لكلِّ داءٍ دواءٌ يُستَطَبُّ به؛ إلَّا الحماقة أعيت من يُداويها، كما قال المتنبى قبل ما يزيد على عشرة قرون. ولكلِّ دواءٍ فوائدُ وآثارٌ جانبيّة، ومعيارُ الفاعلية أن تتحصَّل على أقصى إفادة، وتتجنّب المضار الكُبرى بقدر الإمكان. ولهذا يُجرِّبُ الأطباء فى وصفاتهم؛ حتى يستقرَّوا على الخيارات الصائبة. والسياسة كالطبِّ؛ مُوازَنةٌ دقيقة بين المُتاح والمأمول.
بقوّة الحقّ؛ تظلُّ المُقاومة طريقًا مشروعةً لكلِّ بلدٍ يُناضلُ أهلُه من أجل التحرُّر، وعلى ضوء الحقائق يتعيّن أن تكون بصيرةً فى رُؤاها، ودقيقةً فى مُقارباتها، وألَّا يَصرِفُها التكتيك عن الاستراتيجية، والعكس.
وبهذا؛ لا تكون المشروعيّةُ وَقفًا على الاستحقاق فحسب، بل تتحدَّد فى ضوء الإمكانات والصعوبات، ومن أجل الحركة للأمام، لا التردُّد على الدَّرب جيئةً وذهابًا، أو الارتداد بعيدًا إلى الوراء.
كانت الحالُ سيِّئةً فى فلسطين قبل ستّة عشر شهرًا؛ وصارت اليومَ أشدَّ سوءًا. ذهبَتْ حماس إلى الميدان بآمالٍ عالية، وعادت بانتكاسةٍ لا يُمكن المراء فيها، ولا يصمُدُ إنكارُها أمام جَردة الحساب.
وإذ تُلملم ما تبقّى من قواها؛ فإنها على البادى حتى اللحظة، لم تستوعِبْ حجمَ النازلة الثقيلة وتداعياتها، ولا خرجَتْ من قيودِ وَعيها القديم، أو وَقَفَت بدقَّةٍ واستبصار على ما كان، وما آلت إليه الأوضاع.
ومن مأثور المُتنبِّى أيضًا أنه قال: ووَضعُ النَّدَى فى مَوضِعِ السيف بالعُلا، مُضِرٌّ كوَضعِ السيف فى مَوضِع النَّدَى. ومع اختلاف السياق؛ فالمقصود أن تُقرأ الصراعاتُ من داخلها، وتُتَّخَذَ القراراتُ فى ضوء القراءات، وليس على مُرتكَزٍ من الأيديولوجيا أو المواقف المُسبَقَة.
وكما لا تصحُّ المُلاينة فيما يستوجبُ الشِّدَّة، فلا ينبغى الذهاب للقتال إن غابت شروطه، أو كان الِّلينُ أنسبَ وأقلَّ تكلفةً؛ وفق مُقتضيات المرحلة.
والنظر للطوفان الآنَ يتوجَّب ألَّا يظل أسيرًا لثنائيَّة النصر والهزيمة وحدها، ومن نسيج البلاغة والنياشين اللفظية فحسب. إذ لا معنى لمَنح الأوصاف بمَعزلٍ عن الموصوف، ولا لتقويض المادىِّ بالمعنوى.
المسألةُ سهلة الحَسْم من زاوية الأثر، وما إذا كان أحد الطرفين يُحبُّ تكرار التجربة، أو لا يتمنَّى إعادتها مُجدَّدًا. والأهمّ أن تنقضى فُسحةُ البلاغة والتعاميم الفجّة، وينتقل الحوارُ لِجِهَة النتيجة والمآلات، وكيف تُثَمَّرُ التضحياتُ لفائدة القضية، أو تُستَنقَذُ فلسطين من تبعات الخطايا والإخفاقات.
ما أراده «السنوار» أن يدفع الجغرافيا بعيدًا فى الزمن، ويُعيدَ الهَمَّ الفلسطينىَّ لطاولة العالم ورأس انشغالاته. وبينما يرى فريقٌ أنه أفلحَ فى مُراده؛ فقد يتوقَّف آخرون عند حقيقة أنَّ الدَّفعَ كان باتجاه الماضى لا المُستقبل، وانصرفَ الاهتمامُ للشِقِّ الإنسانىِّ على صيغة الشفقة، ولم يتوجَّه للعنوان التحرُّرى المُتَّصل بحقوقٍ واجبة الاستيفاء.
سيظلُّ الخلافُ عميقًا، وقد لا يُحسَمُ بأثر الهَوَى والانحياز؛ لكنَّ الحاجةَ لقاعدةٍ مُجرَّدةٍ تُقاس عليها الحوادث، يفرضُ الانتظارَ ومُراقبة ما ستُسفر عنه التطوُّرات لاحقًا.
بحساباتِ الحرب، جفَّفتْ غزّةُ شرايينها على مذبح اليمين الإسرائيلى، ومكّنه المُمسكون بقرارها غصبًا من توسعة قوس استهدافاته؛ ليتعقَّب محورَ المُمانَعة فى أربع جبهاتٍ على الأقل.
صار القطاعُ خرابًا، وأُعِيْدَ ترسيمُ موقع حزب الله فى المجال اللبنانى، وسقط بشَّار الأسد بإرثه وممرّاته الفسيحة، وارتدّت إيران لحدودِها الطبيعية، ويقفُ الحُوثيِّون راهنًا على حافّة المجهول. فكأنَّ لسان حال الشيعيَّةِ المُسلَّحة يقول: هدفٌ رائع؛ لكنّه فى مَرمَانا.
سُرِقَتْ النارُ المُقدَّسة من المُقاتلين، وما تبقَّى سوى طاولة الرماد يُختَصَم فيها، وتُوزَن العوائد على ميزانها.
وبهذا المنطق؛ يجوزُ غَضُّ النظر عن الكُلفة البشرية والمادية الفادحة، وقصور آلة المُقاومة عن التصدّى للاحتلال؛ لصالح الاحتكام إلى المنافع السياسية المُتحقِّقة من المُغامرة غير المحسوبة، أو الأُفق الذى يترشَّح عن صفقة التهدئة، ويُبشِّرُ بما سيكون عليه اليوم التالى؛ لا فى القطاع فقط، إنما فى عُموم المجال المُلتهب بين النهر والبحر.
لَعِبَتْ إدارةُ بايدن دورًا محوريًّا فى إسناد تلّ أبيب، من جهة السرديّة أوَّلاً؛ ثمَّ المال والعتاد والشراكة المُباشرة فى الدم. وإذ تذهبُ لغرفة النفايات فى دولاب الدولة الأمريكية؛ فإنها لا ترحلُ مُشيّعةً باللعنات والذنوب ودعوات المنكوبين فحسب؛ بل تأخذ معها شيئًا من المُقاربة السياسية التى ربما لم تَكُن مثالية؛ لكنها كانت أفضلَ من كثيرٍ غيرها تُسوِّقُه إسرائيل، وتُلوِّحُ به الإدارةُ الجديدة فى واشنطن.
وصَّفَ الرئيسُ العجوز نفسَه بالصهيونىِّ المخلص، وقدَّم وزيرُ خارجيَّته أنتونى بلينكن إطلالتَه الأُولى من الأرض المُحتلّة بعد الطوفان بالصِّفَة اليهودية؛ لكنهما لسببٍ أو آخر عادا إلى خيار «حلِّ الدولتين» بعد مُناكفةٍ، ولم يُرخِيَا حبلَ الاعتراض على الاستيطان وابتلاع الضفة الغربية تمامًا.
تبنّتْ الإدارةُ ورقةَ مصر للتهدئة، وأعادت إنتاجَها فى مُقترَحٍ أخذ يتردّد منذ مايو الماضى، إلى موعد التوقيع قبل أسبوع والإنفاذ منذ عدّة أيام. شرٌّ جامحٌ امتطاه الديمقراطيّون؛ لكنهم كانوا يقبضون فى الوقت ذاته على لجامٍ له، ولو بدا واهيًا.
فى المُقابل؛ نجح ترامب فى إنجاز الصفقة العالقة قبل أن يعبُرَ بوّابةَ البيت الأبيض، هدَّد وتوعَّد وزمجر وأرعدَ فى وجوه الجميع؛ فأخافَ قادةَ حماس داخل القطاع وفى منافيهم، واستدعى نتنياهو لمكتبه يوم عطلة السبت؛ ليُخبِرَه المبعوثُ الجديد للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، أنَّ رسالةَ الجحيم تنسحبُ على الطرفين، وأن الكُلفةَ مَقسومةٌ عليهما أيضًا؛ إذا ما تباطأ إسكاتُ البنادق واستعادة الأسرى عن مَوعِد التنصيب.
بدايةٌ إيجابيَّة للغاية؛ لكنها رُشِقَت بخنجرٍ نارىٍّ من السيد دونالد. أدّى اليمينَ الدستورية رئيسًا فى الظهيرة؛ ثمَّ وقَّع حزمةً من القرارات التنفيذيَّة مساءً، اشتملت فى مجموعها على إلغاءٍ للعُقوبات سابقة الإقرار بحقِّ بعض مُستوطِنى الضفَّة الغربية، وكان رمزُهم البارز يسرائيل جانتس بين حضور المراسم فى قاعة «روتوندا» بمبنى الكونجرس.
أوقفَ الرجلُ حرب النار؛ وقدحَ شرارةً جديدةً لحروب السياسة والابتلاع المُتعجِّل دون مَضغٍ. وإزاء الموقف السريع بعد إمساكه بصولجان الحُكم مُباشرةً؛ فالإشارةُ أنه دَفعَ الحكومةَ الإسرائيلية لإنهاء الحرب اتِّصالاً بحسبة المصالح، لا رفضًا للعدوان فى ذاته.
وعليه؛ فلا يُؤمَل أنْ تكونَ مُمارسات الحقبة المُقبلة أقلَّ صخبًا من سابقتها، ولا أنْ يُنظَر لنكبة غزّة من الأساس بعَدِّها «فائضَ رصيدٍ» للقضية، ولا مدخلاً لإعادة إطلاقها على وجه مُنَشَّطٍ وأكثر فاعليّة.
ولا فِكاكَ هُنا من حبائل الذاكرة؛ إذ ستَستَدعى بالضرورة أنه نَقلَ السفارة الأمريكية إلى القُدس فى ولايته الأُولى، واعتراف بالهيمنة الإسرائيلية الدائمة على هضبة الجولان السورية، ولم يُقارِب توسُّعات الاحتلال الأخيرة وصولاً للقنيطرة ومشارف ريف دمشق الجنوبى. فضلاً على أنه كان صريحًا فى رَفضه لحلِّ الدولتين، بحسب حوارٍ قريب مع مجلة «تايم»، وإن شَفعَه بتأكيد الاهتمام بالتوصُّل لتسويةٍ؛ زاعمًا أنَّ الطُّرَق شتَّى لإنجاز السلام الدائم.
وعليه؛ فإذا كانت حماس قد أخفقت فى التحرير الكامل، بحسب دعاياتها وقت افتتاحيّة الطوفان، وفى تبييض السجون والعودة لِمَا قبل السابع من أكتوبر، على ما عَدّلته لاحقًا من باقة أهدافها؛ فالمعيار الوحيد الذى يَبقى للحُكم على الميدان، ما إذا كانت القضيَّةُ تقدَّمتْ للأمام، أو رَاوَحَت مكانها على الأقل، أمْ أنَّها ارتدّت للوراء، وتكبَّدت أثقالاً فوق ما تنوء به أصلاً.
والأهمّ؛ ما إذا كانت الحركةُ جاهزةً للاستحقاقات الجديدة على موعدِها وأشراطها، وراغبةً فى سداد حصَّتِها من الالتزامات المطلوبة، أم أنها ما تزالُ قابضةً على سرديّة النصر، ولو بَقِيَت وحيدةً فوق مسرح الوهم؟!
ليس من العدل قَطعًا أن تُحمَّلَ الفصائلُ بفاتورة الأرواح المُبدَّدَة فى نواحى القطاع، ولا تبرئتها منها تمامًا. أنصارُ نظرية النصر يشطبون على الخسائر؛ فلا يبقى إلَّا العزم والافتخار بالقُدرة على اتخاذ القرارات الصاخبة. بينما يكتفى المُنحازون لفكرة الهزيمة بتعداد الجُثَث وحصر الرُّكام، وكلاهما يعتبرُ فلسطين مجرَّدَ جولةٍ عابرة، ولا ينشغلُ بأنَّ ما تأكُله اليومَ قد يُحدِّدُ أمراضَك ومُنتهى عُمرك فى المستقبل، أو أنَّ «أثر الفراشة لا يزول» كما قال شاعر فلسطين الكبير محمود درويش.
اندلعت الحربُ وفى غزّة خمسون ألف رَحْمٍ على مشارف الإنجاب. الخزَّانُ البشرىُّ العظيم مُتجدِّدٌ ولن ينضب؛ إنما لا يُمكن أن تكون الخصوبة مُبرِّرًا للانتحار والتضحيات المجانيّة، أو لعنةً على أصحابها.
النكبةُ الأُولى ما تزالُ حاضرةً فى صُلب المشهد الراهن، والقطاع نفسه يتشكَّلُ فى غالبه من نُثار اللاجئين من حواضر الوطن القديم. يتامى اللحظة قد يكونون مُناضلين أو خارجين على القانون، والبيوت التى يُعاد بناؤها تفقدُ بعضَ روحِها، وتُضيِّعُ قدرًا من رائحة السرديَّة بين الهدم والبناء.
يُقبَل الموتُ كُرهًا على قاعدة الضرورة لا أكثر، والأصل فى الحياة والعُمران؛ ما يعنى أن إمكانية الفداء لا تكفى وحدها لتسويغ الالتجاء إليه؛ وكثيرًا ما يكون الصمتُ مفيدًا عن الصراخ.
القُدرة على إنتاج مزيدٍ من الأطفال لا تغفرُ المُغامرة بأقرانهم بين وقتٍ وآخر، وجاهزيَّةُ الداعمين لإعادة الإعمار؛ لا تعنى استسهال القفز فى المجهول، ولا أنَّ البلدَ منذورٌ للخراب دومًا؛ ولو من دون باعثٍ مُلحٍّ أو فائدةٍ منظورة.
احتالَ نتنياهو على إلزاميّة الذهاب للهُدنة بالدعايات؛ فقال إنه باقٍ فى محور فيلادلفيا، ولم يتنازَل عن مهمّة إفناء حماس. يُفهَم الكلامُ على معنى الاستهلاك الداخلىِّ، وتهيئة البيئة اليمينيَّة المُتغطرسة للتطبيع مع ما كانت تتأبَّى عليه؛ لا سيَّما أنَّ مصر لن تسمح بالبقاء على حدودها، ولم تكن لترعَى صفقةً لا تحترمُ ثوابتَها النهائيّة المُعلَنَة. ولكن بين ما قِيْل أنهم اقتنصوا تعهّدًا من الإدارتين الأمريكيتين، الراحلة والوافدة، بالعودة للحرب حالَ إفساد التهدئة، وبتمكين حركة الاستيطان فى الضفَّة وصولاً إلى الضمّ الكامل.
وما أتاه ترامب فى يومِه الافتتاحىِّ بالسلطة، قد لا يكون مُرتبطًا من قريبٍ أو بعيدٍ بشقِّ الرسالة الأوَّل؛ لكنه يُؤَمِّنُ على نصفِها الثانى، ويُقدِّمُ بُرهانًا عَمليًّا على أنَّ الإدارةَ الجديدة لن تُعارض أجندة إسرائيل، ولن تكبحَ شَهيَّتَها للتوسُّع والابتلاع.
وإذ يَسهُل القول إنَّ الرئيس العائد حديثًا سبقَ أنْ طرحَ برنامجًا شبيهًا قبل عدّة سنوات؛ فإنه لم يَصِل لغايتِه وقتَها، وما إعادة سَوْقِ الأفكار ذاتِها سوى دليلٍ على تبدُّل الظروف، فهل تَقبَلُ «حماس»؛ حال إنجاز تلك الرؤية، الاعترافَ بأنها من أثرِ الطوفان وجنايته على ذَويِه؟!
مهما كان الباعثُ؛ فقد أربَكَتْ نزوةُ يحيى السنوار فلسطينَ وقضيَّتَها، بأكثر مِمَّا أصابت الدولةَ العبريَّة، وضربَتْ محورَ المُمانَعة فى العُمق؛ حتى لم يَعُد قادرًا على لَعِب أيّة أدوارٍ إسناديَّةٍ حاليًا أو فى المستقبل، ولعلّه صار عبئًا على حُلفائه والميليشيَّات الرديفة؛ بدلاً من أن يكون ظهيرًا لهم.
خرجَ الحزبُ من عباءة طهران وما زال عاجزًا عن الانخراط تحت سقف الدولة اللبنانية، والحشدُ الشعبىُّ يَرسِم خطًّا فاصلاً عن الجمهورية الإسلامية، قد ينسحب على موقعِه من النظام السياسىِّ فى العراق، والحماسيِّون حُبِسوا فى زنزانةِ الإدانة الدائمة عن الاتِّصال بالشيعيَّة المُسلَّحة، دون تحصيلِ أيّة عوائد من تلك الصِّفَة.
كانت الحربُ ستارًا للحركة لا عبئًا عليها. والمعنى؛ أنها فى زمن السُّعار الإسرائيلى ليست مُلزَمَةً بأىِّ شىء تجاه البلد والناس، ويَسهُل عليها أن تتلطّى وراء شعار «لا صوتَ يعلو فوق صوت المعركة»، وصِفَةُ النضال تظلُّ طاغيةً على ما عداها من صفات، من أوَّلِ الانقلاب مرورًا بالاستبداد وحتى الرهان بالبشر على لا شىءَ تقريبًا. أمَّا الهُدنةُ؛ فإنها تُبرِّدُ العقلَ، وتُعيدُ النقاشَ لدائرته الأُولى، وتُرتِّبُ عليها التزاماتٍ لا يُمكن التهرُّب منها بالأيديولوجيا أو السلاح.
مئاتُ آلاف البشر يَلعَقون جراحَهم، وسيظلّون هكذا لسنواتٍ طويلة مُقبلة. الجوعُ والعراء مقبولان تحت النار؛ لكنهما لا يُلبِّيان طموحات الغزّيين فى أزمنة الصمت.
والمعنى؛ أنَّ الإغاثة لن يتيسّر إخضاعُها للهَوَى مثلما كانت سابقًا، وقد تواترت الرسائلُ مُؤخّرًا عن تغييب المساعدات المُتدفِّقة على القطاع، اتّصالاً بما كان يُسَاقُ لشهورٍ خَلَت عن تمريرها للأنفاق أو طَرحِها للبيع فى الأسواق.
وإلى ذلك؛ فالإعمارُ سيستغرق أمدًا طويلاً، لو سارت الأمورُ بإيقاعٍ جيِّد ومُنتَظِم؛ وقد يتعطَّل بوجود الحركة، أو بسلوكيَّاتها غير المقبولة من الداخل والخارج.
امتحانُ «اليوم التالى» لا يبدأ إلَّا من إنضاج تصوُّرِ مُغايرٍ لكلِّ ما تسبَّب فى المأساة. ما يعنى أنَّ على فلسطين نفسِها أن ترفُضَ بقاء الحماسيِّين فى السُّلطة، أو واجهة المشهد الوطنى عمومًا؛ ولو تقبَّلَهم الإسرائيليون وداعموهم.
لن يُغامر مانحٌ بأمواله مع إدارةٍ عُرِفَت بالمُغامرة، وتتَّصل بأجنداتٍ سياسيَّة وعقائدية تُخاصِمُ المصالح الوطنية العُليا، أو على الأقل لا تلتقى على أجندةٍ جامعة. وأقلّه أن يُرشِّد اندفاعته؛ ولا يُقبلُ على المهمّة بالحماسة الواجبة.
ولن يتيسّر إرخاءُ ستار مُنظَّمة التحرير على البلد، من دون تطبيعِ وَضع السُّلطة فى القطاع، وهو هدفٌ مُعطَّلٌ؛ طالما بَقِيَت الحركةُ مُتمسِّكةً بالبقاء فى الصورة؛ ولو على حساب الشعب ودولته الضائعة.
وإذ يتحضّرُ الاحتلالُ لعمليّةٍ مُحتمَلَة فى الضفّة الغربية؛ فإنه لا ينقلُ فائض الجهد والعتاد من الغرب للشرق، بل يُطوّر ما بدأه سابقًا من داخل أجندة الردّ على الطوفان؛ فكأنَ نزوة السابع من أكتوبر كانت الطريقَ إلى تشغيل مُحرِّكات الاستيطان المُعطَّلة، أو بطيئة الدوران فيما مضى.
عملت «حماس» باجتهادٍ لإضعاف رام الله، ثمَّ أوقَدَتْ شرارةَ الحرب عليها، ولم تَعُد قادرةً على إسنادها بالسلاح من ناحية غزَّة، ولا بالسياسة، على معنى الامتناع عن مُنازعتها فى ولايتها الشرعيَّة على الفضاء الفلسطينى وقضيّته النازفة.
تبدَّدَ اتِّفاقُ أوسلو عَمليًّا بأثر الصدامات اليمينيَّة من الجهتين؛ لكنه أبقى للفلسطينيين رايةً وعنوانًا مَعروفَيْن، ومشروعيّةً دوليَّةً لم يَستَطِع الإسرائيليِّون أنفسُهم إنكارَها. ومع عجز المُقاومة عن فَرض حُضورِها بالقوّة العارية، وتقويض السُّلطة أو تفكيكها؛ فإنه لا يتبقَّى شىءٌ من ميراث النضال الفلسطينىِّ الطويل، وتعودُ القضيَّةُ لزمن النَّكبة الأُولى، بالرمز والدلالة القاطعة، وقد تحوّل شطرٌ من الدولة إلى خرابٍ عَميم.
غرامٌ عجيبٌ بنَقْضِ الغَزْل، والارتداد إلى نُقطة الصفر دون مللٍ أو اتِّعاظ. وبينما كانت النزعةُ الانتحاريَّةُ كامنةً فى سرديَّة تديين القضيَّة منذ البداية؛ فإنَّ كاريزما «عرفات» وهَالَتَه الزعاميّةَ حجَّما نزوات الأُصوليِّين، وأَبقَيَا الصِفة المُؤسَّسيةَ حاضرةً، وقادرةً على لعب أدوار إنقاذية، أو تلطيفية، كلَّما تأجَّجت الساحةُ، أو وَضِعت فلسطين على محكَّاتٍ وُجوديّة.
والحال؛ أنَّ خَلعَ عباءة الدولة، على ما فيها من اهتراء؛ إنما يَرُدُّ المسيرةَ التحرُّريّة إلى زمنٍ بدائىٍّ نوعًا ما، بحيث تتشظّى العناوينُ الجوهريَّةُ المُشتركة على أكثر من مالكٍ احتكارىٍّ، ويعود المجتمعُ لقِسمَتِه القبائليَّة المُلوَّنة بانتماءاتٍ أَوّليّة «فوق وطنيّة»، وتُبحَثُ المسألةُ من بدايتها؛ كأننا فى زمن الـ48 بكلِّ ما اشتملَ عليه من ضياعٍ وانعدام للرؤية والقيادة.
الانشغال بتوصيف الجولة الحربيّة فى غزّة بين النصر والهزيمة؛ إنمَّا يُؤشِّر لرؤيةٍ اختزاليّة تعزلُ الفِعْلَ عن الأثر. كأنها الفتنةُ الدائمة فى الاستعاضة عن الكُلِّ بالجُزء؛ مثلما اكتفت حماس بحُكم غزّة عن ترقية الدولة كُلّها، وبالسلاح وحده عن أبواب النضال المُتنوّعة.
ومن الذهنيّة ذاتِها، تتأتَّى سرديّة الانتصار من مُنطَلَق أنَّ «حماس» باقية على قيد الحياة، وشعار القسَّام ما زال قادرًا على التقاط الصُّوَر فى شوارع القطاع. فكأنَّ البلدَ مُختَزَلٌ فى الفصيل، والبندقيَّةَ تغنى عن المُقاتل نفسه.
ويتجلَّى المعنى بوضوح أكبر؛ لو تخيّلنا تكرارَ الجولات، وفى كلِّ واحدةٍ يُساقُ مائتا ألفٍ لمذبح القتل والتعويق، وتعودُ الحركة بعلامة النصر؛ إلى أن يَفنى الغزيّون وتبقى الشعارات.
فلسطين أحوجُ ما يكون للنَّظَر فى ماضيها، واستذكار الدروس السالفة. حاجةٌ أقربُ إلى الحنين لزمن عرفات، الرجل الذى سار فى ظلِّ السلاح، بقدر ما جرَّب السياسةَ واعتنقها، أصاب وأخطأ؛ لكنه سلَّم القضيّة على حالٍ أفضل مِمَّا تسلَمها، ولم يُورِثْها نكبةً تفوقُ احتمالَها، أو ضياعًا لا تفلح معه الخرائطُ الحاضرة، ولا يُعرَفُ إلى تفكيكه سبيل.
حالُ المسألة الفلسطينية اليومَ أسوأُ مِمَّا قبل الطوفان، بل ربما تُنافِسُ ما كان فى يونيو 1967 أو فى زمن التقسيم. والواجبُ ألَّا يُصار للمُستقبل بالوصفة الماثلة، ولا أن تُفتَتَنَ الفصائلُ بذواتها، فتُمدِّدَ الخطَّ الراهن على استقامته. فضيلةُ المُراجعة أهمُّ من عقيدة الفداء، والعَقلُ أَوْلَى من صلابة العَزم، والرجوعُ لا يعيبُ طالما أنه يُنقذُ ولا يُبدِّد. القضيَّةُ أكبر من حماس والسلطة والمُنظّمة؛ لكنها ليست أكبر الحماسيِّين والفتحاويين وكلِّ مواطنٍ غيرهم، أىْ من الشعب مُخاطَبًا بضمير المُفرد. الوطن بشر وحجر، والنضال كرٌّ وفَرّ، ووَضْعُ النَّدَى فى مَوضِع السيف بالعُلا، مُضِرٌّ كوَضْعِ السيف فى مَوضِع النَّدَى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة