اعتقد ان الحديث الأبرز الذي شغل المجتمع المصري في الأيام الماضية وجعل كثير من الأُسر المصرية تَنزعج وتُصاب بالفزع والقلق، كان هذا المشهد الحزين الذي تصدرته طالبات في طور الاعداد والتنشئة في فناء أحد المدارس المصرية.
صدمة كبيرة لمجتمع يحاول ان يتماسك في ظل كثير من التحديات النفسية والمادية التي تنهال عليه في ثنايا يومه ويحاول أيضا ان ينأي بنفسه عن أي مصدر للتوتر او العنف..
انزعجت الأسر وغضب أهالي طلاب المدارس..
شعور مبرر ومفهوم، فقد ضربهم القلق على مستقبل أولادهم بل و على مستقبل جيل بأكمله سيصبح خلال سنوات قليلة ـ وفق لسنة الكُون – هو المسؤول الأول عن الدفاع عن "الوطن" في ماضيه وحاضره و غده و سيصبح أيضا "حائط صَد" بشري امام هذا الكم الهائل من التحديات من حولنا إقليميا و دوليا.
لن أدخل في تفاصيل الحادث الذي تناولته وسائل الاعلام طولا وعرضا وانما اود وبموضوعية شديدة ان اتعرض لاحد عناصر هذه القضية المجتمعية وهو عنصر "العُمر".
نعم.. العُمر!
نعرف جميعا ان العُمر هو الامتداد الزماني الذي يحد فترة حياة الإنسان، من الولادة إلى الممات.
ولكن ما نغفله أحيانا كثيرة، مع سرعة إيقاع الحياة، هو ان العمر ـ مما لا شك فيه ـ هبة إلهية ثمينة وان "الاستثمار في العُمر" لهو السر في تقدم البشرية و حجر الزاوية لرقي مجتمعات الدول الكبرى.
ولعل أول سؤال تبادر إلى ذهن مشاهد هذه الحادثة الحزينة هو: كم عُمر هؤلاء الصبية الذين يتعاركون بهذا العنف ويتراشقون بألفاظ يصعب على الآذان تقبُلِها؟
أسئلة أخرى تلحق بهذا السؤال..
ما هذا الزمن المتردي الذي نري فيه مثل هذه الحوادث التي تتسم بـ"اللا اخلاق" و التي تتجسم داخل قلاع"الاخلاق" أي "المدرسة"؟
وهنا يأتي السؤال الجوهري و الذي اطرحه بصدق و وضوح و بوعي عميق: هل يعي الإنسان المصري قيمة العُمر؟ وهل يُدرك أن كل طلعة شمس لكل يوم من أيام هذا العمر هي منحة من الله سبحانه وتعالى سيحاسب عليها وعلى ما فعله بها وفيها؟
هل يدرك ان رحلة العمر تترادف مع مرور االزمن وترتبط بإدارة الوقت و حسن استثمار الأيام والساعات الأربع و عشرين؟
اسمع القارئ يعلق على هذه الأسطر ويقول: وما علاقة ما حدث بين الطالبات في فناء المدرسة وبين العُمر وإدارة ايام العُمر ؟
دعوني أوضح ما اري في هذا الربط الذي يبدو بعيدا لاسيما قريبا بل منطقيا.
يبدأ العُمر من لحظة الميلاد و يمر بمراحل مختلفة بداً من مرحلة الطفولة التي تمر بوتيرة أبطأ بكثير من باقي مراحل العمر التي تركض من خلالها الأيام و السنين.
جزء كبير من هذه المرحلة، اقصد مرحلة الطفولة، تقع الان تحت طائلة التطور السريع الذي قد يجعل الطفل - منذ شهوره الأولى - يخضع الي تاثيرات خارجية تخرج عن سيطرة الاهل، لانه و بمنتهي التلقائية، ينظر إلى شاشة تعكس له الدنيا بأسرها، فيستعيض بها عن الحديث مع الام، فاذا به يتعلم من خلال هذه الشاشة، و ينطق بما تقوله و يتذوق وجباتها الفكرية الساحرة، أكانت من خلال لعبة الكترونية أو شاشة تابليت او التليفون الذي تحمله أمه أثناء رضاعته كما نري كثير من الأمهات الشابة – الماميز ـ تفعل اليوم بشكل تلقائي.
إذاً..
فلا يجب علينا ان نتوقع ان هذا الطفل يستجيب بشكل طبيعي لقواعد التربية والتنشئة التي عرفها من جاؤا قبله الي الدنيا من أطفال..
وهنا السؤال يطرح نفسه: اهي مسؤولية الطفل؟
ام الأشخاص المصاحبين لنشأة هذا الطفل و المنوطين بتكوين إنسانا سويا قادرا على مواجهة المجتمع بقوام ممدود وبمحتوى محمود؟
وهنا نسترجع ما تركه لنا حكماء مصر القديمة عن دور الام الجوهري في التربية حيث قال االحكيم "آنى" و هو ينصح ابنه بقوله
"أطع أمك واحترمها، فإن الإله هو الذى أعطاها لك، لقد حملتك فى بطنها حملا ثقيلا ناءت بعبئه وحدها، دون مساعدة وعندما ولدت، قامت على خدمتك، أم رقيقة لك، ثم أرضعتك ثلاث سنوات، فتذكر أمك التى ولدتك.. لا تدعها تلومك وترفع كفها إلى الإله فيسمع شكواها" وفي سفر التثنية 5: 16 نقرأ:" أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ كَمَا أَوْصَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ، لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ، وَلِكَيْ يَكُونَ لَكَ خَيْرٌ علَى الأَرْضِ وفي سورة مريم، قال تعالي:" وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا".
و في سياق متصل، جاء علي لسان شعراء مصر الحديثة مثل حافظ إبراهيم: "الأم مدرسة إن أعددتها أعددت شعب طيب الأعراق" و الذي شبه فيه شخص "لأم"َ بالمدرسة اذ ان
السنوات الأولى في عمر الطفل تعتبر بمثابة "خريطة طريق" في هذه الحياة، ترسم كالوشم علي الروح و الوجدان و تهديه خطوطها الي سكة السلامة او تلك السكة المظلمة المسدودة بلا امل في العودة.
عزيزي القارئ، اقتناعي يتأصل يوما بعد يوم، من المعرفة التي نهلتها من اجدادي الحكماء و المفكرين و العالمين بامور الحياة، ان الأم هي التي تَلِد فتمنح نبض الحياة .. ثم تشكل قوام الانسان و تضمن سواء نفسه ليخطو بثبات طوال رحلته التعليمية والمهنية.
ف"التعليم هو حق لكل مواطن، هدفه بناء الشخصية المصرية والحفاظ على الهوية الوطنية، وتأصيل المنهج العلمي في التفكير، وتنمية المواهب وتشجيع الابتكار، وترسيخ القيم الحضارية والروحية، وإرساء مفاهيم المواطنة والتسامح وعدم التمييز" كما جاء في نص الدستور المصري لعام ٢٠١٤الذي خصص خمس مواد كاملة لقضايا التعليم.
اين نحن من نص الدستور على ضوء مشهد المدرسة "الإنترناشيونال" الذي نحن بصدده، والتي يملك طلابها إمكانية نشر الفيديو بهذا القدر وفي الدوائر العليا المتصلة بالإعلام؟ وهل هذا المشهد هو واقع يتكرر بين طلاب المدارس بشكل عام؟ ام هي حالة فردية استثنائية؟
بقولي هذا فاني اؤكد ان المدرسة كما ذكرت هي "قلعة الاخلاق" وعلينا الإبقاء على دور هذه القلاع
ولا عذر ابدا لاي مدرسة من التخلي عن أداء دورها في التربية قبل التعليم!
وفي طرح تكميلي، هناك معطيات جديدة من حولنا، نخوض غمارها وتجعلنا نعيد حساباتنا لنضع نصب اعيننا حقيقة واضحة وهي ان مرحلة تنشئة الطفل وتشكيل قوامه النفسي أصبحت ترتكز بشكل يفوق بأضعاف ما كان عليه الوضع من قبل ـ قبل حتى ان تطأ رجله الصف الأول الابتدائي ـ نظرا لتعرضه الي مؤثرات خارجية مهيمنة على الفكر ومشوشة للسمع والبصر، وهنا عند دخول الطفل المدرسة في اول احتكاك مجتمعي، يكون حينها اما حاملا في جعبته النفسية ما رسخت فيه امه من قواعد
الاخلاق وأحكمت حلقات سلسة القيم حول قوامه او – للأسف – أرجحته على منزلق الغرائز بعد ان التهمت شاشات الألعاب والهواتف سنوات عمره التأسيسية.
واسمحوا لي هنا ان اهمس في اذن الام المصرية وأُذكرها في زحمة أيامها وأحيانا تيهتها على دروب وسائل التواصل الاجتماعي، ان "الوقت" الذي تمنحه لابنها في عمره الأول هو أثمن ما يمكنها اهدائه اياه، فهو أغلى وأرفع من الشهرة والمنصب وأطول امدا من أي استثمار آخر لأنها تمنحه رأس مال من التربية وااقيم والمبادئ فيها ربحه في هذه الدنيا.
أعرف أن الأم والأب يسعون خارج المنزل ليلا نهار من أجل لقمة العيش ومن أجل توفير الحياة الكريمة لأولادهم في هذه الأيام الصعبة التي تمر بها المجتمعات علي أثر الأزمة الاقتصادية فهم أيضا منهكين من السعي و الجري فبشكل غير ارادي يحاولوا ان يعوضوا منح " الوقت" الثمين بالسلع الثمينة!
يعتقد الكثير خطأً ان واجب الأهل تجاه أولادهم هو إلحاقهم في مدرسة دولية و غالبا ما تفوق مصاريف هذه المدرسة إمكانياتهم المادية اقتناعا منهم بأن المدرسة ستقوم بدورهم وستعطي لأولادهم التربية بجانب التعليم ..
المدرسة تستكمل دور الام و لا تعوضه ابدا و لن يكون هذا !
دور المدرسة تكميليا، ياتي ليشكل مكتسبات إضافية للشخصية و يمنح ـ بجانب المعارف و نور العلم ـ تفاصيل و تدابير في التعاملات و الاحتكاك بالمجتمع و يثقل الخبرات التاسيسة و اختيارات الحياة بين كفتي ميزان الخير و الشر و بين نور القلب و ظلماته.
و للحديث بقية..