عاد الأمل بعد انقطاع طويل، وما كان يبدو مستحيلا لشهور، أضحى فى المُتناوَل الآن. توقَّفت الحربُ فى قطاع غزة على موعدةٍ بألَّا تعود مُجدَّدًا، والجميع واقفون على أطراف أصابعهم، فى انتظار ما ستسفر عنه ترتيبات المرحلة المقبلة.
التفاؤل فى أعلى مستوياته، وكلُّ الاحتمالات واردة، واكتمالُ الخروج من النفق المُظلِم يتطلَّبُ جهدًا مُضاعَفًا من كلِّ الأطراف، مع الوعى بأنَّ صناعة السلام أعقدُ من مُغامرات الحرب، وبأنَّ التجربة منذ «طوفان الأقصى» أثبتت أنه لا سبيلَ للنصر الكاسح، ولا إمكانية لدى طرفٍ لأن يفرضَ رُؤيتَه بالحديد والنار، ولا لأن يشطُبَ الآخر من المُعادلة كأنه لم يكن.
دخلت الهُدنةُ يومَها الثالث. وحتى الآن تمضى الأمور فى مسار طبيعى، لم تُربكه ألاعيبُ إسرائيل فى اليوم الأوَّل بإرجاء تفعيل الاتفاق عدَّة ساعات، أو تعقيد عملية إطلاق الدفعة الفلسطينية من الأسيرات والأطفال إلى ما بعد منتصف الليل.
وخلال عدَّة أيام، تحلُّ جولة التبادُل الثانية بعددٍ أكبر من سابقتها، ويتوالى تدفُّق المساعدات بانتظام، وبحلول نهاية الأسبوع سيُسمَحُ للنازحين جنوبًا بالعودة إلى منازلهم، أو ما تبقَّى منها، فى مدينة غزَّة وبقيَّة مناطق الشمال.
كان إسكاتُ البنادق أكبرَ التحدِّيات، ربما انطلاقًا من أنَّ ولادة القرار أصعبُ من رعايته والمحافظة عليه لاحقًا، وحكومة نتنياهو تهرّبت بكلِّ السُّبل من التوقيع على إفادةٍ بالصمت، وإخلاء الطريق للمفاوضات وحدها، بعيدا من خيارات الميدان، ومن الغرام بإنجاز الصفقات تحت القصف وأزيز الطائرات.
ومع التسليم بأنَّ إيقافَ الحرب فى حدِّ ذاته حَدَثٌ جَلَل؛ لكنه لا يغنى عن حراسة المُقاربة الهَشَّة بدأبٍ وإصرار، كما لا يعنى أنَّ الرجوع للقتال لم يَعُد مُمكنًا. لقد انقضت المرحلةُ السهلة بولادةٍ مُتعسِّرة، وما يتبقَّى أصعبُ للأسف.
ما نراه من الخارج يختلفُ تمامًا عَمَّا يعيشه الغزِّيون فى الداخل، وبينما ينشغلُ المحللون والمنحازون أيديولوجيًّا بفَضِّ الاشتباك فى المفاهيم، وترسيم الحدود المائعة بين النصر والهزيمة، يتهلَّلُ عوامُ القطاع بالوقوع على أوَّل طريق النجاة.
صادفتُ منشورًا على «فيس بوك» لفتاةٍ نازحة من غزَّة إلى رفح، تقولُ إنها نامت بعُمقٍ لأوَّل مرّة منذ خمسة عشر شهرًا، رغم أنها فى الخيمة البائسة نفسِها، يُحوِّطها الخرابُ من كلِّ اتجاه، وما تبدَّلت الأوضاعُ، ولا اقتربت من أطلال بيتها القديم، وكثيرون آخرون يمتدحون الانتقال داخل المأساة، لمجرَّد أنها صارت أقلَّ صخبًا وإحراقًا، ولا تتوعَّدهم بمفاجآتٍ كابيةٍ تفوقُ قُدرتَهم على الاحتمال.
المشهدُ أقربُ إلى غريقٍ عَوَّمته الأمواجُ قليلاً، فبرز أنفُه ليتنفَّس هواءً أقلَّ عطنًا، لكنه لا يزالُ منقوعًا بكامله فى بُحيرة الدم. الإنقاذُ يتطلَّبُ انتشالَه مع مَنْ تبقَّوا من أحِبَّته، والدعايات لا تفعلُ شيئًا سوى أنها تُخرِج لسانَها للجميع، وتصدمهم بأنَّ مواجعَهم لا قيمةَ لها فى الحسابات الأخيرة، ولن تُقدِّم أو تُؤخِّر فى رؤية كلِّ طرفٍ لجدول المكاسب والخسائر، ما يعنى أنهم لم يكونوا طرفًا فى قرار التهدئة، وبالتبعية لن يُنظَرَ إليهم فى حال تمديده لاعتباراتٍ خارجةٍ عنهم، أو إلغائه والعودة إلى التصعيد لأسبابٍ لا يعلمونها قطعًا.
لستُ مشغولاً فى المستوى الشخصى بتصفية تركة الطوفان، ولا إقامة الحجَّة على مُغامرٍ هُنا وجزّارٍ هناك. الأولوية للمنكوبين الذين تلاقَى العدو والشقيق على إنكارهم، أمَّا مسألةُ استخلاص النتائج فلا محلَّ لها، إذ لا نياشين تُوضَع على الصدور، أو أجراس تتعلَّق فى الرقاب.
وما كان غامضًا فى الميدان ستُفسِّره السياسةُ حتمًا، وتُحَكِّم ميزانَها لاحقًا على المُخطئ والمصيب، وفى النهاية، فلا تُمثِّل اللغةُ سوى ظلٍّ مجازىٍّ عن الحقيقة، وتظلُّ للهزيمة صورةٌ واحدة؛ ولو تعدَّدت التسميات.
استبقَ «ترامب» التنصيب بإضافة اتفاق غزة لرصيد ولايته الثانية، وقال فى تجمُّعٍ حاشدٍ عشيَّة المراسم الرسمية: إنّه أنجز فى أسابيع ما عجز عنه «بايدن» طوال شهور، وأوقف الحرب قبل أن يقبض الراية أو يستوى على مقعده فى المكتب البيضاوى.
وله كامل الحقِّ دون جدال، إذ ما كان الاتفاق إلَّا ثمرة لضغوطه المُباشرة على مخابيل تل أبيب، وتهديده اللاذع لقادة حماس، وتلاقيه على الرؤية التى توصَّلت إليها القاهرة منذ اليوم الأوَّل، وحافظت عليها بعزمٍ وثبات من بادئ المُواجهة لمُنتهاها المُؤقَّت حاليًا. وعليه، فقد تكون مشكلة الخلاف على فَرز المنتصر من المهزوم، أنَّ المُختلفين جميعًا ينظرون من الجانب الخطأ.
أنتجت الورشةُ الأخيرةُ ورقةً ارتضاها الطرفان، لكنها فى الجوهر لا تختلف تقريبًا عن المُقترَح المصرىِّ فى ربيع العام الفائت، ومنه ابتكر العجوز بايدن أطروحتَه منسوبةً إلى نتنياهو.
والحال أنَّ الأفكار واحدةٌ، والأوضاع لم تتبدَّل، والقبول اليومَ بما رُفِضَ سابقًا إنما يعودُ لطارئٍ خارجىٍّ، لا لموضوعيَّةٍ هبطت فجأة على كابينت الحرب الصهيونى، أو لتعقُّلٍ لا يزال بعيدًا من خيارات حماس.
باختصار، ما فرضَ أحدُهما شروطَه على الآخر، لكنهما عادا معًا إلى ما كان معروضًا عليهما بالاختيار فى فُسحةٍ من الوقت، وأخذاه أخيرًا بالإجبار، قبل انقضاء المُهلة الموقوتة.
بالحِسبة الرياضية المُجرَّدة، أعلن زعيمُ الليكود أنه لن يُلقِى القفَّازات قبل أن يبيد الحماسيِّين، ويستردَّ الأسرى أحياء دون تنازُلات، ويضمن ألَّا يعود القطاع جبهةَ تهديدٍ لإسرائيل، وقد أخفق فى الثلاثيَّة كُلِّها.
والحركةُ نفسُها بدأت الطوفان تحت عنوان التحرير الكامل من النهر للبحر، ثمَّ انتقلت إلى تبييض السجون، وإيقاف الحرب نهائيًّا مع الانسحاب الكامل، وقد أخفقت أيضًا.
مَرَّ الفريقان من سكّةٍ وسيطة بين الحلول الإلغائية والخيارات الصاخبة، ولم يَكُن التوسُّطُ مطروحًا منهما، ولا مقبولا، فكأنهما نزلا على رغبةِ طرفٍ ثالث، يقول لهما ضِمنيًّا: لقد خسرتما الجولةَ معًا!
لا يُمكن الجَزم بما دار فى ذهن السنوار وقتما اتَّخذ قرارَ الطوفان، والمُؤكَّد أنه لم يَكُن رومانسيًّا مُغيَّبًا لدرجة الوَهْم بإنجاز التحرير، أو حتى كَسْر شوكة الاحتلال وإعطاب مخالبه، ربما تقصّد الاكتفاء برسالةٍ لاذعة وصفقة تبادُل تُكرِّرُ نجاحَ تجربة شاليط فى العام 2011، وأغراه الانكشاف، أو فاجأ رجالَه، فتضخَّمَتْ العمليَّةُ دون قرارٍ مُسبَق، وربما أراد عَمدًا أن يضعَ المنطقةَ كلَّها على نارٍ حامية.
وفى الحالين، فإنَّ ما تبع السابع من أكتوبر كان دليلاً على رغبةٍ فى المُواجهة الشاملة، وشَبْك أطراف الإقليم فى مُنازعةٍ تُقلِّص أعباء الحركة، أو يخرج منها الجميعُ خاسرين.
وما انخراط حزب الله من الجهة اللبنانية تحت عنوان «المساندة والإشغال»، إلَّا دليلا على رؤيةٍ أيديولوجية حرَّكت الخطَّة، أو ألحقت محور المُمانَعة بها عبر الاقتناع أو التوريط.
باختصار، أُرِيْدَ فَرضُ القضية على دول الطوق بأشدِّ الصور سخونة وعشوائيّة، أو توظيفها لإرباك التوازُنات، وتغيير المعادلات الجيوسياسية القائمة.
ومن جهة اليمين الدينىِّ والقومى فى إسرائيل، فقد اعتبروها فرصةً مثاليَّةً للانتقال من فلسفة «جَزَّ العُشب» على فتراتٍ فى القطاع، إلى استجلاب «عقيدة الضاحية» من لبنان لغزّة، والتخلُّص من حماس بعد استثمارٍ طويل فى تقوية شوكتها، وقد صارت السلطة الوطنية كيانًا هزيلاً لا يقدر على استحقاقات المرحلة، ويمنعُه الانقسامُ من إرخاء مظلَّةٍ جامعة على التشظِّى الجُغرافىِّ والفصائلىِّ.
فكأنه يُخلِّص القضيَّةَ من السياسة والسلاح بضربةٍ واحدة، ليتيسَّر له إخراج ورقة التهجير من مَكمَنِها الدائم بين أوراق الإدارات الصهيونية المتتابعة.
اعتُمِدَ الطوفانُ سبيلاً لاستنفار الحُلفاء أوَّلاً، ثمَّ استفزاز الاحتلال حتى يُجاهرَ بوحشيَّته ومُخطَّطاته السوداء، فيُجبر محورَ الاعتدال على النزول لساحة القتال دفاعًا عن أمنه القومىِّ ومصالحه الوجودية، إن لم يكن عن فلسطين وقضيتها العادلة.
عَدوّان لا رابطَ بينهما، وفاعليَّةٌ واحدة يُصارُ إليها لأغراضٍ شتّى، وما مَنعَ من الإغراق فى السيناريو المُظلِم إلَّا بصيرة القاهرة وعمّان، ومبادرتهما منذ اللحظة الأُولى؛ لقطع الطريق على الأجندتين.
رُهِنَتْ غزَّة على طاولةٍ أكبر منها، وألقى السنوار كلَّ ما فى جَعبته، فأخرج نتنياهو أضعافًا مُضاعَفة، وبدا أنهما ذاهبان فى معركة «عَضِّ الأصابع» إلى استجلاب الآخرين.
استُدرِجَ الحزبُ حتى أُطيح خارجَ المشهد، وعادت إيران مُجبرةً لحدودها الطبيعية، وفقدت ورقةَ الأسد ومعها المَمرَّ السورىَّ المُعبَّد من طهران حتى ضاحية بيروت الجنوبية.
سُطِّحَ القطاعُ تمامًا، وتبدَّدت الحِصَّة الأكبر من قدرات حماس، وخسرت إسرائيل فى الرَّدع والدعاية، وفيما كانت تُروِّجه عن صورتها الأخلاقية الزائفة.
أحرز كلُّ طرفٍ شيئًا وخسر أشياء، لكنَّ النار لم تتمدَّد بعيدًا من النطاق المباشر للأُصوليِّتين المُتحاربتين، والأهمّ أنَّ التهجير القسرىَّ ظلَّ فى حيِّز الدعايات والاستهلاك الإعلامىِّ.
كانت الرؤوسُ حاميةً عندما دعت مصر إلى «قمَّة القاهرة للسلام»، بعد أسبوعين فقط من الطوفان واندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على القطاع.
ألغى الرئيس السيسى لقاءً كانت مُقرَّرًا سَلفًا مع بايدن فى العاصمة الأردنية، على خلفية جريمة المستشفى الأهلى «المعمدانى»، واستضاف وفودًا من نحو خمسٍ وثلاثين دولة، بجانب الأُمَم المُتَّحدة وعددٍ من المُنظَّمات الإقليمية والدولية.
مُورِسَت ضغوطٌ مصرية قوية لفتح معبر رفح من الجانب الفلسطينى، وأعادت فرق العمل المُتأهّبة فى شمال سيناء تأهيله وضخَّ المساعدات خلال ساعات، ووُضِعَ «حلُّ الدولتين» أمامَ العالم بعد نسيانه لوقتٍ طويل.
من القمَّة والمواقف السابقة عليها، وكلِّ ما تلاها من أنشطةٍ رئاسيَّة ودبلوماسية دؤوب، اكتملت رؤيةُ القاهرة على نحوٍ لا يقبل التأويل: لا سبيلَ للحَسْم بالقوَّة، ولا بديلَ عن السياسة، كما لا أُفقَ للحديث عن التهجير وتصفية القضية.
والاضطلاع بالوساطة فى الهُدنة الأُولى، أواخرَ نوفمبر 2023، كان إشارةً إلى المَخرَج الوحيد المُتاح، واحتمال المُناكفات التالية دون مَلَلٍ أو استجابةٍ للضغوط، أبانَ عن صلابةِ الموقف ونهائيَّته.
وإلى ذلك، كان السعى على طريق المصالحة وطرح فكرة «لجنة الإسناد المجتمعى»، بما انطوى عليه من تأكيدٍ لوجوبيَّة الحَلِّ الوطنى، وأنه لا مسارَ سوى التلاقِى على أجندةٍ جامعة، ولا وجاهةَ للحديث عن إزاحة حماس خارج الصورة، كما لا منطقَ لاستمرار تمسُّكها بالهيمنة على القطاع، بمعزلٍ عن مَشروعيَّة مُنظّمة التحرير وصِفتها التمثيلية محل الاعتراف إقليميًّا ودوليًّا.
ذهبَ الجميعُ فى طُرقٍ شَتّى، ثمَّ عادوا للنقطة التى بدأت منها مصر وحافظت عليها. والإدارةُ الأمريكيَّةُ نفسُها انطلقت من إسنادٍ كاسح للرؤية الصهيونية، وإنكارٍ لكلِّ تصوُّرٍ لا ينتهى بإبادة الحماسيين؛ لكنها اختتمت ولايتَها بالوقوف على الثوابت المُنَكَرة قَبلاً: تهدئة مُتوازِنة، ويوم تالٍ بمِلكيَّة فلسطينية، وطريق تقود للسياسة تحت عنوان حلّ الدولتين، طال الوقت أمْ قَصُر.
والأزمةُ الراهنة أنَّ نتنياهو ذهب للصفقة مُجبَرًا من حليفِه الأثير دونالد ترامب، وتحصَّل على وعدٍ، حسبما يقول، بالعودة إلى الحرب حال تعثُّر الاتفاق. ولأنه يخشى تبعات الخروج من الميدان بشبهِ هزيمةٍ، فقد يُحاولُ تجديدَ القتال.
كما أنَّ الحركة لا تُبدِى قبولاً لفكرة الانسحاب من الصورة؛ لصالح إدارة مُعتدلة ومقبولة دَوليًّا، وكان أوَّلَ ما فعلته بعد تفعيل الهُدنة، أنها أخرجت بعضَ مُقاتليها بأسلحتهم من المخابئ، واستعرضت ما تبقَّى من سطوتها على الشارع، وكثَّفت بيانات انتشار جهازها الأمنى ومرافقها التنفيذية، كأنها تُبالغ بكلِّ الصُّوَر، لإثبات أنها على العهد القديم، ولا تتحسَّب لِمَا وراء ذلك من ذرائع قد ينطلقُ منها ضبعُ الليكود لإفساد التهدئة.
وبطبيعة الحال، فكلاهما يرفضُ الحديث عن دولتين، أو حتى عن دولةٍ علمانيَّةٍ واحدةٍ، ومتعدِّدة الأعراق والاعتقاد، ما يعنى أنهما لا يقبلان التصوُّر الوحيد البديل عن الحرب الدائمة، وينظران للتوقُّف الراهن على أنه مُجرَّد فسحةٍ هادئة بين معركتين.
كَسْر الحلقة الجُهنميَّة يتطلَّبُ تغييرًا أعمق مِمَّا انطوى عليه الاتفاق من شروطٍ وضمانات. والسبيل إليه عبر إعادة إنتاج السلطة فى الجانبين، بحيث يتقدَّم المعتدلون فى تل أبيب، لو افترضنا أنَّ فيها مَنْ يُحسَب على الاعتدال، وأن تتوارَى الأُصوليَّةُ قليلاً فى فلسطين.
وإذا كانت الأُوَلى بعيدةً عن المُتناوَل، فالثانية أقربُ وأَولَى، ولا يمنع من السعى إليها أنَّ العدوَّ ينتخبُ أسوأ ما فيه لواجهةِ المشهد، ولا أنَّ العالمَ مُنحازٌ للصهيونية على حساب الحقوق العادلة.
صَخَبُ الاحتلال ليس مُبرِّرًا للردِّ عليه بالطريقة ذاتها، وإرخاء المُسوِّغات التى تُؤمِّنُ له ابتكار الحروب وتجديدها بدعاياتٍ فجَّة، وبأقلِّ قدرٍ من التكلفة والتبعات.
وقد اختبر الفلسطينيون قاموسَ الأيديويوجيا كثيرًا، ولم يُضِفْ إليهم معنىً جديدًا، ولا جدَّد السرديَّة أو أعادَ ضبطَها، بينما دفعوا تحت راية الفصائل أضعافَ ما تكبَّدوه مع مُنظَّمة التحرير، ولو لم يحصدوا شيئًا فى الحالين.
والاختلال المُهيمن على المُعادلة اليومَ لا ينفع معه الذهاب إلى الخيارات القصوى. وليس القَصدُ بالتأكيد أن يُستعَاض بالتخاذُل عن النضال، إنما أن يُبدِّل أهلُ القضيَّة بين الصِّيَغ النضاليَّة المُمكِنة، بمنأى عن العاطفة المُتأجِّجة والافتتان بتديين الصراع.
وإذ تقبَّلت حماس شيئًا من السياسة وتنازُلاتها فى مُفاوضات الهُدنة؛ فلم يَعُد مُقنِعًا أن تُخَطِّئ المسالكَ الدبلوماسية، ولا أن تتعالى على حقيقة أنها فى مُنازعةٍ وجوديَّةٍ مُعقَّدة، لن تُحسَمَ بالضربة القاضية، وتتطلَّب طُولَ النَّفَس وحصاد النقاط، وقدرًا من المُرونة والمناورة قبل هذا، وبادئ اللعبة ومنتهاها ألَّا يُجمَعَ البَيضُ كُلُّه فى سَلَّةٍ واحدة، ولا أن يُعهَدَ بالسياسة والسلاح لطرفٍ دون الباقين، فتُوصَمُ الأُولى بالبندقية، ويَنطفِئ الثانى بالمُواءمات الاضطرارية.
حتى لا تأخُذَنا بلاغةُ البطولة والصمود بعيدًا، كانت الهُدنةُ خيارًا مُتأخّرًا على لائحة العصابة الصهيونية؛ لكنها ظلَّت، دائمًا وطوال الوقت، احتياجًا حيويًّا للمَنكوبين فى القطاع.
والمَنطقُ أنَّ نتنياهو سيكون الطرف الأكثر طَلَبًا لنَقضِها والخروج من التزاماتها، والعقل فى ألَّا تُمكِّنَه حماس من غايته. ما يتطلَّبُ وفرةً من الرُّشد وسِعَة الصدر، لأنه لا معنى للرجوع إلى الحرب سوى مزيدٍ من الخسائر، وتقطيعٍ للوقت قبل البدء من النقطة نفسِها تقريبًا.
ما أُقِرَّ اليومَ كان معروضًا قبل عشرة أشهر، وقد أُنفِذَ بحذافيره مع فارق إضافة عشرين ألفًا على الأقل لقائمة الشهداء، وأضعافهم من الجرحى والبيوت المُهَدَّمة، وإضافة جولة جديدة للمُباراة ستُضاعف آلام الطرف الضعيف، ولو أضافت جرحًا جديدًا لكرامة الغريم القوىِّ.
فى الحروب الاعتياديَّة تُقاسُ الهزيمة والنصر وفقَ الخُلاصات السياسية. صحيحٌ أنَّ قضايا التحرُّر لها وضعيَّة خاصة، ويُقبَلُ فيها ما لا يُقبَل فى غيرها، لكنَّ مصائر الشعوب ومصالحهم العُليا لا يصحُّ أن تُوضَعَ على طاولة المُقامرة، ولا أن تُختَبَر دون رؤيةٍ سياسيَّةٍ مُكتملة وناضجة.
خسرت فلسطين زهاء نصف ضحاياها من أوَّل الصراع فى سنةٍ واحدة، وغزَّة صارت ركامًا، وأقصى ما تتطلَّع إليه حماس أن تعود لِمَا قبل الطوفان. القضيَّة عادت للواجهة، إنما على معنى المسألة الإنسانية، بأكثر مِن سَوقِها على الصورة الحقيقية لبلدٍ مُحتَلٍّ يسعى إلى التحرُّر.
أخذت الحرب من الغزِّيين بيوتَهم وأرواحَ أحبَّتِهم، ونظامًا إداريًّا مُستقرًّا، على اعتلاله واستبداد حماس به، وما مَنحَتْهم غير فائضٍ من الشفقة والدموع، ومستقبلٍ غامضٍ بكُلّيَّتِه، وأسوأ كثيرًا مِمَّا كان عليه قبل مُغامرة السنوار.
تحتاج حماس للتخلِّى عن الصَّخَب، وترشيد افتتانها العظيم بالخطابية الزاعقة والاستعراضات الشكلية. لم يَكُن مُبرَّرًا أن يخرج حنجرةُ الطوفان، أبو عبيدة، ليقولَ إنَّ الاتفاق مرهونٌ بالتزام إسرائيل.
التكافؤ غائبٌ تمامًا، والمَظلَمةُ الثقيلة لا تنسجم مع ادِّعاء البأس دون اقتدارٍ عليه. سيلتزم نتنياهو لأنه مُجبَرٌ على هذا بإملاءٍ من ترامب، إنما سيسعى لتمرير نَزعَتِه التمرُّدية من قناة الحماسيِّين. سيستفزُّهم ويُبالغ فى تضخيم أخطائهم واستفزازاتهم، ولن يخسر أكثرَ من الحركة وأهل القطاع لو تعثَّرت الصفقة، وعادت النار للاشتعال.
وهذا مع فارقٍ كبير عن الجولة المُنقضية، أنه سيكون مُتوحِّشًا عن النقطة التى توقَّف عندها، ولن يكون الغزِّيون قادرين على الاحتمال بعدما اختبروا فُرصةَ النجاة، وذاقوا حلاوتها بعد علقم الموت المجّانى، وستكون ورقة الأسرى قد فقدت كثيرًا من وَهجِها القديم.
لن يعود الموتى، ولن تنصُب بناياتُ غزَّة هاماتها دون عملٍ دؤوب لسنوات طويلة، وربما لعقودٍ مُقبلة. الاحتماء بسرديَّة النصر، لمُجرَّد أنَّ البعض باقون على ركامٍ يتعالى فوق جُثَثٍ وأشلاء، سَخَفٌ ما بعدَه سخف، لا لأنه يُهوّن من المأساة، ويهين الذات من حيث أراد مُكايدة العدوِّ، إنما لأنه يعنى أنَّ تيَّارًا عريضًا من أهل القضية لا يرونها على الوجه الصحيح، يُفكِّرون بقلوبهم، ولا يعتبرون من سابق التجارب والدروس.
لنَقُل إنَّ إسرائيل هُزِمَتْ هزيمة كاسحة، فهل ينفى ذلك أنها ما زالت أقوى، وتبتلعُ الأرض بمَنْ عليها، وهل يُعيد غزَّة صالحةً للحياة، أو يُبشِّرُ بمستقبلٍ تتبدَّلُ فيه التوازُنات، طالما بقيت الأفكارُ الرَّثّة على حالها؟!
اتِّفاقُ غزَّة نجاةٌ صافية، اجترحها الغزِّيون بصدورهم العارية، وأعانهم عليها خطابُ الاعتدال، بعيدًا من فتنة التجريب بأرواح الناس، والذهاب إلى المجهول دون خريطةٍ تُوفِّرُ مِلاحةً بصيرةً أو عودةً آمنة.
وبإيجاز شديد، خسرت إسرائيل لأنَّ الوحشيَّة والدم لا يصنعان مكسبًا أمام حقائق الجُغرافيا والديموغرافيا التى لا تقبلُ النقض، وخسرت حماس لأنها تطلَّعت لابتلاع ما لا تستطيع مَضغُه، وأورَثَتْ القضيَّةَ نكبةً أفدح من سابقتها، ولم تُضِفْ لرصيدها ما يضمنُ تجيير التضحيات لحساب السياسة.
وربحت القضيَّةُ من زاويةٍ واحدة فحسب؛ أنها عرَّت عدوَّها مُجدَّدًا، واستكشفت مواطنَ الضعف والخَلل فى بِنيَتها الذاتيَّة.
النضالاتُ التحرُّرية تطلبُ الحياة؛ ولا تستنكفُ الموتَ كعَرَضٍ جانبىٍّ، لكنها ما إنْ تبدأ من الغرام بالجنازات المجَّانية تصيرُ انتحارًا كامل الأوصاف.
والاتفاق فرصةٌ للمُراجعة والتقويم، وقد يُؤتِى أُكُلَه، لو واكبَه اعترافٌ صادقٌ بالخطأ، ومُكاشفةٌ واعتذار صافيان عن الاستخفاف فيما لا يقبَلُ النَّزَق والهزل.
الاتفاق طوقُ نجاةٍ لحماس نفسِها قبل الغزِّيين، ويجبُ ألَّا تُضيِّعه، وأن تتمسَّك به بكلِّ ما أُوتِيَت من طاقةٍ وإصرارٍ، لأنه الفاصل الوحيد بين مُقاومةٍ بشريَّةٍ، تُصيبُ وتُخطِئ وتتعلَّم من تجاربها، وأيديولوجيا مُتضخِّمةٍ ومُتكلِّسةٍ، تخوض البحر بالآخرين دون معرفةٍ بالعَوم والإنقاذ، وتضعُ شعاراتها ومصالحها الخاصة قبل الأرض والبشر، أى قبل القضيّة فى معناه الصائب الوحيد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة