شقوق عميقة ضربت المجتمع الإسرائيلى، وطبقته السياسية على وجه الخصوص. ما زال نتنياهو والدائرة اليمينية من حوله ينكرونها؛ لكن الغالبية يُقرّون بها عَمليًّا، ويدعون بكل الصور إلى عدم التعالى عليها، وضرورة الوفاء باستحقاقاتها الواجبة فى الفحص والمراجعة والتصويب. دولة ملفّقة وباغية ونازيّة الطباع؛ لكنها دولة فى النهاية.
يحق لكل ذى ضمير أن يكره الصهيونية الاستيطانية المتوحّشة؛ بل يتوجَّب عليه أن يُناصبها العداء، وألَّا يوفّر فرصةً لاختصامها وإدانتها. ويليق بكلِّ صاحب عقل أن يُوازِنَ بين الانحياز الأخلاقى والقراءة العمليّة الواعية؛ ليرى ما وراء التجربة من مُحرِّكات تدفعها وتُقوّم مسارها، من زاوية أنها مشروعٌ تُقاس جدارته لدى أتباعه، بمقدار ما يُؤَمِّنه من مصالحهم، وما يستدركه على أخطاء إدارته، وبحجم قُدرته على تخليق الجدل الداخلى من دون سقف، وتصفيته من دون صداماتٍ حارقة.
الانطلاقة البديهية أنه لا حقَّ لهم فى فلسطين، وقد زُرِعوا فيها لأهدافٍ امبرياليَّة أرادها الغربُ أوّلاً، وتجنّدت فيها طائفةٌ من اليهود فى علاقة تخادُمٍ ومنافع مُتبادَلة. وبعدما نقفز الضابطَ الضميرىَّ؛ فإنَّ رؤية إسرائيل على وجهها الصحيح ليست شرطًا للنجاة من مُكايداتها فحسب؛ بل ضرورة وجوديّة لإدارة المُنازَعة معها، واستغلال نقاط ضعفها، واستخلاص خطط ديناميكيَّةٍ خلاّقة للاشتباك معها، والانتصار عليها؛ إن كُنّا نبتغى إلى الانتصار الحقيقى وغير المُشوَّه سبيلاً.
تفعل الدولة العِبريَّة كلَّ ما يتوجَّب على خصومها، وما هُم أحوج إليه منها. ربما لا يملكون مساحةَ الدعم التى تتمتَّع بها من العالم الأنجلوساكسونى؛ إنما فى مقدورهم أن يتوصّلوا بسهولةٍ لِمَا دون ذلك من عناصر القوّة، وأهمّها امتلاك بِنيَة مؤسَّسية كفؤة وراسخة، واختبار آليّة إنتاج السلطة وتنقيحها بالوسائل الديمقراطية، وبناء حالة إجماعٍ وطنىٍّ حاضنة فى المُلمَّات والمفاصل الوجوديَّة، والتوصُّل لصيغةٍ من الحوكمة وسيادة القانون؛ ولو لم تكن مثاليَّةً تمامًا.
كانت فلسطين بلدًا مأهولاً قبل «سايكس – بيكو» وبعده، والانتداب البريطانى لم يكن على أحراشٍ وفضاءات خالية من المَدنيّة والعُمران. وإذ تدفّقت الهجراتُ اليهودية عليها، وتشكّلت العصاباتُ الصهيونية فى أحشائها؛ فإنَّ المجتمع العربىَّ وقتَها قد استرعاه الخطر الطارئ، واشتغل على مقاومته فعلاً؛ لكنه لم يتحرّك معه على طريق المُنافسة، من زاوية تقوية المظاهر النظاميَّة، ومَأسَسة الوجود الأصيل، ونَظْمِه فى مرافق وفعاليات سياسية واجتماعية مُحدَّثة.
لعبت السلطنةُ العثمانية دورًا سلبيًّا من دون شَكّ. ابتداءً من مَسخ الولايات التابعة وتحجيم نموِّها المَدَنىِّ، ثمَّ التسليم السهل أمامَ مشروع الاستيطان الذى لاحت بشائره على مرأها منذ أواخر القرن التاسع عشر. استهانت بالأمر أوّلاً؛ ثمّ اكتفت لاحقًا باستنقاذ الأناضول، وتَرك رعايا الشام المنكوبين فى العراء أمام الهجمة الشرسة من الخارج.
لا لومَ على الوجهاء والعوام فيما كان فى زمن النكبة؛ وقد تغلّبت العصاباتُ المُؤهّلة على مسرح الحرب العالمية الثانية، والمدعومة من صفوة الامبراطوريات المُهيمنة وقتَها، على ستّ جيوشٍ عربية، أو مُمثّلين عنها.
إنما اللوم كلُّه على ما كان طوال خمسين سنة سابقة تقريبًا، وقد تقدّم الوافدون على طريق بناء المستوطنات وتنظيمها، ورَبطها ببعضها، وتأهيل الهياكل الحاملة لمشروع الدولة المأمولة، بينما ظلّ أصحابُ الأرض أقربَ إلى جيوبٍ معزولة، وإلى مدنيّة ظاهرة تُطوّقها البداوة المُضمَرة.
لم تطرأ الصهيونيّةُ علينا بين عشيّةٍ وضُحاها، كما أنَّ فعالياتها التنظيمية لم تَنبُت من العدم. بين قرار التقسيم وإعلان قيام دولة إسرائيل أقلّ من ستّة أشهر، وفجأة اكتشفنا أنَّ لديها جيشًا نظاميًّا على أعلى مستوى، وأبنيةً تنفيذية قادرةً على الاضطلاع بمهامها من اليوم الأوَّل.
هيمنت على فلسطين إلَّا قليلاً، وفرضت شروطَها فى ساحة الحرب، وأجبرت مُحيطَها على تسوياتٍ ظالمة، وفى غضون سنوات كانت ضلعًا ثالثًا فى العدوان البربرىِّ على مصر مع أهمّ امبراطوريتين باقيتين من رُكام العالم القديم، وخلال أقلّ من عقدين صارت خنجرًا فى خاصرة دُوَل الطوق، وابتلعت ستّة أضعاف حجمها المنصوص عليه فى ورقة الأُمَم المتحدة.
فُوجِئ الآمنون بالهجمة الشرسة؛ فما كان بإمكانهم أن يتحضّروا لها استباقًا، ولا أن يمتصّوا تداعياتها على وجه السرعة. هكذا نُبرِّر لكى لا نتوقَّف طويلاً أمام فتنتنا الدائمة بالإغراق فى نظرية المُؤامرة، وتعليق إخفاقاتنا على الآخرين وحدهم. فماذا عن ثمانية عقودٍ تقريبًا منذ النكبة؟ وأقلّ قليلاً بعد نكسة يونيو، وماذا عن كلِّ الفرص الضائعة بعد أكتوبر 1973 إلى ما قبل طوفان السنوار؟
ارتاح الضحايا طويلاً إلى الحالة الفصائليَّة المُبَدِّدة للطاقات. وعلى كثافة ما أُنفِق من وقتٍ وجهدٍ وتضحيات لأجل التوحيد، ولمعانِ أثر التلاقى على رؤيةٍ واحدة فى ثوب مُنظَّمة التحرير، بما أفضى إليه من نجاحاتٍ ملموسة فى إعلان الاستقلال، ووقوف «عرفات» خطيبًا على منبر الأُمَم المُتَّحدة، واتفاق أوسلو باستنهاضه لبذرة الدولة من العدم؛ فإنَّ الغرام القديم سرعان ما تجدَّد، وتأجَّج فى الصدور، وعادت القضية لسيرتها الانحلاليّة الأُولى.
وبإمكان العابر على الوجيعة من الخارج، أن يُهوِّنَ من كلِّ ما سِيق سابقًا على صِفة الإنجاز؛ لكنه فى الغالب لن يُقدِّم بديلاً مُضارعًا فى الحجم والأثر، أو على الأقل أرشد فى التكاليف من تكرارية النزيف المفتوح دون طائل.
ربما لا تكون الثمار القليلة فى سَلّة «فتح ومنظمة التحرير» ناضجةً ومكتملة الاستدارة؛ لكنها محصولٌ لا تُمكن مقارنته على الإطلاق بكلِّ ما سبقه وتلاه، ولا بدوّامة الذهاب إلى البساتين والرجوع دومًا بسلالٍ خاوية.
دار «أبو عمار» دورته الكاملة؛ حتى استكشف الصحيح والمُعتلّ من سُبل المُقاومة، وطبيعة التوازنات المُحيطة بالقضية، وأقصى ما يُمكن أن تتطوّر إليه مع أعلى صور التفاؤل المُمكنة، وأقصى القراءات الوردية للواقع الجيوسياسى، ومُعادلات الفعل والقوّة فى المنطقة والعالم.
ترك الرجلُ نُدوبًا غائرةً فى الأردن، وكان طرفًا مُباشرًا فى إيلام لبنان، وتردَّد بقلبٍ مُؤمن وعينين زائغتين بين القاهرة وتونس والجزائر، واستقرّ أخيرًا فى رام الله؛ وقد تأكَّد لديه أنه لا سبيل إلى فلسطين إلا فلسطين، ولا معنى للبحث عنها من خارجها، أو اختصام حاضنتها القريبة لاستثارتها؛ دون وعىٍ بأنه يُطوّقها بالنار، كما لا حصافة فى التعالى على الواقع، أو التعامى عن الحقائق الكاسرة.
اختبرت القضيَّةُ نكهتَها الدينية مع عز الدين القسام وأمين الحسينى وبعدهما، وتهاوت فى فخ القوميّة العربية أيضًا، وما ترك المَسلَكان أثرًا إلَّا تعزيز السرديّة اليهودية لدى الاحتلال؛ بينما يؤسِّسُ عقيدته على الصِّفَتين معًا؛ كما لو أنَّ الصهيونية دِينٌ وعِرق.
وأجلُّ ما أحرزته المُنظَّمةُ فى حركيّتها الدائبة، أنها خلصّت فلسطين من القَيدين، وتوصّلت بعد عناءٍ إلى النكهة الوطنية الصافية؛ ليتبقّى الاشتغال عليها وتجذيرها فى الوعى، والاستناد إليها ظهيرًا وحيدًا دون شريكٍ أو مُنازِع.
والحال؛ أنَّ النضال مهمّة إلزامية حتى اكتمال التحرُّر، ومن الطبيعى أن تظلّ أبوابه مفتوحةً للدخول والخروج، وأن تتجدَّد تكتيكاتُه وخطاباتُه المُعلَنَة. لا ثابتَ إلَّا استراتيجية الوصول إلى الدولة الضائعة، ولا قداسة سوى للسرديّة الوطنية الجامعة، وهُما المعيار الوحيد لإلحاق المُقاومين بلوحة الشرف الوطنية أو شطبهم منها، وقياس كفاءة التنظيم وجدارة الفعل؛ بمقدار ما يحفظ الثابت المُستقرّ، ولا يُبدِّد المُتاح أيضًا.
والخطأ واردٌ بالطبيعة؛ إنما الرَّجْعَة فى الاستدراك والاعتذار والتصحيح. فالغاية العُليا والدائمة أن تظلّ القضيّة بصيرةً، وقادرةً على استقراء الشواهد والانفعال بها على وقتِها، وبأَسْلَمِ الطُّرق وأكثرها نجاعةً.
الارتداد إلى الماضى مُضادّ للمنطق النضالى ذاته، واستجلاب التأصيل الحركىِّ من حقولٍ تجاوزتها التجربةُ وتراكماتُها؛ ليس إلَّا غرامًا بالدوران فى حلقاتٍ مُغلقة، وإعلاء للذاتىِّ على الموضوعى، وللأيديولوجى فوق الوطنى.
طرأت «حماس» على القضية فى أواخر الثمانينيات، وبعد الانتفاضة الأولى/ انتفاضة الحجارة بحسب روايتها؛ ولعلّها اتَّخذت طابعَها النظامىَّ وتشكّلت ملامحها بعد ذلك بعدّة سنوات.
وإذ طرحت نفسَها فصيلاً مُقاومًا بمرجعيّةٍ إسلامية؛ فإنها كانت مُجرّد مُقترَحٍ مُعدَّلٍ شَكلاً عن القاعدة الإخوانية فى غزَّة، ثمّ توسَّعت باتجاه الضفة الغربية لاحقًا، ولعبت دورًا مُنافسًا للتيّار النضالىِّ الذى ترسَّخ بجهدِ العقود السابقة.
صحيح أنَّ هالةَ «عرفات» حجَمت أثرَها المبكَّر؛ لكنها ظلّت تُضمِرُ نزوعًا إلى ابتلاع المشهد الوطنى، وفَرض لَونِها على بيئة القضية كاملةً.
كان اليسارُ يُنازع على ما تبقّى من حضوره فى تل أبيب. انطفأ كثيرًا بعد الهزيمة المُرّة على الجبهة المصرية؛ ولم يفقد إمكانية البقاء وطرح أفكاره المعجونة بما وعاه من تجارب الحرب. اقترب «رابين» لباعثٍ أو آخر من دائرة التسوية السياسية، وكان اليمينُ يتجهَّز بنُسخته الأكثر شراسة مع نتنياهو؛ وليست مُفارقةً عابرة أنَّ العَدوّين اللدودين الآن، وُلِدا معًا، وفى وقتٍ مُتزامن تقريبًا قبل ثلاثة عقود!
ما زلتُ أرى أنَّ إسرائيل بلدٌ يَمينىٌّ بكامله، وإلى النخاع؛ حتى يساره يخالِطُه شىءٌ من الفاشيّة؛ لكنَّ المُعادلة تستوجب رهانًا على طرفٍ ما، ومنطقُ أهون الضررين جمعَ بين عرفات ورابين فى لحظةٍ فارقة.
من مدريد إلى أوسلو؛ ثمَّ صارت لفلسطين سُلطةٌ وحكومة، وقدرٌ ضئيل من مظاهر السيادة، مع وَعدٍ بالذهاب إلى قضايا الحلِّ النهائى. تبادلا الاعتراف، وافتُتِحَ مطارٌ فى غزّة، وتعادلت المخاوف مع الطموحات لأوَّل مَرَّة؛ حتى كانت رصاصة إيجال عامير فى صدر رئيس الحكومة.
الاستفاقةُ اليمينية كانت ستنقلب فى كلِّ الأحوال على الترتيبات السابقة؛ لكنها احتاجت إلى مُعادلٍ مَوضوعىٍّ يقلبُ الصورة من الجانب الآخر، ويضمن لها ألَّا تُضطَرَّ للطاولة نفسِها بعدما تُجهِزُ على «عهد رابين”.
كانت حماس احتياجًا عضويًّا لنتنياهو، والعكس أيضًا، انتخبهما القدرُ ساخرًا ولم ينتخبا بعضَهما؛ لكنهما ما إنْ تلاقيا، عَرفا أنَّ مصيريهما مربوطان بخيطٍ واحد، ونار دعاياتهما ووهجها تُوقَد من نفس الزيت.
التفاصيل كثيرةٌ ومُتشابكة، ولا يَسهُل الوقوف على كلِّ الإضاءات فيها يومًا بيوم. ربما كانت النوايا صافيةً أحيانًا أو دائمًا؛ لكن المآلات لم تكن إيجابيَّةً على أىِّ حال.
ظلّت الحركةُ باهتةً لعقدٍ بعد التأسيس؛ ثمَّ التمَعَت بدءًا من انتفاضة الأقصى. يُذكَرُ أنه بينما تتداول قمَّة بيروت فى «المُبادرة العربية» بالعام 2002، وجّهت عناصرَ القسّام للتصويب عليها فى داخل إسرائيل.
كانت سببًا بسفينة السلاح على ساحل غزَّة فى حصار عرفات بالمُقاطعة، وانقلبت على إرثه ومُنجزه بعد انتخابات 2006، وساعد نتنياهو فى تأجيج أسطورتها بصفقة شاليط فى 2011، وجولات «جزّ العُشب» بين وقتٍ وآخر، بحيث لا تغرق ولا تطفو، وتحصد فائض العاطفة من الداخل والخارج.
الذهنيّةُ واحدةٌ، ولا فارقَ بين السنوار ونتنياهو إلَّا الجهة التى يقف فيها كلُّ منهما؛ لكنهما يتعاطيان القضيّةَ من الزاوية نفسها: الأيديولوجيا والإلغاء والخطابات الحارقة.
كان طوفان الأقصى خطيئةً تحت عنوان نبيل، وعملية السيوف الحديدية أو «حرب القيامة» كانت طوفانًا عَمديًّا فى ستار الطوفان الساذج. ولا أحدَ منهما أقرَّ بالخطأ والفشل، أو اعتذر عمَّا جناه على بيئته وعلى الآخرين؛ لكنَّ الدولة الظالمة ما تزالُ قادرةً على التفتيش فى أوراقها، بينما محتكرو القضية العادلة يتصرّفون كأنه لا يأتيهم الباطل من أمام أو وراء.
يتشدّد زعيمُ الليكود فى إنكار مسؤوليته عن الإخفاق العارم فى السابع من أكتوبر، ويحتفل الحماسيِّون بالنصر على جبلٍ من الركام والأشلاء. وفى الأثناء؛ يستقيلُ رئيس أركان جيش الاحتلال، هرتسى هاليفى، معترفًا بالتقصير فى الطوفان.
قدرٌ ضئيل من العقل فى مناخٍ شديد الجنون؛ هذا لو نظرتَ من جهة العدوّ، بينما تنسدُّ الآفاقُ كُلُّها إن بحثتَ عن عاقلٍ رشيد يُصارح نفسه قبل الجمهور بالأخطاء، ويتراجع خطوةً واحدة على الأقل؛ ليُوحى بأنه قادرٌ على أن يكون شجاعًا إلى آخر الخطّ.
الاستقالةُ انطوت على اعتذارٍ صريح؛ وإن جاءت مشفوعةً بالحديث عن مُنجزاتٍ لاحقة على سبع جبهات، بحسب ما يُردِّد نتنياهو نفسه. وإذ كان «هاليفى» يُبشِّر بها منذ شهورٍ خلت؛ فإنه انتظر حتى إبرام صفقة وقف إطلاق النار وتبادل المُحتجزين؛ ليُلقِى القفَّازات والنياشين مُعترفًا بأنه ما اضطلعَ بواجبات التكليف، ولا كان على قَدر اللحظة، وعيًا وجاهزيّة واستباقًا.
والرسالةُ التى يُقدّمها الظَّلَمةُ ويفتقدُها الأطهار؛ أنَّ المناصب أعباءٌ لا مزايا، ويُنتدَبُ لها الناس وفقَ تعاقُداتٍ واضحة ومُلزِمة، ويُنَحَّون عنها بمُقتضيات المُساءلة والحساب. وإذا كان المرء شوّافًا وذا ضمير وطنى؛ حتى فى الأوطان المُجرمة، فإنه يُبادر إلى ما يستشعرُ ضرورته، ويعلم أنَّ الأمور لا تستقيم بسواه؛ إذ لا أحدَ فوق الدولة، ولا أنبياء تُعقَدُ لهم الولايةُ مرَّة وإلى الأبد.
والحقّ أنَّ المقاومة ليست سُلطةً، ولا عملاً تنفيذيًّا، وهى مهمّة فداء تتّصل باتصال الاحتلال، ولا تنقضى الحاجة إليها إلَّا بزواله، كما لا يُنتَخَب الناسُ لها ولا يستقيلون منها. لكنَّ الحُكم والإدارة التنفيذية من أعمال الاجتماع المُعتادة، تجرى عليها أعرافُ الرقابة والمُساءلة، وتُقاس بالمُقدِّمات والآثار، ويُقيَّمُ العاملون عليها بالكفاءة والرضاء الشعبى.
وحماس تحمل السلاح فى يد، وتقيض على يوميّات القطاع بالثانية، وتجمع بين التطوّع الذى لا يُنقَضُ عَهدُه إلَّا بالتحرير، والوظيفة المُربِحَة التى تُحقِّق النفع والوجاهة، وتخضعُ بالضرورة للاستحسان أو القدح.
لم يعتذر الحماسيِّون عن أنهم أوردوا القطاع مواردَ التهلكة؛ بل لم يعترفوا أصلاً، ولا تحلّت حكومتُهم بالنزاهة الواجبة فى حال الأزمة؛ لتخرُجَ على الناس بكشف حسابٍ تتبعه استقالة، على أن تُخلى الساحة لبديلٍ لن يكون أسوأ فى كلِّ حال، وسيفتحُ البابَ على الأقل لإجراء إرادةِ الناس فى حياتهم، وإرساء ركيزةٍ صالحة لإدارة «اليوم التالى» للحرب، والإفلات من كمين الصهاينة المُعَدّ لحاضر الغزِّيين ومُستقبلهم، والساعى إلى إدامة بقائهم فى عُهدة المأساة الكاملة.
وحتى على صعيد الجناح المسلّح؛ فإنَّ محمد الضيف يُناظر وزيرَ الدفاع الإسرائيلى المُقال يوآف جالانت، وقد حُوسِب على ما رأته الحكومةُ أخطاء، فنحّته عن منصبه. وسواء كان «الضيفُ» حيًّا أو مَيِّتًا؛ فما تحدَّث أحدٌ عن المُساءلة الداخلية، أو إعادة تقييم القادة الميدانيين بمنطقٍ عسكرىٍّ أو وطنى.
وهاليفى المُستقيل يُقابله مروان عيسى، قبل أن تُعلن الحركةُ مقتلَه بعد عشرة أشهر من الإنكار، ثمَّ محمد السنوار حاليًا، ولا دليل على أنه لَقِى وجهَ ربه، ولا على أنه أُخضِع لمُساءلةٍ من أىِّ نوع.
تُستَشعَرُ المُراوغةُ هُنا من الالتجاء إلى سرديّة النصر؛ إذ ليس المقصود منها شَدّ العود وتثبيت الهِمَم، بقدر الانصراف عن واجبات الفحص والمُحاسبة، من مُنطلَق أنَّ المُنتصر لا يحتاجُ للمُراجعة أو إرخاء الأوراق على الطاولة.
وتلك واحدةٌ من المُغالطات أيضًا؛ إذ حتى المُنتصرون يخرجون من الميدان إلى غُرَف الجراحة، ويفتحون بطونَهم وشرايينهم على آخرها؛ لاستكشاف ما فاتهم أو استُغلِق عليهم، وما أخفقوا فيه فيتجنبونه، أو أحسنوا فيعملون على إذكائه والاستزادة منه.
وإذا كان العدوُّ على صفيحٍ ساخن، وتتخلخل أبنيتُه ومُؤسَّساتُه حسابًا على يوم الطوفان، وعلى أنه أباد غزّة فقط دون أن يشطبها من الخريطة، رغم أنه يعود مُتفاخِرًا بإرسال خمسين ألفًا إلى الآخرة، وتعويق ثلاثة أضعافهم، وتهديم أربعة أخماس المبانى والمنشآت فى القطاع، فضلاً على تكسيح حزب الله، وإسقاط نظام الأسد، وإعادة الحرس الثورىِّ وجمهوريّته إلى حدودهم الطبيعية فى الهضبة الإيرانية؛ فإنَّ كلَّ هروبٍ من استحقاق المُساءلة والإجابة عن أيّة أسئلة تُطرَحُ على حماس، لا يعدو أن يكون تدليسًا مقصودًا، ولغرضٍ ربما يتجاوز فلسطين.
استقال هاليفى عن صفعةٍ تلقّاها، رغم أنه رَدّ عليها بوحشيّة تُضارعُ أقصى وأقسى ما عرفناه من حروب العالم الكُبرى. وفى المقابل؛ يُهنّئ خليل الحيّة حاضنته الأُصوليَّة على النصر، ويشكر المُلثّم «أبو عبيدة» إيرانَ وحزب الله، ويحتفل القسّاميون ببزّاتٍ مَكويَّة وأحذية لامعة.
والحال؛ أنه ما لم تقع القضية على وصفةٍ غير انتحارية، يتساوى فيها المواطن والمُقاوم فى الحقوق والواجبات، ويخضعون للمُساءلة بالآلية نفسها إنْ أصابوا أو أخطأوا؛ فلن نُغادر دوّامة مواضينا البائسة، ولن نتوقَّف عن غرامنا بإعادة إنتاج الكوارث، ثمّ الاحتفال بها كأنها مفازات.
المقاومةُ حَقٌّ، والسلاح لا يقلُّ أهميّةً عن السياسة. لكنَّ حكومة حماس ليست مُعادلاً للنضال التحرُّرى، وإدارتها لغزّة لا علاقةَ لها بالسياسة من قريب أو بعيد.
تحتاج فلسطين إلى استقالةٍ تُطمئن الناس على المستقبل، وتفتحُ ثغرةً فى جدارٍ أصمٍّ لا يقبلُ المُراجعةَ والاعتذار؛ ما يُبشِّرُ على الأقلِّ بأنهم قد يحسبون القرارات قبل إصدارها، والمُغامرات قبل القفز فى حرائقها، ويملكون يومًا شجاعةَ أنْ يقولوا أخطأنا، وأن يُخَلّوا مكانهم لدمٍ جديد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة