبو الجود هو من الأحياء القديمة فى الأقصر والمعروف بالأصالة وعبق التاريخ، حيث إنه يبعد فقط بضعة كيلومترات عن موقع معابد الكرنك وهو أحد المواقع الأثرية الأشهر فى العالم وهو أكبر دار عبادة فى العالم القديم والحديث كرس لعبادة الله واحد وكان الإله آمون رع وقد تم بناؤه على مراحل كثيرة وعديدة، منذ الدولة الوسطى، أى فى الألفية الثانية قبل الميلاد، وحتى العصر البيزنطى وحينما أتى الرحالة العرب فى القرن السادس الميلادى، ووقفوا مبهورين أمام هذه الأبنية الشاهقة وما حولها من سور عظيم، فأطلقوا على هذا الموقع اسم "الخورنق" أى "القلعة" وهو نفس الاسم الذى تحول إلى اللاتينية فيما بعد بسم "الكرنك"

وأقول قولى هذا لأشهد أن حى "أبو الجود" فى مدينة الأقصر يجسد صفحة من صفحات تطور تاريخ البشرية وتحت على مر العصور قوام الشخصية / الهوية المصرية وما زال يحمل بصمتها ومن يتجول فى هذا الحى العريق المكتظ بالسكان يرى أيضا أحد أكبر وأقدم المخازن الأثرية التى تضع فيها البعثات الأجنبية القطع الفنية التى يتم العثور عليها أثناء عمليات الحفائر الأثرية والذى حمل اسم المنطقة والمعروف بمخزن "أبو الجود". فكيف اذا يتحول انسان "أبو الجود من بناء للحضارة إلى رجل فقد عقله وقلبه وتخلى عن عناصر الهوية التى هى راس حرية الحضارة !

حدث عارض أم ظاهرة مجتمعية تستحق وقفة من القائمين على الشؤون الاجتماعية؟

اعرف أن هناك تحقيقات فى ملابسات هذا الحادث وليس عندى ادنى شك أن الحكومة ستتعامل بما ينبغى لاعمال ميزان العدل وستقوم المؤسسات المجتمعية بدراسة تبعيات الحادث على العائلات المعنية وأسر الجوار ولكنى اود هنا أن أنبه أننا لا يجب أن نخسر أحد اقوى مقوماتنا: الإنسان، وجزء أصيل من قوام الانسان المصرى وأحد سماته المميزة هى "الإنسانيات" فهو يعملها فى حياته اليومية منذ بدء الخليفة وحتى اليوم، بل وسجلها على جدران المعابد وعلى البرديات لتبقى فى الذاكرة ويجترها حينما يريد أن يستدعيها.

وهنا تستدعى المقولة الصوفية الشهيرة للإمام ابن قيم الجوزية فى النصف الأول من القرن الثامن الهجري،  كلما ظهر القلب رق، فإذا رق راق، وإذا راق ذاق، وإذا ذاق فاق. وإذا فاق اشتاق، وإذا اشتاق اجتهد، وإذا اجتهد هبت عليه نسائم الجنة فيفرح بالطاعة، ويصير من أسعد الناس....

أسعد الناس

السعادة...

أأصبحت السعادة فى زمننا هذا صرحاً من خيال ؟

أم أمست خبرا وأحد أحاديث الجوى ؟

وحتى إذا هوى صرح " الهوى" وفق ما جاء فى قصيدة احمد ناجى الحزينة، هل مذاقه وتجلياته مازالت باقية؟ وهل سيكفى المذاق والذاكرة لتكون كالحصن الذى يتصدى للكره ويجابه الزيف والعنف والانغلاق...

ودائما للحديث بقية...










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة