مايكل فارس

قادش ومعاوية والجولاني.. جيوسياسية سوريا الملعونة (1)

الخميس، 23 يناير 2025 07:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لماذا لم تتمكن سوريا من بناء إمبراطورية مترامية الأطراف قوية متماسكة، مثلما فعل جيرانها، منذ فجر التاريخ، قامت بمنطقة الشام الكبير ممالك صغيرة، دائما ما تخضع للإمبراطوريات المجاورة لها، لم تتمكن يوما من التوحد كمملكة قوية تغزو ما حولها مثلما فعل المصريين القدماء أو الأكاديين أوالأشوريين أو البابليين، أو الحيثيين، أو الفرس، سوى مرة واحدة عبر التاريخ في عهد الدولة الأموية التي أسسها الخليفة معاوية بن أبي سفيان قرابة 90 عاما فقط، تاريخ ممتد لآلاف السنين ولم تسيطر على جيرانها إلا تلك المدة.

الجغرافيا تصنع التاريخ، والثغور الرابطة بين القارات أشبه بمفاصل الأذرع والأرجل، فسيناء في مصر تمثل جسراً ذهبيًا يربط قارة إفريقيا بأسيا، ينقل الحضارة كقوافل تجارية، وتتلاطم أمواج التاريخ بين الشرق والغرب عبر البوابات المائية بمضيقي الدردنيل والبسفور في تركيا كأنها خيوط عنكبوت تربط الأفكار والثقافات، بينما تتوسط إيران القارة الآسيوية، فتربط الشرق الأوسط بآسيا الوسطى، وقد شكلت تلك الجيوسياسية مثلث رعب ذات أهمية كبرى صنعت تاريخ العالم القديم وما زالت.

منذ أمد بعيد، ارتبطت أرض الشام بموقعها الاستراتيجي، فهي نقطة التقاء بين قاراتٍ ثلاث، آسيا، وأفريقيا، وأوروبا، إلا أن هذا التلاقي كان ساحة صراع الدول الكبرى عبر العصور، وقد  شهدت حضارات محلية عظيمة ومماليك قوية، وصلت لأوج عظمتها في مملكة أوغاريت – سواحل اللاذقية - لكنها لم تعرف السكون قط، ولم تتمكن من بناء إمبراطورية مترامية الأطراف، قوية الجذور، ظلت كالعصفور الذي يعشعش على حافة البحر، لا يستقر في عشه، يتقلب بين رياح الأٌقوياء العاتية، لم يُكتب لها أن تتوحد أو ترفرف على أجنحة الإمبراطوريات الحضارية العظمى كمصر والعراق وإيران، أو العسكرية كالحيثيين – أراضي الأناضول- حتى عندما توحدت تحت راية الأمويين، كان هذا التوحد قصير الأمد، دام تسعين عامًا فقط في بحر الزمان الغابر الممتد لآلاف السنين، ليعود بعدها الصراع على العرش في قلب الشام، كدوامة لا تنتهي.

جغرافيا سوريا ورهانات التاريخ ولعبة النفوذ

بلاد الشام، ما بين أنهارها وسهولها وجبالها، كانت دومًا ساحة حرب وصراع بين القوى الكبرى، فحملتها الجغرافيا بين أذرعها كطفل يتقاذفه الكبار فيما بينهم، كِمِت منذ فجر التاريخ أرست عمدان قوتها على أرض صلبة بنيل عظيم، امتلكت القدرة على السيطرة والتمدد، جنوبا وشمالا وشرقا، في معركة على السيادة لا تنتهي، فبعد أن طرد الملك أحمس حوالي (1580 ق. م)، أولئك الهكسوس، الذين جاءوا من أراض كنعان، أدرك تماما أن أمن بلاده يبدأ من فلسطين، وخلفها سوريا، لتصبح قاعدة ذهبية يتبعها حكام مصر فيما بعد، فشكلت مصر القوة المهيمنة في الشرق الأدنى، ولم تكن الشام إلا جزءًا من مجال نفوذها.

لعبة النفوذ والسيطرة مستمرة في شطرنج التاريخ، وبينما كانت مصر مشغولة بتوسيع سلطانها على أرض الشام، أخذت مملكة ميتاني- غرب الفرات وشمال سوريا- تستجمع قوتها في الخفاء، وحاولت مثلما تحاول الرياح أن تقتلع الجبال، المنافسة على الهيمنة وقطع أرجل النفوذ المصري، وذلك في بدايات عهد الملكة حتشبسوت، تلك الأنثى التي أحدثت جلالا بتوليها حكم مصر.

خلال حكمها الذي امتد قرابة 20 عاما، حوالي عام 1478 - 1458 قبل الميلاد، كانت خلالها وصية على ولي العهد تحتمس الثالث، بزغت شمس الازدهار على "تاوي" وإبان ذلك شعرت بعض الممالك والدويلات في الشام بالاستياء من الهيمنة المصرية المتزايدة، فشكلوا تحالف من حوالي 23 مملكة ومدينة تزعمه ملك قادش - تقع على نهر العاصي في سوريا الحالية- انضم إلى هذا التحالف مملكة ميتاني التي كانت تسيطر على مناطق في شمال سوريا وبلاد ما بين النهرين، كان هدفه الرئيس، هو طرد النفوذ المصري من الشام واستعادة استقلالهم.

حين اعتلى تحتمس الثالث العرش، بعد انتهاء وصاية حتشبسوت، سمع بذلك التحالف فقرر الزحف كرياح عاتية عبر صحراء سيناء، بجيش عظيم في اتجاه الشام، لملاقه أعداءه، في مجدو شمالي فلسطين، تلك البقعة الاستراتيجية، التي أحكم فيها ملك قادش تحصيناته ودفاعاته، متوقعًا أن الجيش المصري سيأتي عبر أحد الطريقين المعروفين، الشمالي أو الجنوبي، إلا أن ملك مصر الشاب استل سيف الحزم وقرر اختيار طريق ثالث، ممر عرونا -وادي عارة حاليًا وهو ممر جبلي ضيق ووعر يمر مباشرة عبر جبال الكرمل، ويؤدي مباشرة إلى مجدو من الجنوب.

المفاجأة أربكت التحالف، دخل تحتمس بجيوشه فسحقه، حقق نصرا حاسما (حوالي 1457 ق. م)، لتصبح الممالك بالمسميات الحديثة غرب العراق وسوريا الحالية والأردن وفلسطين ولبنان وجنوب تركيا جميعا تحت الحكم المصري، وفرض عليهم الجزية جميعًا.

رقص الأقوياء على حافة السكين

استيقظت مصر على وقع حرب كهنوتية ضروس، بدأها اخناتون، 1353 و1336 ق. م، إذ دبت الخلافات بين أتباع الإله الجديد آتون، وأتباع إله الآباء والأجداد آمون، فشغف الملك بتغيير الدين لصالح أتون لم يترك مجالًا لسماع نداءات المستغيثين من أمراء ممالك الشام الخاضعة لسلطانه، لمساعدتهم وحمايتهم من تهديدات القوى المجاورة، وهو ما كشفت عنه رسائل تل العمارنة التي كانت تصرخ بتجاهل اخناتون وخذلانه لهم.

 قويت شوكة مملكة ميتاني، ونهضت مملكة الحيثيين في الأناضول، حتى بدأ أعداء "تاوي" يقتطعون هيبتها، وتضاءل بريقها في سماء المشرق، فلم تعد مصر وحدها من تحكم رقصة القوة، زاحماها على مسرح الامبراطوريات، وأعدوا أنفسهم ليكونوا التهديد القادم على أرجل صلبة، فتمكن الملك الحيثي من السيطرة على ممالك بالشام حتى استولي على قادش، ومع صعود الملك رمسيس الثاني على العرش، قرر استعادة حدود بلاده، لتبدأ حرب تكسير عظام بين أكبر إمبراطوريتين في التاريخ القديم، وبدء باستعادة الأراضي والنفوذ حتى وصل إلى قادش، لتحدث حرب كبرى بها(1274 ق. م) وحاصرها، إلا أنه في النهاية لم يتمكن من استعادتها، بينما وضع حدودً للدولة الحيثية لا تتجاوزها، لتنتهي الحرب بالتعادل، عبر معاهدة سلام هي الأولي في التاريخ بين كِمِت والأناضول.

صعود نجم وأفول آخر

كانت وما زالت سوريا مرآة تعكس القوى الموجودة على الأرض، يزاحم فيها الجميع على الصدارة، تعاظمت قوى صاعدة جديدة كالأشوريين والبابليين في العراق، في توقيت بدأ نجم مصر يخفت، وبين عصور ملوك مصر الذهبية وبدء أفول قواها، وطموحات الحيثيين، بزغ نجم الفرس فأسسوا الإمبراطورية الفارسية الأخمينية الأولي لتُخضع الإمبراطوريات القديمة في مصر والعراق وسوريا وتركيا..

صعدت مملكة الفرس بقيادة كورش الكبير حوالي 550 ق.م. لتؤسس الإمبراطورية الأخمينية، و دخلت سوريا تحت ظلها، ثم جاء الإسكندر الأكبر القرن الرابع قبل الميلاد، ليدمرها، ويضم ممتلكاتها لامبراطوريته التي انقسمت بين جنرالاته، لتصبح الشام تحت لواء سلوقس مؤسس السلالة السلوقية وشملت العراق وإيران وأفغانستان وسوريا ولبنان بمسميات العصر الحديث، بينما مصر كانت من نصيب بطليموس مؤسس سلالة البطالمة.

يأفل نجم الإغريق رويدا رويدا، فهذا التسيد لم يكن سوى حلقة في سلسلة تقلبات الزمن وحروبه، فتمكنت قبائل البارثيون في إيران من انتزاع أراضيها من سيطرة السلوقيين، وخلال القرنين الثاني والأول قبل الميلاد، أسسوا الإمبراطورية البارثية التي انتزعت كل فارس والعراق من السلوقيين، ليبزغ نجم الرومان الذين استولوا على ممتلكات السلوقين ومصر وتأسيس امبراطوريتهم، فيدب الضعف في الإمبراطورية البارثية تدريجيًا بسبب الحروب مع الرومان، والصراعات الداخلية، التي أدت لثورة أحد القادة من نسل الكاهن الزرادشتي "ساسان"، ليؤسس الامبراطورية الفارسية الثانية تحت لواء الساسانيين 224 ميلاديًا.

أصبح العالم القديم منقسم لقوتين عظيمتين الإمبراطورية الفارسية الساسانية والإمبراطورية الرومانية التي انقسمت فيما بعد لغربية وشرقية سميت بالبيزنطية، وأصبحت الشام خاضعة لها، ليسطر التاريخ سطرا جديدا، بسطوع فجر القوى العربية الإسلامية الجديدة.. عهد الخلافات الإسلامية.

وللحديث بقية في المقال المقبل..










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة