لنتفق على أن العقيدة العسكرية الإسرائيلية قائمة على أمرين رئيسيين، الأول تنفيذ الوعد الإلهى بتأسيس إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، أما الأمر الثانى فيتعلق بقناعة تامة أن الولايات المتحدة الأمريكية، الداعمة بشكل مطلق.
هذا اليقين المتغلغل فى الجينات الداخلية للإسرائيليين، حقيقة مؤكدة، وربما ذهب البعض من فيض الدعم الأمريكى لتل أبيب، إلى التأكيد بأن إسرائيل الولاية الأمريكية رقم 51 تؤتمر بأمرها وتتغذى من شرايينها، وتنفذ مخططاتها، أو كما يصفها بعض المنظرين العرب بأنها «ربيبة أمريكا» فى المنطقة!
التحليل والتنظير السياسى لا ينطلق من العدم، وإنما وفق حقائق على الأرض، فمنذ الإعلان عن تأسيس إسرائيل وهناك خطة محكمة للتوسع وتنفيذ الوعد الإلهى، وأن أى تهديد للكيان يعد تهديدا لأمريكا، وباقى رفاقها بريطانيا وألمانيا وفرنسا، فهنا لا يمكن لأى محلل أو خبير سياسى واستراتيجى أن يغفل هذه الحقيقة عند قراءة المشهد.
كل الحروب والمصاعب التى واجهتها إسرائيل كانت أمريكا خير سند وداعم لها، لم تتخل عنها لحظة واحدة، ومهما كان انتماء من يسكن البيت الأبيض، جمهوريا كان أو ديمقراطيا، فإن الدعم واحد، والاختلاف فى التجويد ووضع الخطط الضامنة لتفوق إسرائيل على كل جيرانها.
تأسيسا على ذلك، فإن ما يحدث فى المنطقة حاليا من براكين متفجرة، هى خطط قديمة تنفذ حرفيا لإعادة تشكيل شرق أوسط جديد، وهو المصطلح الذى صار معلنا وتردد على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، بوضوح شديد ودون لبس، وهو ما يعيد لأذهاننا الوثيقة الأمريكية المعدة بالتنسيق الكامل مع إسرائيل عام 1996 والتى تحمل اسم «التغيير النظيف»، تتضمن خطة تغيير شكل المنطقة، أعدتها أمريكا بالتنسيق الكامل مع إسرائيل، وذلك باستهداف 7 دول، هى: لبنان، سوريا، العراق، إيران، ليبيا، السودان، والصومال، وإسقاطها فى مستنقع الفوضى، بهدف تقطيع خرائط الماضى، واستحداث خرائط جغرافية جديدة، بطلها ومحورها «إسرائيل الكبرى من النيل للفرات» مع عدم الاعتراف بحل الدولتين أو السماح بإقامة دولة فلسطينية، مهما أسدت إسرائيل وأمريكا ورفاقهما، من وعود سياسية.
وقد يُبدى البعض اندهاشه من أن الخطة تتضمن الصومال، إلا أن أهمية الصومال تتمثل فى السيطرة على البحر الأحمر، وتدخلت بالفعل أمريكا عسكريا، بقرار من الأمم المتحدة عام 1993 ثم نفذت عملية ثانية سنة 1995 أى قبل إعداد الوثيقة، ويبدو أن تضمين الصومال فى وثيقة «التغيير النظيف» هدفه استراتيجى، وانتقامى فى نفس الوقت، حيث عانت أمريكا الأمرين فى الصومال على يد شعبها المستبسل.
الوثيقة سُربت حينها ولكن لم تلق الاهتمام اللازم، والوقوف أمامها بمزيد من التضامن العربى، والقضاء على أورام ودمامل الفرقة والتشرذم، وإعلاء المصلحة العليا للأمة، لضمان استقرار وأمان الدول، لكن ظل الجسد العربى يعانى من هذه الأورام، وزادت واستشرت وهددت الجسد كله بالفناء.
ووقعت أحداث 11 سبتمبر، وجاءت الفرصة لأمريكا وإسرائيل، لتنفيذها توظيفا للحدث، وبدأت آلة «التلكيك» للعراق تدور، حتى وصلنا إلى 20 مارس 2003، وهو التاريخ المفصلى لغزو العراق بزعم أن العراق قد فشل فى التخلى عن برنامجه لتطوير الأسلحة النووية والكيميائية، ولكون البرنامج يمثل انتهاكا لقرار الأمم المتحدة رقم 687.
وسقط العراق، وتفكك جيشه القوى، وتدمير كل أذرعه الأمنية، وصار خَصما من معادلة القوة العربية.
وما بين سقوط العراق، وغرق العرب فى هول الصدمة، والهرولة الكبيرة لإرضاء وإطفاء نار غضب أمريكا، استفاق الجميع على ما يسمى زورا وبهتانا «ثورات الربيع العربى» فى 2011، وهو الحراك الذى انطلق فى تونس، ثم تسللت شرارته بسرعة عجيبة لمصر واليمن وسوريا وليبيا والبحرين، ونجت مصر والبحرين من السقوط فى الفوضى، إلا أن الدول الباقية لم تستطع وظلت قابعة فى المستنقع العفن.
ثم جاء التاريخ الثالث 7 أكتوبر 2023 وحمل عنوان «طوفان الأقصى»، فكانت فرصة إسرائيل الذهبية، ومن ورائها وأمامها أمريكا، لإغراق المنطقة فى الفوضى، وتنفيذ خطة إسقاط الدول السبع، فكان لبنان حاضرا، وسيطرت على الجنوب، ثم سوريا وإسقاط نظام بشار، والقضاء على الجيش السورى وبنيته التحتية، ولا ننسى ما فعلته فى غزة، وتقطيع أذرع إيران، ثم إسقاط هيبتها بضرب قلب طهران!
خطة «التغيير النظيف» مستمرة فى المنطقة، ولا توجد دولة تضمن ألا يضاف اسمها فى القائمة، على الإطلاق، لذلك فإن الوضع خطير، فى ظل ضعف عربى فى أبهى صوره، يقابله تصاعد نفوذ اللوبى الصهيونى، وسيطرته على مفاصل صنع القرار فى عدد كبير من الدول ذات الثقل والتأثير السياسى والاستراتيجى فى العالم.
ووسط هذه البراكين المتفجرة بالمخططات المشتعلة، فإنه يقع على عاتق الشعوب مسؤولية رفع منسوب الوعى بهذه المخططات، فتتماسك وتحافظ على أوطانها، مستقرة وآمنة، قادرة على مجابهة المخاطر، وإحباط المؤامرات من المنبع.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة